صحافيان يعتقلان من داخل نقابة الصحافيين في يوم الصحافة العالمي، في سابقةٍ جديدة لنظام السيسي (الذي يبدو كأنه أدمن الركض وراء السوابق التاريخية في مجال الخيبة الثقيلة) فيكسر بذلك خطاً أحمر آخر، قاني الحمرة، ويتعدى على محرمٍ جدي؛
وكما هو متوقع فقد كان لذلك الاقتحام الفظ الغشيم آثارٌ مدوية، حيث تضامنت وسائل الإعلام والصحافة العالمية، معبرةً عن هلعها واستنكارها من ذلك السلوك المجرم الفاضح للنظام، وإذا تبينا أن هذين الصحافيين كانا يعترضان على تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافــير، فإن المشكلة لا تزداد إلا تعقيداً، مؤكدةً في حقيقة الأمر على أن حلقات التخبط والفشل مترابطة يجر بعضها بعضا.
إضافةٌ جديدة للرئيس السيسي، فقد عرفت مصر أنواعاً من الصراع بين الصحافة والحكومات في تاريخها الحديث، خاصةً بعد 23 يوليو، ما بين صريحٍ ومستتر، إلا أن تعدياً صارخاً كذلك بالجملة على حرم الصحافة لم يحدث من قبل، حتى في أعتى عهود القمع، فقد كان النظام في ما قبل يدرك حاجته إلى الصحافيين لتسويق نفسه وتحسين صورته وتجميلها؛ لذا فإن كثيراً من الناس من كتلة الأرض الوسط، تلك الجمهرة الأكثر عدداً المتنازع على كسب ولائها، ممن لا يعارضون النظام لأسبابٍ مبدئية ولا يدافعون عنه باستماتة، أفراد هذه الكتلة لا يملكون سوى أن يسألوا أنفسهم بين أنفاس القلق: ما هذه السلسلة من الحماقات؟ ولماذا؟
قد يخدعون أنفسهم هرباً من التفكير في احتمالاتٍ مزعجة تم حشدها تحت عناوين من عينة «الفوضى» و»انهيار الدولة»، والصيغة الأكثر ذيوعاً والبعبع الأشهر «مصير سوريا والعراق»، إلا أن القلق والتساؤلات أعصى من التبخر، فهي محورية وملحة تأبى الانصراف، تساؤلاتٌ عن المستقبل، وما يحمله في ظل توفر شواهد على المزيد من المشاكل والانهيار الاقتصادي وتزايد القمع وتحلل الدولة.
غير أنني أرى أن تلك المعارك التي يخوض المشير جبهاتها واحدةً وراء الأخرى كاشفة تماماً عن توجهات النظام ونواياه وانحيازاته، كما أنها تقوم بمهمة مزدوجة: أولاً، إنها تعيد طرح سؤالٍ قديم ـ جديدٍ، دأب البعض على السخرية منه في سنوات الخمود والانكفاء والردة، تعيد طرحه بإلحاحٍ يعيد الاعتبار للتاريخ والتنظير: ما هي طبيعة هذا النظام؟ وما هي سمات المرحلة الأساسية؟ وثانياً فإن تلك المعارك بتواترها وخطورتها، وطبيعة القضايا التي تتناولها، والأطراف المشاركة فيها، تقدم الإجابة على هذا السؤال.
لم يسقط نظام مبارك ولا يحزنون، وغاية ما هنالك أنه تخلص من الرجل الهرم بعد أن تحرك الشعب ضده، نتيجة لعوامل موضوعية متجذرة في أرض الواقع، بتفاوتاته واستغلاله وقمعه، آثر النظام التضحية بـ»صاحب الضربة الجوية الأولى» والحفاظ على نفسه، بانحيازاته ومصالحه، وتم تقديم رجلٍ آخر من المؤسسة التي جرى العرف وتوافقات القوى على توريدها لكوادر النظام الإدارية والأمنية، دُفع به إلى صدارة المشهد بإخراجٍ مسرحيٍ يضفي أكاليل الغار ومخايل البطولة الأسطورية المقتبسة والمستوحاة من بطولات الماضي المزعومة المختلقة أسطورياً هي الأخرى بالمناسبة، بيد أن المفاجأة غير السارة الأولى تمثلت في ضعف الأداء وشح الموهبة، في مواكبةٍ لانعدام الكفاءة في شتى مرافق الدولة ومؤسساتها، ولم تتخلف عنها المفاجأة الأخرى بكثير، حيث صدق الرجل الأسطورة، ولعبت أوهام البطولة المنقذة برأسه، فصار يعبر في تصرفاته وأحاديثه وتصريحاته المرتجلة عن مزيجٍ مزعجٍ من جنون العظمة والعصاب والبارانويا.
لكن يبقى أهم ما في الأمر في رأيي تلك الخدمة التي أزجاها لنا السيسي ونظامه بذلك الزخم من المعارك والتعليقات، فهم يتكلمون ونحن نرى، نرى خواءً وإفلاساً، نرى نظاماً يرتكن إلى طبقةٍ رثةٍ مفلسة، صادرت المجال العام طيلة ما يقارب الستين عاماً وقمعت معارضيها وأجهزت على أي محاولاتٍ للتنظيم السياسي الجاد، حتى جرفت السياسة، والنتيجة أنها في غيبة أي تحدٍ سياسي داخلي أو خارجي، بعد استسلام كامب ديفيد والقفز على عربة أمريكا، فإن هذه الطبقة عدمت أي حافزٍ على تطوير نفسها، اعتمدت القمع والحلول الأمنية لكل مشاكلها، فأجدبت وذبلت هي الأخرى، حتى وصلنا إلى ما نراه الآن من إفلاس كوادرها، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إنها في عدائها «للثقافة والمثقفين» لم تكتف بإطلاق التيار الإسلامي، الذي تعرف كيف تتعايش معه على الساحة السياسية، بل فتحت له المجال ليجتث أي مفاهيم أو نظرياتٍ بديلة، لنصل إلى المأزق الذي كنا محشورين فيه عشية 25 يناير. إنك أمام السيسي ورهطه حين يتحدثون عن الدولة، مراراً وتكراراً، وضرورة الحفاظ عليها لا تملك سوى أن تتساءل: ماذا تعني هذه الكلمة لهم بالضبط؟ ماذا يفهمون من كلمة دولة ؟
صادقاً واثقاً أؤكد: هم لا يملكون تصوراً واضحاً لما تعنيه هذه الكلمة وكيفية نشأتها وسياقها التاريخي، وأتحدى لو أن أياً منهم استطاع أن يحدد أو يأتي بجوابٍ يوافق جواب أخيه! الدولة في وعيهم صنم، ماهية غامضة تحيل إلى معاني السيطرة وقبضة الأجهزة الأمنية بالأساس، النظام والضبط والربط بمفهومهم العسكريتاري الغث المكتسب من مؤسسةٍ عسكرية لدولةٍ مترهلة، السيسي وضباطه والطبقة الحاكمة لديها تصوراتٍ ومفاهيم ما بطبيعة الحال، لكنها مستقاة في مجملها من تلك المهيمنة في المجتمع من سقط متاع القمع والغيبيات، عبر حقب الانحطاط ومعاداة الثقافة لاعتبارات السيطرة التي أسلفنا، هم لا يفهمون قيمة الديمقراطية والتعددية وإدارة الصراع السياسي، لأن كل الصراعات الداخلية تحل لديهم بالهراوات وضرب الأحذية والسجون، للحفاظ على «الدولة»، والصحافة في نظرهم إن لم تكن مطبلةً راقصةً فهي مصدر إزعاج.
ليس لدي أدنى شك في كون ذلك التصعيد يدل على توتر النظام، فحالة الاقتصاد مزرية ولا تعد بتعافٍ عاجل، وبيع الجزيرتين للسعودية أثار موجة غضبٍ عارمة لم يحسبوا لها حساباً. ما يحدث الآن يعدو كونه رد فعلٍ على الغضب الشعبي، إلى محاولةٍ لتوسيع حدود العنف وابتذاله، ليزداد الدم رخصاً، لتسقط الحرمات وتترسخ لدى الناس رسالة جديدة مفادها، أنه لا توجد اعتبارات وخطوط حمراء يقف أمامها النظام، ليس ثمة ضمانات، ولا أحد أكبر من الضرب والسجن وإطلاق حثالة أوباش المدينة، نتاج استغلال النظام، على كل من تسول له نفسه النطق بـ»لا « لينهشوه.
بيد أن السيسي لا يبدو عليه أنه يدرك أنه بقراراته وقمعه يؤذي نفسه، فهو يقوض أسس أي مشروعية، ويزيل عن نظامه أي مخايل وطنية قد يكون متلفعاً بها، ليقابل الناس والعالم عارياً نازعاً عن الصيغة الحاكمة صفة القبول والإقناع، ومسقطاً صنمية الدولة الأدرى التي «تعرف ما تفعل وتدرك كل شيء»، ليس فقط لأن ثورته المضادة هي التي تحرق المراحل وبسرع مذهلة، وإنما لأنه بتنازله عن الجزر وصداماته يؤكد أن اهتمامه الأساسي يكمن في إتمام مشروع سيطرة النظام على مقاليد الحكم والدولة، لمصلحة الطبقة الحاكمة في الأساس، كما أنه بعنفه المفرط العالي الوتيرة كسر صيغة الجمود تلك التي ضمنت لمبارك حكمه الطويل، وليس أدل على ذلك من وفود التضامن النقابي مع الصحافيين.
في حمى التصعيد وشهوة القوة والتدمير سيستمر السيسي ونظامه، وله في رقبتي كلمة شكر، أولا على مستوى شخصي لأنه لا يكذبني، حين تنبأت في عدة مقالات سابقة بتزايد العنف. وثانياً لأنه بسلوكه يقدم أكبر خدمة لمعسكر الثورة، فهو من ناحية يعري النظام كاشفاً كل قبحه ومحطماً كل أوهام عن التوافق، ومن ناحيةٍ أخرى يفضح إفلاسه وفقر خياله.
فيقيناً أن نظاماً كذلك، هو سبب المشكلة وموضوعها ونتيجتها، لا يملك حلولاً لمشاكل مصر العالقة، التي تسبب فيها بالأساس. طالب الصحافيون بإقالة وزير الداخلية، لن أزايد عليهم، ولكن مطلباً كذلك هو تجلٍ آخر لفكرة أن الرئيس جيد ومن حوله هم «الأشرار»، وأنهم يتآمرون على الرئيس للوقيعة بينه وبين الناس، كفانا أوهاماً، المشكلة ليست مشكلة وزير، وإنما مشكلة نظام، ولا يجرؤ أحد على تصعيدٍ كذلك، بدون أمرٍ مباشرٍ من الرئيس، في نظامٍ كل ما فيه لا يعدو كونه انعكاساً لشخص الرئيس وتصوراته ورغباته.
لقد تقوضت سردية النظام ولم يبق سوى العنف حلاً في غيبة الإنجازات الاقتصادية ذات العائد والإصلاحات السياسية الحقيقية،لا أستطيع أن أتنبأ بمعركة النظام المقبلة ولكنها آتية لا محالة، فقد نفدت جعبة الأحلام والمعجزات التي كان الرئيس يبيعها للناس، واللعب على المكشوف يزداد يوماً بعد يوم.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
السيسي إشترى بعض الأقلام قبل الإنقلاب وبعده, والآن هو ليس بحاجة لها أو تمردت عليه فباعها بأرخص الأثمان
ولا حول ولا قوة الا بالله
القبض على الصحفيان لم يكن بسبب اعتراضهما على الجزيرتين فكثير من الصحفيون ابدوا اعتراضهم على الجزيرتين و كثير من رجال الاعلام في قنوات التلفزيون المصري المختلفة ابدوا أيضا اعتراضهم علانيه و لم يتعرض لهم احد .
المشكلة كلها كانت في تحريض الاخرين على التظاهر مع الدعوة لاستخدام العنف مع البوليس اذا لزم الامر مما يشكل خرق واصح لقانون التظاهر حتى لو اختلفنا مع هذا القانون .