أحد الأسئلة الأساسية التي تطرحها الفلسفة هي: هل المجتمع في أساسه تجمع مجموعة من الأفراد، لا أكثر ولا أقل؟ أم أن الأفراد تخلقهم مجتمعاتهم التي يعيشون فيها؟ هذا سؤال مرتبط مباشرة بحرية الإنسان: هل يمارس حريته كفرد مستقل، حسب قناعاته العقلية والضميرية، أم أنه يمارس حريته حسبما يقوله المجتمع أو ما يسمح به؟
لنحاول فهم الموضوع من خلال نتائج الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت منذ بضعة أيام في لبنان. إن غالبية الشعب كانت غير راضية، بل ساخطة ومصابة بالقرف والإحباط، بسبب عدم كفاءة البلديات في قيامها بمهماتها المجتمعية. ووصل عدم الرضى ذاك إلى قمته في مظاهرات جماهيرية صاخبة، بسبب أزمة جمع القمامة والتخلص منها، الشهيرة، عندما امتلأت شوارع مدن وقرى لبنان بالقمامة وروائحها الكريهة. كرد فعل لتلك الأزمة كان من المفترض أن تُخرِج نسبة هائلة من الشعب اللبناني لتصوت، وتُخرِج كل أعضاء المجالس السابقين، وتأتي بوجوه جديدة نظيفة كفؤة. لكن ذلك لم يحدث، فنسبة المنتخبين كانت هزيلة، والتصويت ذهب لصالح قوائم الأحزاب المتهمة بالفساد والطائفية وخدمة العائلات الغنية المتنفذة.
لقد أثبت ذلك المشهد اللبناني، وهو مثل واحد من مئات الأمثلة العربية المماثلة، أن غالبية الأفراد اللبنانيين لم يتصرفوا كأفراد أحرار مستقلين خاضعين لعقولهم وضمائرهم، وإنُما تصرفوا كنتاج لما تمليه ثقافة مجتمعهم الطائفية العشائرية الخاضعة في قيمها لمصالح أقليات المال والوجاهة الطائفية والعائلية في المجتمع اللبناني. لقد ضرب الفرد اللبناني بعرض الحائط مشاعره الشخصية وآماله المجتمعية ومواقفه الغاضبة السلبية تجاه طبقة الحكم السياسية، التي عبر عنها في مظاهرات بيروت الصاخبة الرائعة منذ بضعة شهور، واستبدلها بالخضوع لإملاءات الطائفة والحزب وزعيم المنطقة وبممارسة انتهازية للسياسة.
في لبنان، كما في كل الأرض العربية، نحن إذن أمام مجتمع ينتقد سلطة الحكم في بلده ليل نهار، ويخرج عليها أحيانا بالمظاهرات والاعتصامات وأحيانا بالسلاح، لكنه يظل في كل المناسبات ممارسا لعادات وسلوكيات بدائية متخلفة، تزيد في بؤسه وعجزه وهوانه أمام سلطة حكم الدولة. إنه مجتمع يتكلم عن الحرية، ولكنه لا يمارس متطلبات وجودها، ينتقد الفساد ولكنه لا يقاومه في داخله، يتكلم ويثرثر ويطلق النُكات عبر التواصل الاجتماعي ولكنه لا يقلبه إلى فعل سياسي، حتى عندما يحصل على فرصة لعمل ذلك. لا نعني بذلك الحكم القاسي على مجتمعاتنا تبرئة أنظمة الحكم التي تضع العراقيل تلو العراقيل، عبر السنين والقرون، أمام نضوج المجتمعات ومؤسساتها المدنية، فقد كتب الكثير عن تلك العراقيل. لكننا معنيون بالتذكير بأن الدولة هي مكونة في الأساس من مجتمع وسلطة حكم.
ولما كانت سلطات الحكم مليئة بالمثالب ونقاط الضعف، فإن الدولة العربية لن تخرج من ضعفها وفشلها التنموي وخضوعها للخارج وعجزها عن ممارسة العقلانية والعدالة والتجديد والانخراط في العصر، لن تخرج إلا إذا قام المجتمع، ممثلاَ في الأساس بأفراد ملتزمين ومؤسسات مدنية نشيطة وفاعلة، بمسؤولياته تجاه دولته. مسؤولية المجتمعات العربية في إخراج دولها من الجحيم الذي تعيشه الآن، أصبحت مسؤولية تاريخية ثقيلة ومعقدة، ولكنها ملحة ومصيرية.
لكن المجتمعات التي لا تستطيع أن تثور على نفسها، على نقاط الضعف فيها، على كل تخلُف في ثقافتها، على كل تراث بليد استلمته من تاريخها، حتى تخلق أفرادا أحراراَ جديدين فاعلين، فان تلك المجتمعات ستضيف عجزها إلى عجز الحكم العربي التاريخي، والعجزان سيقودان إلى دول فاشلة كسيحة، كما نراها الآن ماثلة أمامنا عبر الوطن العربي، إذ يعيش بؤسا تاريخيا لم ير مثيله.
لنتمعن في غياب المجتمعات، القادرة الفاعلة المتحررة من بلادات ثقافتها وسلوكياتها وعاداتها، في فلسطين وهي تواجه الصهيونية المغتصبة، في الدولة الليبية وهي تصارع الموت والاندثار، في دولة سوريا وهي تنزلق نحو أن تصبح جيفة مهترئة، في دول المغرب العربي وسلطاته لا تملُ من التلهي بموضوع الصحراء وعدم التقدم ولا بخطوة واحدة نحو اتحاد مغاربي حقيقي غير صوري، في دولة مصر وهي تواجه الإرهاب والدمار الاقتصادي وإمكانية الرجوع إلى الاستبداد الأمني، في دولة العراق وهو يواجه التقسيم والنهب والجهاد التكفيري بأدوات سياسية طائفية فاسدة تراوح مكانها، وباستجداء بائس للخارج ليخرجه مما هو فيه، في دولة اليمن وهي ترى تضحيات شعبها لتحرير دولته من الاستبداد والفساد تذهب هباء في صخب مداولات لا تنتهي في الكويت. الأمثلة كثيرة حيث في كل مكان يلعب اللاعبون الخارجيون بتناغم مع سلطات الفساد في الداخل، بينما لا يشعر الإنسان بأن هناك مجتمعات لها كلمة وإرادة تنظيم في فعل وليس في بكاء أو حسرة أو وقوف المتفرج أو في قبول أن تصبح هي، المجتمعات، أدوات في يد القوى الطائفية أو القبلية أو العسكرية أو المالية أو حتى الخارجية. المجتمعات، كأفراد ومؤسسات، تحتاج أن تراجع ما فعلته هي بنفسها لتنتقل إلى ما يجب أن تفعله لإنقاذ نفسها وإنقاذ دولها.
هناك قول لسياسي بريطاني: المجتمع يحتاج لأن يصدر أحكاما أكثر ويتفهم أقل. المجتمعات العربية تحتاج أن تمارس ذلك ليس فقط بحق سلطات دولها وإنما أيضا بحق نفسها كجزء أساسي من تلك الدول.
٭ كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو
…تكملة
العولمة وأدواتها التقنية عرّت الازدواجيّة، في تناقض المواقف، بشكل واضح في طريقة تعامل النظام البيروقراطي للأمم المتحدة، تحت مسمى الحداثة أو ثقافة الـ أنا، وخير مثال على ذلك قضية فلسطين وسوريا والعراق وليبيا، إلى أن وصلت إشكالية دولنا في عام 2015، هو إيجاد وظيفة للمواطن، دخلها يكفي لإعالة أسرة بكرامة، وإلاّ سيهاجر، بسبب ثقافة الـ أنا للنظام البيروقراطي، التي تجعل الموظف لا يرى إلاّ نفسه، فما دام هو لديه وظيفته وآخر الشهر يأتيه راتبه، فليذهب بقية الشعب إلى جهنم، إن لم يكن هو سبب إشكالية النظام ويعمل على إفلاسه كما هو حال اليونان أو انهياره كما حصل مع الاتحاد السوفيتي، مشروع صالح لمن يرغب في حل، من خلال تطويع الآلة لتحسين العلاقة مع المواطن من خلال عولمة الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات لها.
أظن لتحقيق أفضل عائد لرؤية المملكة 2030 على الوزير ومن حوله من قيادة الوزارة وكُتّاب المناهج وتعريف الوظائف، لجميع موظفي الوزارة استيعاب التقنية أولا، لإعادة صياغة واجب الوظيفة لكي تستفيد من التقنية الاستفادة القصوى لتقديم افضل خدمات للمواطن في أبعد قرية في الدولة بنفس كفاءة وجودة الخدمات في مقر الوزارة، حتى لا يتحول موضوع الحوكمة الرشيدة وترشيد المصاريف إلى كيفية تحل الآلة بدل الإنسان في الوزارة لتخفيض بند الرواتب في الميزانية، عندها تكون التقنية متسببة في كوارث اجتماعية، بدل أن تساعد الدولة لزيادة انتاج الموظف لكي تعمل على زيادة دخله وبالتالي دخل الأسرة/الشركة/الدولة، ولذلك يجب البداية بدورة (مشروع صالح) لعولمة الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات إليها، لإضافة لمسة إنسانية على التقنية.
ما رأيكم دام فضلكم؟
يا د علي محمد فخرو، أنت تمثل الطبقة الحاكمة، فقد أصبحت وزير في أكثر من وزارة، ومع ذلك ترفض مناقشة الموضوع إلاّ من خلال أسلوب إياك أعني واسمعي يا جارة، فيما يخص دول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال لا الحصر، لماذا لم تناقش مشكلة الكرسي؟ لماذا لم تناقش مشكلة النظام البيروقراطي نفسه؟ فمشكلة الصراع ما بين الرجل والمرأة على كرسي الوظيفة، سببها لأن الدولة تعتمد المواطن وليس الأسرة كأصغر وحدة في المجتمع، والإرهاب سببه رفض لغة الحوار من قبل صاحب السلطة.
أنا لاحظت من الحوار مع الـ آخر، أنَّ العزوبية أو التخلف علامته النظرة الضيقة، والخبث علامته الاصطياد في المياه العكرة، والتحشيش بحجة أن له علاقة بالأدب الساخر، هي إشكاليات مناقشة أي موضوع، وسببها كما لاحظته هو ثقافة الـ أنا، والتي هي نتيجة طبيعية لمناهج التعليم في النظام التعليمي، لإنتاج موظف جاهز لكي يكون مفاوض جيّد، وسلاحه هو الرد لأجل الرد أو الاعتراض لأجل الاعتراض، وبهذه الطريقة لن يستطيع إيجاد شريك له في الحياة لتكوين اسرة، رجل كان أو امرأة، وفي عصر العولمة وأدواتها التقنية دخلت الآلة الآن لتنافس الرجل والمرأة على الوظيفة، لو كان المسؤول يفهم موضوع ترشيد مصاريف الدولة، من خلال الاستغناء عن الإنسان في الوظيفة وابداله بالآلة بحجة انها أرخص، خصوصا مع وجود الأزمة الاقتصادية؟!
…يتبع
…تكملة
أظن لتحقيق أفضل عائد لرؤية المملكة 2030 على الوزير ومن حوله من قيادة الوزارة وكُتّاب المناهج وتعريف الوظائف، لجميع موظفي الوزارة استيعاب التقنية أولا، لإعادة صياغة واجب الوظيفة لكي تستفيد من التقنية الاستفادة القصوى لتقديم افضل خدمات للمواطن في أبعد قرية في الدولة بنفس كفاءة وجودة الخدمات في مقر الوزارة، حتى لا يتحول موضوع الحوكمة الرشيدة وترشيد المصاريف إلى كيفية تحل الآلة بدل الإنسان في الوزارة لتخفيض بند الرواتب في الميزانية، عندها تكون التقنية متسببة في كوارث اجتماعية، بدل أن تساعد الدولة لزيادة انتاج الموظف لكي تعمل على زيادة دخله وبالتالي دخل الأسرة/الشركة/الدولة، ولذلك يجب البداية بدورة (مشروع صالح) لعولمة الحوكمة الرشيدة بإضافة بُعد اللغات إليها، لإضافة لمسة إنسانية على التقنية.
ما رأيكم دام فضلكم؟