أَذكر منذ ايام طفولتي المبكرة في بلدي، سخنين، في الجليل الفلسطيني، عددا وافرا من الحِكَم والامثال والاقوال الماثورة. واحدة منها تقول كلماتها: «جابوا الخيل ليحذوها، أَجا الفار ومد إيدو». و»ترجمة» المَثَل إلى لغة مفهومة للجميع هي: «أَحضَر اهالي القرية خيولهم، من أحصنة وأفراس، إلى البيطار، (وهو ما يعادل هذه الايام الطبيب البيطري)،لِيَحذيها، أي ليثبِّت باسفل قوائمها حَذَوات، (وهي للبشر حذاء، وبالانجليزية: هورس شو)، فتطاول الفأر، وتخيّل نفسه حيوانا كبيرا كالحصان، ومدَّ احدى قوائمه للبيطار، ليثبِّت له في قاعِها حذوة تحمي جِلد قَدمه، وتُعينه على المشي والركض).
تذكرت هذا المثَل الجليلي، وانا اتابع تطاول رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الشهر الماضي، عندما توهّم ان ارض سوريا «قد أينعت، وحانَ قطافُها»، ولاحظ تكالب «خيول»، من امثال الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، وروسيا الإتحادية؛ وشبه خيول اقليمية، من امثال إيران وتركيا، عندما بدا لهم، او لبعضهم على الاقل، ان تفكك ارض وشعب سوريا الحالي، (والذي سيزول، حتماً، رغم ما قد يبقي من اثر طعمه المُرّ لسنوات، او حتى إلى عقود)، على تقاسم ارض وشعب سوريا، فاسرع هو، برعونة اسرائيلية معهودة، إلى الاعلان اثناء زيارة «تفقدية» للجولان، محاطا بعدد من ضباط وجنود جيش الاحتلال الاسرائيلي، (وهنا لاحظ كثير من الصحافيين انه لم يصطحب وزير الدفاع في حكومته، ولا رئيس اركان جيشه، هادفا من ذلك، الاستئثار، بان يسجل لحسابه وحده فقط، «منافع» القرار السياسي الذي اعد المسرح جيدا ليعلنه. فماذا قال السيد نتنياهو؟. قال: «الجولان جزء لا يتجزأ من دولة اسرائيل،…وبعد خمسين سنة آن الأوان لأن يستوعب المجتمع الدولي حقائق الواقع على الارض، ويعترف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان». ثم الحق ذلك بقرار عقد جلسة للحكومة في الجولان، (مستوطنة معاليه غملا)، وذلك لاول مرة في تاريخ جلسات الحكومات الاسرائيلية،، وعزز هذه الخطوات بترتيب زيارة خاطفة لروسيا، ولقاء الرئيس بوتين، وحرص على تسريب خبر عما تم في ذلك الاجتماع، يقول انه ابلغ بوتين بان «الجولان خط احمر» (!!!) بالنسبة لاسرائيل.
الى هنا دور نتنياهو في هذه المسرحية، «مسرحية مد اليد». فماذا عن ادوار الآخرين؟.
لن اتطرق، في هذا المقال، إلى مواقف اهالي الجولان والسوريين والفلسطينيين وكل الشعوب والدول العربية، ولا لمواقف «الخيول» الاقليمية غير العربية، من نتنياهو وسياساته وادواره في هذه المسرحية وغيرها. وساحصر التركيز هنا في ردود وادوار «الخيول الحقيقية» الفاعلة على الصعيد الدولي.
لعل اول ما يلفت الانتباه حول ما نحن بصدده، هو الحِدّة الواضحة، والسرعة الكبيرة، في ردود افعال أمريكا والمانيا، ومن بعدهما الاتحاد الاوروبي، واخيرا روسيا الاتحادية. أمريكا والمانيا اعلنتا خلال اقل من 24 ساعة من تصريح نتنياهو عن رفضهما له. وخلال اليوم التالي، اعلنت فيدريكا مورغيني باسم دول الاتحاد الاوروبي الـ 28 ان «الاتحاد الاوروبي يعترف فقط بدولة اسرائيل حسب خطوط، (ولم تقل «حدود»)، 1967، ولا يغير في الامر شيئا ما تعلنه اسرائيل بخصوص مناطق اخرى». ونلاحظ هنا بالطبع كشف المجتمع الدولي لما يحاول نتنياهو ان يمرره خلسة، حيث يتحدث هو علنيا عن الجولان، ولكن عينه على اراضي الضفة الغربية بالطبع، وهي المنكوبة بالاحتلال الاسرائيلي فترة طويلة(!) من الزمن، هي خمسين سنة «عبرية»، تلغي قرونا من سنوات «عربية» وألفيّات من سنين «كنعانية». ومن هنا يُفهم مقصد موغريني بتعبير «مناطق اخرى»، وعدم حصر المسألة بالتصريح حول اراضي «الجولان» وحده.
اما سبب تأخر صدور رد روسيا على تصريح نتنياهو، فهو على ما يبدو، رغبتها، لاسباب تتعلق باللياقات الديبلوماسية، في عدم افساد اجواء اللقاء في الكرملين مسبقا قبل الزيارة الخاطفة ولا اثنائها. ولكن عندما جاء هذا الرد يوم 22 نيسان/ابريل الماضي، كان بالغ الوضوح، حيث تجاهل الناطق باسم الكرملين تطاول نتنياهو و»الخط الأحمر» الذي رسمه لروسيا، وقال: «لم يحصل أي تغيير في الموقف الروسي حول كل موضوع الصراع في الشرق الاوسط، بما في ذلك الجولان». ولم يتوقف الامر عند هذا التوضيح فقط، بل اتبعه بتوجيه لطمة لسياسة نتنياهو، تمثلت باعادة التذكير بقرار مجلس الامن رقم 497 الخاص بالجولان، والذي صدر في العام 1981، اثر قرار حكومة مناحيم بيغن ضم الجولان إلى اسرائيل، هذا القرار الذي جاء نتنياهو هذه الايام لاعادة انتاجه.
لقد باءت جميع محاولات بعض الدول، الاستيلاء على اراضي دول اخرى بالقوة ونتيجة حروب واعمال عسكرية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. ولعل المثال العربي الاوضح، هو محاولة ضم الكويت إلى العراق، وما نتج وينتج عنها حتى الآن من كوارث للعراق وشعبه. وعلى الصعيد الدولي نذكر فشل حكومة جنوب افريقيا في ضم ناميبيا وفرض سيادتها على اراضيها، وكذلك فشل اندونيسيا في «ابتلاع» تيمور الشرقية، وغير ذلك من الامثلة الاقل اهمية،لأنها لم تتم عمليا، وبقيت مجرد تهديدات واضحة او مبطّنه، كما هو حال ماليزيا وجارتها بروناي، الصغيرة الغنية.
يبقى بعد ذلك الاعتراف: كلما ذُكِرَت كلمة «الجولان» امامي، تذكرت نقاشا دار بين مجموعة مثقفين في بيروت، عام 1972، كان من حسن حظي حضوره. بدأ ذلك النقاش في مقهى «الهورس شو» في شارع الحمراء، الذي كان في حينه العنوان «النهاري» لحلقات ولقاءات النخبة في لبنان، في حين يمثل مقهى الـ «دولتشي فيتا» على الروشة، العنوان «الليلي» لتلك اللقاءات. في ذلك اللقاء النّهاري، طرح احد الحضور موضوع معاناة من بقي من اهالي قرى و»مدن» الجولان، من «جيش الاحتلال الاسرائيلي». وهنا اطلق الشاعر العربي العراقي الكبير، عبد الوهاب البياتي، الذي كان حديث القدوم إلى بيروت، بعد ان انهى مرحلة اقامته في القاهرة، لاجئاً سياسياً، «قنبلته»، بلهجته العراقية المحبَّبة، عندما قال: «عيني…اهالي الجولان معتادين على المعاناة.. الآن هم يعانون من جيش الاحتلال الاسرائيلي، ومن قَبْل كانوا يعانون من «جيش الاحتلال… السوري»(!!)، كلُّها، كل جيوش المنطقة جيوش احتلال، من بداية مرحلة العهد العثماني قبل اربعمئة سنة، وعهد الانتدابين البريطاني والفرنسي، وصولا إلى «عهد الاستقلال» وانتهاء لما نحن فيه من احتلال اسرائيلي، جميعها دون استثناء، جيوش احتلال». وهنا تسابق كثيرون من المتحلِّقين حول طاولة «الهورس شو»، في الرد على الشاعر البياتي، وكان الأوّلان هما الصديقان حسين حلّاق، (السوري الاسماعيلي، من السّلًمِيّة، العاصمة الروحية للاسماعيليين، وهو قومي وناصري، و»بطل» ثلاث محاولات انقلابية فاشلة: اثنتان في سوريا وثالثة في العراق، وبعدها لجأ إلى مصر، وربطته علاقة شخصية، مع الرئيس المصري الخالد جمال عبد الناصر)، ومُنَح (بك) الصُّلح، (احد اذكى من عرفتهم، ابن شقيق رياض الصلح، اول رئيس لحكومة لبنانية في عهد الاستقلال، الذي اغتالته عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي اثناء زيارة له إلى عمّان، في تموز/يوليو 1951)، بأن جيش مصر ليس جيش احتلال. وبعد اخذ ورد من جميع المشاركين في الحوار، تم التوصل، في اللقاء الليلي في الـ»دولتشي فيتا»، إلى صيغة ان «غالبية» الجيوش العربية، (في ذلك الزمن العربي الرديء، وربما هذا الزمن العربي الأكثر رداءةً)، هي جيوش احتلال.
صحيح ان الجولان يعاني من الاحتلال الاسرائيلي. وصحيح ان «جيش سوريا» ليس جيش سوريا، بل هو جيش الرئيس السوري بشار الاسد، الذي دمره، ويحاول، بما تبقى منه، ان يعيد سيطرته، بل و»احتلاله» للمناطق التي تمردت على طغيانه، وربما ايضا لمناطق سقطت بيد عصابات متخلفة مجرمة استقدمها هو، ليشوِّه بها صورة الوطنيين السوريين الثائرين عليه وعلى نظامه الدموي، ولكن هذا لا يعني باي حال تمكين اسرائيل من الاصطياد في الماء والدم السوري الذي عكّره بشار الاسد.
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور