أمل دنقل وديمقراطية الشكل الشعري

حجم الخط
7

قد يكون مفيداً، بين حين وآخر، أن يخرج الحوار حول قصيدة النثر العربية المعاصرة من ثنائية الدفاع مقابل الهجوم، من جانب الأنصار والخصوم؛ إلى خيار ثالث يسعى إلى عقد «هدنة» من طراز ما، تتيح تلمّس الصلات بين هذه القصيدة وأشكال أخرى في الكتابة الشعرية، تفعيلية وموزونة عموماً؛ لا يلوح ـ للوهلة الأولى، على الأقلّ ـ أنها يمكن أن تهادن شكل قصيدة النثر. في عبارة أخرى، هل يجوز الحديث عن أثر إيجابي، وتطويري، مارسته تجربة الشاعر المصري الكبير أمل دنقل (1940 ـ 1983) على أصوات قصيدة النثر المصرية المعاصرة، رغم موقف الراحل السلبي عموماً من هذا الشكل الجديد؟
في حوار أجرته اعتماد عبد العزيز، ونشرته مجلة «إبداع»، سنة 1984، كان دنقل، الذي مرّت يوم 21 من هذا الشهر ذكرى رحيله، قد سُئل عن رأيه الصريح في قصيدة النثر، فقال: «إذا كان الإيقاع عنصراً هاماً جداً من عناصر التوصيل بين الشاعر والقارئ، فلماذا نتخلص بأيدينا من هذا العنصر، خاصة إذا عرفنا أنّ الإيقاع في الشعر بالنسبة للأذن العربية والمستمع العربي هامّ جداً؟ وأنا أرى أنّ الفيصل في أي لون أدبي هو الوصول للناس. فهل استطاعت قصيدة النثر حتى الآن أن يكون لها جمهور حتى بين المثقفين؟ هل استطاعت أن يكون لها خصائص فنية مستقلة عن القصيدة الحديثة؟ لا أعتقد أنها فعلت ذلك».
الأرجح أنّ الراحل كان، مثل العديد من الشعراء والنقّاد آنذاك، يراهن ضمنياً على أنّ شكل قصيدة النثر لن يعيش طويلاً، أو أنّ هذه القصيدة سوف تبقى حكراً على عدد محدود من الشعراء الذين شرعوا في كتابتها منذ أواخر الخمسينيات (أمثال محمد الماغوط وأدونيس وتوفيق صايغ بصفة خاصة)؛ ولن يكون لها حظّ عند الأجيال الشابة من الشعراء. ولقد تبيّن، بالطبع، أنّ موجة هذا الشكل لم تكن عابرة بل عارمة، فلم ينقضِ وقت طويل حتى تسيّدت أشكال كتابة الشعر في مستوى الكمّ، وبات من النادر اليوم أن نعثر على صوت شابّ جيّد يكتب قصيدة التفعيلة، فما بالك بعمود الخليل!
ولقد سبق لي أن ساجلت بأنّ تطوّر مشروع دنقل الشعري كان كفيلاً بتحقيق مقدار متقدّم من «ضبط التوازن» المطلوب بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، إذا جاز الحديث عن هذا الطراز من التوافق في التجارب الإبداعية والجمالية، وفي حياة الأشكال الشعرية بصفة خاصة.
وكنت، وأظلّ، أرى أنّ شعر دنقل يشكّل حليفاً طبيعياً لبعض أصوات قصيدة النثر العربية المتميّزة الراهنة؛ فكيف لو أنّ الشاعر بقي على قيد الحياة، وارتقت شعريته إلى مصافّ أعلى، كما في وسع المرء أن يرجّح بقوّة، واتسع نطاق موضوعاته، واغتنت تشكيلاته الإيقاعية؟
وكما أنّ قصائد محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس (حين يكتب التفعيلة) تظلّ حليفة قصيدة النثر العربية، وليست البتة خصمها اللدود، القريب أو البعيد؛ فإنّ قصائد دنقل كانت ستأخذ المنحى ذاته، داخل المشهد المصري تحديداً. وأغلب الظنّ أنّ آراء الراحل حول موسيقى الشعر والوزن والإيقاع، والتي قد تبدو اليوم محافظة أو متشددة، كانت ستشهد تحوّلات ملموسة بفعل التطوّرات الكبرى التي شهدتها نظرية الشعر في عصرنا. وهذا استنتاج لا ينهض من فراغ، إذْ ثمة في أحاديث دنقل وأفكاره النقدية سلسلة مواقف تقدّمية، وآراء ديمقراطية مرنة، إزاء أشكال كتابة الشعر.
والراحل يقول، في حوار نشرته «فصول» سنة 1981: «الشعر الجديد لم يكن ثورة موسيقية، ومن هنا فإنّ مسألة إيقاع، وموسيقى العصر، مسألة أخرى تماماً. وما أراه أنّ الشعر الجديد هو خروج بالبناء الشعري من إطار الموسيقى إلى الإطار التشكيلي أو التصويري. وهذا التطوّر في الشعر كان يجب أن يتمّ منذ سنوات طويلة، وقد جاء نتيجة لأنّ القصيدة بعد أن كانت محفلية، أو مسموعة، أصبحت مقروءة. وقد كان يجب أن يتمّ هذا التطوّر في الشعر في عصر النهضة وظهور الطباعة وانتشار المجلات والصحف. ويترتب على ذلك إلغاء اللوازم الموسيقية المتعلقة بالسمع، أو بالأذن العربية، واعتماد القصيدة على الوسائل البصرية، وهي الأقرب إلى التشكيل».
هل يتوفر شاعر واحد، يكتب قصيدة نثر ناضجة، يمكن أن يعترض على هذا الكلام، أو يرى أنه لا يمثّله، نظرياً في الأقل؟ أليس شيوع «قصيدة التفاصيل» و«القصيدة اليومية» هو نوع من مصالحة «نثر الحياة اليومية»، وهو مادّة قصيدة النثر في نهاية المطاف، مع حياة الشارع وشعريات البشر؟ وكيف يصحّ الاعتراض على خلاصة بديهية، مثل هذه التي قال بها دنقل: «التجاوز للواقع يحتاج إلى تجاوز للطرائق الفنية التي يتمّ بها التعبير عن هذا الواقع، واستحداث طرائق بديلة، واستجلاب لمذاهب فنية. أما اللجوء إلى الإيهام بمحاولة تغيير الواقع، [فإنه] الإيهام بالثورة عن طريق ثورة شكلية فقط»؟

أمل دنقل وديمقراطية الشكل الشعري

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فيصل الخطيب الاردن:

    استاذنا العزيز ان ما تريدون ان تطلقوا عليه قصيدة النثر لن يرتقي الى ان نطلق عليه قصيدة لان القصيدة يجب ان تتوفر فيها عدة عناصر من قا فية ووحدة التفعيلة وان كانوا في الشعر الحديث شددوا على وحدة التفعيلة كما في شعر السياب ودرويش وغيرهم اما ان لم يتوفر في القصيدة وحدة التفعيلة فقد انتفت منها صفة القصيدة واصبحت مجرد قطعة نثرية جميلة والنثر لايمكن ان يكون شعرا مثل الابيض والاسود لايمكن ان يكون احدهما كالاخر……وقد يقول البعض ان قصيدة النثر فن جديد في الشعر ونقول ان في هذا الفن الجديد هدم للقصيدة وللشعر وبالتالي للادب وليس تجديدا.

    1. يقول حي يقظان:

      الأخ فيصل،

      كانوا يقولون الشيءَ نفسَه تمامًا على القصيدة التفعيلية مقابل القصيدة العمودية: «ما تريدون أن تطلقوا عليه قصيدة التفعيلة لن يرتقي إلى أن نطلق عليه قصيدة لأن القصيدة يجب أن تتوفر فيها عدة عناصر من وزن وقافية ورويّ ووحدة البيت».

      فإذا كانت كلمة «القصيدة» تُطلق، قديمًا، على أية مجموعةٍ من الأبيات الشِّعريّة متّحدةٍ في الوزن والقافية والرَّويّ ومؤلَّفةٍ من سبعة أبيات أو أكْثر، فقد صارت الكلمة ذاتُها مجرَّدَ تسمية اصطلاحية تُطلق على أية مجموعةٍ مستقلةٍ من «الأسطر» الشعرية (مقابل «الأبيات» هنا)، سواءً كانت هذه الأسطر موزونةً بصيغة التفعيلة أم لم تكن، وسواءً كان عدد هذه الأسطر سبعةً، أو أكثرَ، أم لم يكن.

  2. يقول محمود كنعان:

    النثر هو شكل من اشكال الشعر شئنا ام ابينا، ولكن ليس كل الشعراء يجيدون ذلك، فأنا احب قصائد بدر شاكر السياب النثرية كما المقفاه وهو شاعر مبدع ذو احساس رقيق. وكذلك أمل دنقل له قصائد نثرية غاية في الروعة مثل لا تصالح وعم صباحا وغيرها.

    1. يقول حي يقظان:

      الأخ محمود،

      قصيدتا أمل دنقل «لا تُصالحْ» و«عمْ صباحًا» ليستا قصيدتي نثر بأي شكل من الأشكال، بل كلتاهما قصيدتان موزونتان بصيغة التفعيلة: الأولى تسير على تفعيلة «فاعلن» وجوازاتها، والثانية تسير على تفعيلة «فاعلاتن» وجوازاتها كذلك.

  3. يقول حي يقظان:

    (1)

    الأخ صبحي،

    في معرض الحديث عن آراء أمل دنقل التقدّمية والديمقراطية والمرنة إزاء أشكال كتابة الشعر، وعن قناعته بأن «التجاوز للواقع يحتاج إلى تجاوز للطرائق الفنية التي يتمّ بها التعبير عن هذا الواقع، واستحداث طرائق بديلة، واستجلاب لمذاهب فنية»، لا أظنُّ أن طرحَ الشاعر الراحل كان يخصُّ فقط «قصيدة التفعيلة» أو «قصيدة النثر» أو حتى تلك القصيدة التي تقع في منزلةٍ بين المنزلتين بمثابة مصالحةٍ بين وزن الأولى ونثر الثانية، بل يخصُّ أيضًا شكلاً آخَرَ من أشكال كتابة الشعر يستدعي «القصيدة العمودية» في حدِّ ذاتها، ولكن بتلك الروح التجاوزية والتجديدية التي كان الراحلُ يدعو إليها.

    ثمةَ في تطلُّعات هذا الشاعر الكبير، إذن، شكلٌ آخرُ يتجاوز وحدة التفعيلة في «القصيدة التفعيلية» قبلَ، أو بالأحرى بعدَ، أن تجاوزتها «القصيدة النثرية» على مستوى الإيقاع الوزني، على أقل تقدير. وهذا الشكل الآخَرُ يلتزم بنوعٍ من ما يمكن أن نسمِّيهِ بـ«وحدة الشَّطْر»، الوحدة التي تتجزَّأ، أصلاً، عن وحدة البيت في «القصيدة العمودية». فإذا كانت «القصيدة التفعيلية» تستحضرُ تفعيلةً معيَّنةً من بحرٍ معيَّنٍ لكي تسيرَ على مسارِ إيقاعِها الوزني وما يتخلَّلُه من زحافاتٍ مستحدَثة، فإن هذا الشكلَ الآخَرَ يستحضرُ شطرًا محدَّدًا من بحرٍ مُحدَّدٍ وما يتخلَّلُه من زحافاتٍ مستحدَثة كذلك – فلنسمِّ هذا الشكلَ الآخَرَ بـ«القصيدة التشطيرية» بمثابة تجاوزٍ حداثي لشكل «القصيدة التفعيلية»، ولكن من خلال النظر «القَدامي» إلى شكل «القصيدة العمودية»، إن جاز التعبير. وخيرُ ما يمثِّل شكلَ هذه «القصيدة التشطيرية» من شعر أمل دنقل كبداية حقيقية، في هذا المضمار، ما نستشفُّه من قصيدتهِ التي تعكسُ تناصًّا جليًّا مع قصيدة المتنبي الشهيرة «عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ»:

    عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدتَ يا عيدَ؟
    بما مضى؟ أمْ لأرضي فيكَ تهويدُ؟
    نامتْ نواطيرُ مصرَ عن عساكرِها
    وحاربتْ بدلاً منها الأناشيدُ!
    ناديتُ: يا نيلُ هل تجري المياهُ دمًا
    لكي تفيضَ، ويصحو الأهلُ إن نودُوا؟
    عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدتَ يا عيدَ؟

    [يتبع]

  4. يقول حي يقظان:

    *
    (2)

    وخيرُ ما يمثِّل شكلَ هذه «القصيدة التشطيرية»، أيضًا، من شعر محمود درويش، بمثابة إحياءٍ جادٍّ لتلك البداية الحقيقية، ما نراهُ في قصيدته الشهيرة «عزف منفرد»، كما في هذا المقطع:

    صدَّقتُ روحيَ لمَّا قالتِ التصقِ
    بالحائطِ السَّاقطِ، استسلمتُ للشَّبَقِ
    ولو كتبتُ على الصَّفصَافِ نوعَ دَمي
    لجاءتِ الرِّيحُ عكسَ الرِّيحِ في وَرَقِ
    الصَّفصَافِ، والصَّفصَافُ يَتَّقدُ
    والعزفُ منفردُ

    وخيرُ ما يمثِّل شكلَ هذه «القصيدة التشطيرية»، كذلك، من شعر أدونيس، بمثابة إحياءٍ جادٍّ آخَرَ لتلك البداية الحقيقية، ما نجدهُ في مجموعته الشهيرة «أول الجسد، آخر البحر»، كما في هذا المقطع:

    تركتِ في جسدي وردًا، تركتِ ندًا
    تركتِ غابةَ ألوانٍ، تُراهُ غدي
    يُضيئُها؟ أم تُرى أمسي يُضيِّعُها؟
    أفي عروقيَ وردٌ آخَرٌ؟ شَهَقَتْ
    إلى ترابكِ أعضائي – نمازجُهُ
    نفيضُ فيهِ، ونستقصي، ونبتكرُ
    دمٌ هوىً لَهَبٌ ماءٌ مدًى – أبَدٌ
    لا بالحياةِ ولا بالموتِ يُختَصَرُ

  5. يقول زنبق أزرق:

    مقالة شيقة أثرتها تعليقات القرّاء. شكرًا أستاذ صبحي و لقرائه

إشترك في قائمتنا البريدية