الغش من المدرسة للواقع: تخريب المجتمع!

حجم الخط
0

تتعبأ حاليا، مختلف أجهزة التربية الوطنية، لامتحانات البكالوريا. لكن، أغلبنا، يدرك بأن هذه البكالوريا، لم تعد لها من قيمة تذكر، علميا وتربويا واجتماعيا. التقدير، ليس جزافيا، لكنه الواقع الفعلي، من يشي حقا بهذا المآل.
إبان زمن مضى، كان تلميذ البكالوريا، يتماهى كيانيا ووجدانيا، مع شتى ينابيع وأصول الثقافة البشرية، ويخوض يوميا في المربكات المعقدة لأعتى نصوص أفلاطون ونيتشه وماركس وسارتر وفوكو، إلخ، كما لو يستأنس بطوبوغرافية مدينته. آنيا، التلميذ نفسه، قدلايميز بين الحداثة تلفظا والحدث (نعم الحدث) كتابة، ويناقش الثاني باعتبارها الأولى. وإن عرف أينشتاين، سيختزله كسلا في يهوديته، ويفتي بعدم جواز قراءته. أما، السينما والمسرح والموسيقى والسوسيولوجيا والإبستيمولوجيا والأنتروبولوجيا، إلخ، فهي بالنسبة اليه، قارات سديمية لاعلاقة لها بالكرة الأرضية.
فقط، المسعى الوحيد الذي يصبو إليه بكل جوارحه، تلك الخربشة الرياضية المسماة عددا أو معدلا عاما، بحيث لاينبغي أن يقل في أسوأ الأحوال عن ستة عشر، وحبذا لو لامس سقف العشرين أو تجاوزه بالكثير. لذلك، اختزلت كل المنظومة العلمية والتربوية والإيتيقية، وانتهت إلى رقم تافه، بحيث إذا استطردنا في تعقب المتواليات، فالترقيم، يضمر اعترافا سهلا، أو بالأحرى تشيِؤا مرقما، وبشكل أسرع، ارتقاء مجتمعيا بغير مجهود، لكن بوجاهة أكثر من عادية.
بدورهم، القائمون على الأمور، لايهمهم من حكاية البكالوريا وماجاورها، غير تلك السيولة الكمية المتدفقة، والبيانات المنتفخة، التي تسوق إلى العالم الخارجي، صورة شعب قارئ بنهم، ونجاح المناهج المتبعة. لكن، بأية طريقة؟وكيف؟ ولماذ؟فتلك حدود ثورة ثقافية، تقتضي تغيرات مجتمعية وسياسية هيكلية، تعيد مساءلة علاقة المدرسة بالمجتمع؟
حينما، تساجل المقبل على امتحانات البكالوريا، بهكذا صراحة، يقطب حاجبيه ويقلص عضلات وجهه، مبديا امتعاضه الشديد من النبرة العجائبية، لأن الحقيقة الوحيدة التي يستسيغها ويتمرآها، هي بالطبع إقرار رسمي بشهادة كارطونية، ثم انتهى الأمر. أما، النجاح العلمي، وتشبع شخصيته بالمرجعيات الكونية، فهي أمور موكولة ربما إلى علماء اللغة السنسكريتية.
الجواب الجاهز لديه، كي يبرر تقاعسه وتماطله عن التثقيف الذاتي، وبالتالي الارتقاء بمستواه الأكاديمي، يكمن في عدم اكتراثه بتاتا بهذا المنحى، مادام يريد فقط اجتياز عتبة الاختبار، عبر البساط السحري، الذي تنسجه تقنية الغش أو ‘رجولة’ الغش كما يردد، ضدا على الاجتهاد، الذي هو تطلع للضعفاء. لذا، فإرادة الغش، بمثابة إرادة للقوة، تمنحه حقا، بهذا الطريق الوحيد الأوحد، حتى لو كان فاقدا للشرعية.
يبرر، صاحبنا اختياره كما يلي :بما أن سكان هذا البلد، تحولوا إلى تهذيب معالم الغش رويدا رويدا، ولاأحد يؤدي دوره كما يلزم من الصدق والتفاني والوضوح، فصارت الكفاءة والتنافسية مجرد حكايات تليدة يرددها عجائز في حضرة أطفال بلهاء، إلخ، إلخ. إذن، لماذا يتحتم عليه هو المسكين؟ أن يكد ويتعب، ويقدم نمودجا نقيا وسط هذه المساحات الهائلة من الرداءة واللامبالاة.
شعور، يتعاظم ويشتد عوده، لدى أبناء المناطق النائية، حيث التهميش والنسيان وقساوة الأوضاع، بكل ماتنطوي عليه الكلمات من دلالات. عدم استفادتهم، من الناتج القومي، وبقائهم ضمن ممكنات جغرافية السفاناla savane المقفرة، ونتيجة انعدام كلي لبنيات سوسيو- ثقافية، وفضاءات شبابية تهيئ لهم ألفة حيال عوالم الفكر. سياقات الفقر والحرمان والتجهيل، دفعتهم إلى الإجماع، على أن الغش حلال سماويا وأرضيا، لا لبس فيه، يستعيدون به حقا مهضوما وضائعا.
تحاول، التظاهر بمجاراة منطقهم السوفسطائي، الذي يعيدنا بكيفية غير مباشرة، إلى دوامة الأسبق أنطولوجيا: الدجاجة أم البيضة؟ومن تمة سؤال، أيهما يصنع أولا، الآخر: الفرد أم الواقع؟ توضح، لهم بأن الظفر بشهادة، مطلوب ومرغوب مطلقا شرعا وتشريعا، لكن الأهم تزكيتها وشرعنتها والتصديق عليها، ليس بخاتم وزاري، لكن الأسمى ذلك الرصيد المعرفي الذي ينبثق من جوفه مواطنا إشكاليا، قادرا على مجابهة مختلف التحديات السريعة التي يكشف عنها العالم المعاصر. وفي مستوى أعمق، عودة المدرسة إلى باطن المشروع المجتمعي. لكنهم، سرعان مايبترون وجهة نظرك، في منتصف الطريق، مساجلين بمستوى الخطاب الذي ينتجه أهل الحل والعقد. فكيف بهذا المسؤول أوذاك؟ وماهي المرجعية العلمية، التي اهتدت بالمغرب إلى هكذا نخبة؟ ثم، ماهو المعيار الحاسم قياسا لأوضاعنا :الجدارة العقلية حقا؟ أم الطبقية والحزبية والوصولية والانتهازية والزئبقية والحربائية والانتخابوية والسياسوية؟ أخيرا، مادرجة حضور المعرفي، في التداول المجتمعي؟
لقد، انتقل الغش من حالة معزولة جدا، تجلب لصاحبها مختلف أنواع الاحتقار والاشمئزاز والنفور، كي يغدو شعارات، بل، فلسفات مبررة ومتكاملة، تسوغ حاضر ومستقبل جيل، يؤمن أشد الإيمان بأن واقعنا كما يشتغل قد قضى على روح الجد والجدية والتعلم والابتكار والمبادرة.
مما لاشك فيه، أن هذا النقاش يطرح في أبعاده العامة، ماهية المدرسة المغربية، ونوعية القيم التي تتوخى تكريسها؟ بمعنى، لماذا نريد الذهاب إلى المدرسة؟وماذا تشكله، فصول وحجرات الدراسة في مخيال الناشئة؟ فكلنا يعلم، بأن المدرسة، كما ارتقت لدى الأمم المتقدمة، استطاعت بفضل منظومة القيم(المواطنة، الوطنية، المثابرة، الانفتاح، الواجب، الحق، التسامح، الاعتزاز بالذات والانتماء، الاختلاف)، التي توحد حولها المجموعة، أن تصير في نهاية المطاف القيمة المثلى، الناسجة للحمة بناء، قد ينهار قاطبة، إذا تعثر تبلور اليسير من مكوناتها.

سعيـد بوخليـط – المغرب
boukhlet10@gmail. com

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية