■ هنالك تركيز غير مسبوق على ظاهرة المرشح الأمريكي دونالد ترامب. تركيز يبلغ درجة الإيحاء بأن ترامب هو مرشح الإدارة الخفية التي تدير العالم والتي ترغب في تدميره عبر خلق صراع أهلي داخل أمريكا نفسها وبين مكوناتها، إضافة إلى الصراعات الخارجية.
هذه الصورة المخيفة التي تصور أمريكا المستقبل «الترامبية» في صورة معادية للعرب والمسلمين ورافضة لوجودهم، سوف تدفع برجل أعمال عربي شهير للتهديد بسحب استثمارته من السوق الأمريكي، وسيتلوه آخرون ليبدو الأمر وكأنه تهديد جدي لاقتصاد بلد كان على شراكة تاريخية مع أصحاب رؤوس الأموال والسياسة العرب. هذه الصورة السريالية الفوضوية تبدو متعمدة لإخفاء حقائق دامغة لا مجال لإنكارها، أهمها أن علاقة الولايات المتحدة مع العالمين العربي والإسلامي هي بالفعل سيئة، ولا يمكن لأي رئيس قادم أن يجعلها أسوأ أو أن ينافس سابقيه في اختلاق مرارات جديدة، وكما غرّد الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي فإن العداء «الترامبي» البيّن أفضل بكثير من المحبة «الأوبامية» الخادعة.
أما قصة «الرد العربي» في حالة انتخاب من يعرّض مصالح شعوبه للخطر فتبدو أشبه بالدعاية المفضوحة. هذه الدعاية تحاول أن تقنعنا بأن العرب الذين لم يتحركوا، رغم كل الممارسات الأمريكية ولم يمارسوا أي نوع من الضغوط التي قد تثني صانع القرار هناك عن محاباته المفضوحة، ودعمه للكيان الصهيوني وتوفير ملاذات سياسية آمنة له، أن أولئك قادرون على الانتفاض لمجرد تصدر دونالد ترامب للمشهد السياسي! وهل سيرضى أولئك الغاضبون حينما تترأس الولايات المتحدة شخصية مثل هيلاري كلينتون؟ يذكرني ذلك بقصة الحاكم الذي أشاع بأنه سيفرض ضريبة مفاجئة بقدر خمسين في المئة قبل أن يتراجع ويفرضها بقيمة العشرة في المئة. الناس سوف يفرحون ويهللون من أجل الحاكم الطيب وسوف يختفي التساؤل حول شرعية فرض ضريبة بالأساس!
هل كانت أفكار ترامب صادمة منذ البداية؟ الحقيقة هي نعم، وليس فقط على الصعيد المتعلق بالعرب والمسلمين، بل إن مطالبات مثل صنع جدار عازل يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، أو طلبه الانسلاخ عن الناتو وغيرها، كل تلك كانت أفكار كفيلة بأن تشغل وسائل الإعلام داخل الولايات المتحدة وخارجها. رغم ذلك فإنني لا أعتبر أن ترامب هو الخطر الأكبر الذي يهدد العلاقات العربية الأمريكية لسببين: أولهما هو ما ذكرته سابقاً من أن هذه العلاقات هي متدهورة أصلاً، ليس فقط على صعيد دول ثانوية الأهمية بالنسبة لأمريكا، ولكن حتى بالنسبة لدول ذات علاقة استراتيجية معها كمنظومة دول الخليج.
السبب الثاني هو أن أفكار ترامب صادمة بشكل أكثر مما ينبغي بشكل يجعلها غير واقعية، وهو ما يعني أنه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يتم استبعاده من موقع الرئاسة، بعد أن تؤدي تصريحاته تلك خدمة جليلة لصالح تكثير سواد منافسته هيلاري كلينتون، وإما أن يفوز فيجبر على تغيير خطابه العدائي بما يتناسب مع الحقوق التي يكفلها الدستور الأمريكي. نذكّر هنا بأن ترامب أو غيره من الرؤساء، لن يكون بمقدورهم أبداً طرد المواطنين الأمريكيين بسبب ديانتهم أو منع الزوار والمهاجرين القادمين من أصول أو جهات بعينها. الاعتذار عن لغة الخطاب غير اللائقة قد بدأ فعلاً، حيث يقوم أنصاره حالياً بمحاولة التخفيف من حدة الغضب عليه، على اعتبار أنه ليس سياسياً بالفطرة وليس صاحب خبرة في مسألة العلاقات الخارجية، ولكن أولئك الأنصار يصرون على أنه قادر على حماية مصالح المواطنين، سواء من خلال التشريعات الداخلية أو من خلال التدخلات المدروسة الخارجية.
إذا حاولنا تحليل الشعبية التي حصل عليها ترامب وقبله منافسه تيد كروز، فسنجد أن أوباما بسياساته المترددة ولغته الغارقة في الدبلوماسية، التي لا تقود لأي مكان، كانت السبب فيها، فحتى الآن ما زال المتابعون داخل وخارج أمريكا يبحثون عن سياسة واضحة لبلدهم إزاء قضايا العالم، فأوباما يتبنى عدم التدخل في الشرق الأوسط ثم يتدخل بقوة ويتبنى الاتفاق مع إيران، ثم يتراجع لمصلحة حلفائه التقليديين، ثم يعلن نيته التوجه إلى آسيا وكبح جماح التنين الصيني، لكنه يتراجع ويمنح الصين مساحة أوسع للتحرك والمناورة والتوسع عبر البحار. حتى محاربة التنظيمات المتشددة شكك في جديتها الكثير من الأمريكيين، وقد بنى كروز، على سبيل المثال، حملته الانتخابية على حرب حقيقية وحاسمة ضد تنظيم الدولة وغيره من المنظمات الإسلامية قائلاً ذات يوم، إن سياسة بلاده ضعيفة وأن بلاده تحتاج رئيساً حازماً لمواجهة الإرهاب كالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ورغم إيمان كروز بالحرب التدميرية هذه وانتمائه الى الجانب الأصولي من الحزب، الذي ينظر من خلاله للأمور بمنظار الحرب الصليبية المقدسة. رغم أنه ليس أقل عداء للمسلمين من ترامب، لدرجة جعلته يقترح مراقبة خاصة للأماكن التي توجد فيها أعداد كبيرة من المسلمين. رغم كل ذلك فقد وجدنا من يحزن لخروجه من المنافسة في مقابل ترامب العنصري! لن نتحدث هنا عن هيلاري كلينتون التي يعتبر الكثيرون أن لها فرصة كبيرة في تقلد الوظيفة الأهم في العالم، فكلينتون، على عكس بقية المنافسين، معروفة على نطاق العالم من خلال عملها وزيرة للخارجية واقترابها من سياسات البيت الأبيض خلال الأعوام الماضية بشكل يجعل توجهاتها، خاصة علاقتها الحميمة مع الكيان الصهيوني، معروفة لكل متابع.
لماذا يبدو الجميع هنا وكأنهم من مدرسة واحدة؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نتوقف عند مصطلح «هندسة الانتخابات»، والهندسة هي كلمة أعقد بكثير من مجرد التزوير، فإذا كانت الدول الشمولية تكتفي بتبديل الصناديق وتزوير إرادة شعبها، أو إذا كانت تضع النتيجة مقدماً وتحسم التصويت لمصلحتها حتى إن لم يذهب أحد للانتخاب، فإن الأمر يبدو في الديمقراطيات الغربية، خاصة في الحالة الأمريكية، مختلفاً، فهناك إقبال واسع على ممارسة الحق في الانتخاب، لكن الفرق أن الناخب، الذي يظن نفسه حراً هو ليس بالفعل كذلك، لأنه واقع تحت التأثير الناعم لأعمال الدعاية والإعلام، التي تتيح لك الاعتقاد بأن الفكرة التي ستدفع بك للدفاع عنها ليست فكرة السياسيين أصحاب المصالح، بل فكرتك أنت..! مع مرور الوقت لن تصبح هذه الهندسة الديمقراطية خاصة فقط بالدول الغربية، بل ستحاكيها دول وأنظمة أخرى من أمثلتها البارزة نظام الولي الفقيه الإيراني الذي يزاوج بين العقيدة المذهبية والتجربة الديمقراطية فيفاخر بتعدديته الحزبية، لكنها تعددية في إطار ما يعتبره المشرّع الإيراني ثوابت لا يمكن القفز عليها وهو ما سيجعل الفروق بين المرشحين بين ما يسمى باليمين واليسار أو المعتدلين والمتشددين ضئيلة أو منعدمة. مثال آخر يظهر في انتخابات العالم الثالث التي تعقد من أجل دفع الحرج وحفظ ماء الوجه، لكن بشروط خاصة قد يكون من بينها منع مشاركة الأحزاب والشخصيات المنافسة الأقوى بحجة الإرهاب أو العمالة أو العمل ضد مصلحة الوطن بحيث لا يبقى إلا الموالون صراحة أو ضمناً لمسار الاتجاه الحاكم.
كلما كانت الدولة أكبر، كانت هندستها أعمق، وهو الأمر الذي يبلغ مداه في الديمقراطية الأمريكية التي تتجاوز، كما قلنا، التلاعب المفضوح بنتائج الانتخابات للوصول إلى ممارسة انتخابية حرة، لكن «مفلترة» بعناية، بحيث لا تسمح إلا بظهور أشخاص مثل ترامب وكروز وكلينتون، رغم أن البلاد فيها من الشخصيات المتوازنة والكفاءات الكثير، لكن لا يمكنهم منافسة ملياردير كترامب أو أسر سياسية عريقة كأسرة بوش أو غيرها. قد يقول قائل هنا إن الديمقراطية الأمريكية المهندسة هذه قد سمحت بوصول ابن مهاجر أسود إلى الرئاسة، وهو ما يشكك في وجود هندسة من أي نوع. ربما كان يصلح ذلك الزعم في بداية الفترة الرئاسية لأوباما، أما الآن وبعد وصول فترته إلى نهايتها فيمكننا أن نقول باطمئنان إن ذلك كان جزءاً من تلك الهندسة أيضاً. لقد احتاج الناس للاقتناع بكون أمريكا قد تغيرت وأنها لم تعد تلك المعادية والفوضوية التي كانت على أيام جورج بوش، ولذلك فقد عم الابتهاج العالم بالوصول غير المتوقع لممثل «الأمريكيين السود» الذي وعد العالم بعدة وعود على صعيد الانحياز للسلام والحد من الانتشار النووي وإغلاق المعتقلات غير الإنسانية والبعد عن التدخلات الخارجية هذا غير وعوده الداخلية للأمريكيين، وهي الوعود التي ذهبت جميعها أدراج الرياح ليكون مجرد نسخة لطيفة من الإدارة السابقة. نسخة تستخدم ربطة عنق حريرية، عوضاً عن الحبل الخشن، من أجل تنفيذ أحكام الإعدام!
بمقارنة ومثال بسيط. نأخذ موضوع العراق والشام لنقول إنه ومثلما سلّم بوش العراق إلى إيران بتدخله العنيف وغير المبرر، سلم أوباما سوريا إلى إيران مرة أخرى لكن هذه المرة برفضه التدخل أو التحرك. هذا المثال يوضح كيف أن إدارة أوباما، رغم اختلافها الظاهري، ليست سوى امتداد لإدارة بوش. نخلص إلى أن المشكلة لا تكمن في صعود اليمين العنصري أو في شخصيات مهووسة مثل دونالد ترامب وغيره، بل تكمن عندنا نحن، عند تلك القيادات والنخب التي تؤمن بقوة بأن مستقبلها إنما يتحدد وفقاً لهوية ومزاج من يجلس على ذلك الكرسي الأبيض.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
* نعم.. انا مع رأي الأخ الكاتب .
* العيب اولا فينا وليس في أمريكا او ترامب..
* لو كان ( العرب ) متحدين وعلى قلب رجل واحد
لأصبحت امريكا تطلب رضا العرب وليس العكس..
* حسبنا الله ونعم الوكيل.
سلام
نتفق معكم تماما سيدي الكريم الدكتور مدى الفاتح في مقالكم فلقد قلت هدا سابقا في اكثر من تعليق لي على الانتخابات الامريكية فيخطئ جدا من يحسن ظنا في النوايا الامريكية خاصة نحو العالمين العربي والاسلامي فرغم اختلاف تصريحات بعض الرؤساء الامريكيين التي تتميز بالليونة والنعومة كما حدث مع اوباما في جامعتي القاهرة واسطمبول وما نشهده من مسرحيات رديئة بين المرشحين للانتخابات الرئاسية في مناظراتهم الا ان دلك لا يجب ان يثنينا من اخد الحدر من امريكا وسياساتها المعادية قلبا وقالبا تجاه العالمين العربي والاسلامي والمؤيدة بشكل مطلق لكيان الارهاب الصهيوني ففي الحقيقة فالشعوب العربية والاسلامية لا تنتظر خيرا من امريكا ولا تنتظر منها عدلا او انصافا بل كل ما تصبو اليه وتتمناه هو التغيير في عقلية انظمتنا التابعة بصفة عمياء لهده الدولة المارقة فلو كانت هنا انظمة وطنية وقومية وديمقراطية ومتحدة ومتعاونة لما تجرا ترامب وامثاله من العنصريين على كرامة هده الامة ولما تمكن احد من الاستهزاء بنا ولراينا امريكا تطلب ود العرب والمسلمين ولما شاهدنا هدا العبث الامريكي الشديد بمقدراتنا وامننا وارواحنا ومستقبلنا ووجودنا.
يا سيدي نحن لا نفهم اللعبة الديموقراطية لاننا لا نمارسها. نحن ما زلنا نعظم الحاكم الفرد
الرئيس في امريكا او في العالم الديموقراطي ليس كالرئيس عندنا يلتمس منع الشعب العطف و المكرمات. الرئيس هناك يخدم الشعب بشكل فعلي و موصوف.
اولا: النظام في امريكا رئاسي برلماني مع استقلال كامل و راسخ للقضاء. لقد وعد الرئيس اوباما باغلاق معتقل جوانتانامو في السنة الاولى من رئاسته و هو استاذ قانون اساسا و لم يستطع ذلك بعد مرور 8 سنوات.
ثانيا: هناك مئات بل الاف مراكز البحث و الدراسات و استطلاع الرأي التي يرتكز على مخرجاتها اي قرار. وهذه المخرجات الذي درج البعض منا الاستشهاد ببعضها للتدليل على المؤامرات و النوايا المسبقة و ما هي الا جزء من العقل الامريكي.
ثالثا: هناك قرارات و كلمات مسموعة من مئات بل الاف مراكز السلطة في امريكا ابتداء من الادارات (الززارات) الى اجهزة المخابرات و الامن حتى مجلس اصغر بلدية
رابعا: سياسة امريكا الخارجية مبنية على المبادئ و المصالح و اول المبادئ هي المحافظة على المصالح. و هذا في صلب النظام الرأسمالي الحر