الصوت والهوية

حجم الخط
1

الإنسان الأول كان أول من شكل هويته من خلال الطبيعة وما يحيط به من حيوانات أو طيور وغير ذلك.
وإذا كانت «الحاجة أم الاختراع» فقد عمد الإنسان الأول في محاولاته لتشكيل هويته الشخصية وتميزه عن غيره من خلال الصوت أولا، وقد بدأ بإطلاق الأصوات المختلفة متعلما في البداية من الطيور والحيوانات، ولكنه بدأ بتمييز صوته عنها، وهو يبحث عن اختلافه في الوسط الذي يعيش فيه، ومن ثم بدأ في محاولات الاستدلال على الأصوات التي يمكن أن يوجدها، وهي غير تلك الاصوات التي ترتبط بالطبيعة، وهكذا بدأ يميّز نفسه بصناعات خشبية مختلفة لآلات بدائية، فاكتشف ان النفخ يصدر أصواتا مختلفة، فاستعان بالخشب وحوله إلى ناي بدائي، وطوره ليفتح الطريق نحو أساليب تعبيرية مختلفة، وفي الغابة مثلا كان يريد أن يعبّر عن نفسه وأن يطلق صوته فيعرف من هم معه، أن هذا هو لا أحد آخر غيره، هذه البداية في تشكيل الهوية.
كان الإنسان الأول، لا يدرك تميّزه في المرآة ولا في الصور، ولم يكن هناك من يرسمه بالألوان ليرى نفسه، كان بوسعه فقط أن يرى وجهه متمايلا على سطح مياه بركة راكدة، وما كانت هذه الأشياء لتعطيه فكرة عن وجهه الحقيقي، هكذا اتجه إلى التميّز عبر الصوت ما قبل اللغة، وما قبل اللغة أيضا كانت الحاجة لتحديد الهوية، والهوية في عرف الإنسان الأول لم تكن إسما، ولم تكن بطاقة مرفقة برقم، لم يكن هناك ما يدل عليه سوى تميّزه، من وجهة نظر الآخرين، بشكله وصوته، ومن وجهة نظره هو بصوته الذي يستطيع سماعه وهو يطلقه ويستطيع أن يحدد الآخرين أيضا من طبقات أصواتهم.
هكذا كان يصرخ الإنسان الأول معلنا أنه وجد ما بوسعه صيده ليكون طعاما للجماعة، فيختار أصوات الطبيعة التي لا تقلق الغزال على سبيل المثال، ويحاول أن يرشد أصحابه إلى مكان الغنيمة عبر إطلاق أصوات معينة، هذه الأصوات لم تكن تمتلك الدليل إلى المكان وحسب، بل والدليل على الشخص أيضا.
ما قبل اللغة، كان الصوت الدليل الأول والهوية الأولى لشخص ما، كان علامة التميّز، ولاحقا ربما علامة على التفوق، فالتفوق في الأسلوب، سواء كان في تقليد أصوات الطبيعة أو في إطلاق نبرات صوتية معينة للدلالة على حدث ما، كهجوم من قطيع مثلا، أو الدعوة لشيء ما، ولاحقا إعلان الحروب عبر إطلاق الطبول والقرع عليها، ثم محاولة إيجاد أصوات مختلفة تفرق الطبل عن غيره من آلات الإيقاع. لجأ الإنسان الأول إلى الصوت كهوية، وكان هذا هو أول بوادر ظهور تفرده وسط محيط يبحث عن انفراده عبر الصوت أولا.
وفي البحث عن الهوية، دقة اختيار، فالهوية لا تتشكل من عشوائيات، بل من أسلوب حتى لو كان أسلوبا بدائيا، ودقة الاختيار مفتاح لتشكيل الفارق، ومن يتميّز في اختياراته يصبح متفردا في تشكيل هويته، ومن ثم يشكّل جماعته التي تنتهج أسلوبه. المحيط نفسه يبني الهوية ويشكلها وفقا لحاجته، فالهوية لا تتأتى من الشخصي بمعزل عن المحيط، إنما تنبع من المحيط نفسه، وبالتالي تستقي صورتها من المجتمع الذي تعيش فيه، وهذا أول تشكيل للأسلوب الفردي، وأيضا أسلوبية المجتمع الذي يتميّز الفرد في داخله ويؤثر على غيّره ليقوم بما يشبه التطبيع، أي يطبّع مجتمعه بأسلوبه، لأنه استطاع التمايز والاختلاف، ونال تفوقه في إبراز الفردي ضمن المجتمع وعكس فرديته على مجتمعه.
الهوية ليست منحة كالصوت، وهي غير قابلة للمران، بل تراكم طويل، ونحت للوصول إلى الصوت الصافي للفرد. هوية الشخص تعبّر عنه أكثر من اسمه، ولهذا سعى كل منا منذ بدء الخليقة حتى اليوم لإيجاد هويته، ونرى الاقتتال في العالم لأجل الهوية التي تدل على كل شيء في حياة الشخص، فهي، كما أسلفت، ليست اسمه أو صورته هي كل ذرة يتشكل منها جسده أو تتشكل منها روحه.
في الموسيقى الهوية دليل الأذن نحو الصوت، فالأذن تكتشف الآخر من خلال صوته، وتتفاعل معه أحيانا من خلال هذا الصوت. ومع تقدم التكنولوجيا، أصبحنا نعرف أن الكثير من قصص الحب ولدت عبر أسلاك الهاتف وهي تنقل ذبذبات الصوت إلى الآخر. الصوت كان قبل كل شيء، وعندما اكتشف الإنسان الأول قدرته على التعبير بصوته، بحث عن الأصوات، وعندما استنفد ما يحيط به بدأ يبحث عن اللغة ليعبر. كل هذا البحث كان من أجل تشكيل الهوية الفردية التي هي جزء لا يتجزأ من هوية المجموع.

موسيقي عراقي

الصوت والهوية

نصير شمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول القاهره:

    ماذا لو كان لكل منا ان يختار هويته بنفسه .. هل كنا سنبقى كما نحن عليه الان ؟

إشترك في قائمتنا البريدية