لماذا صعد الإخوان؟: سؤال أعمق من إجاباته الصاعدة
هاني نسيرهلماذا صعد الإخوان؟: سؤال أعمق من إجاباته الصاعدة انشغل الراحل الجليل هشام شرابي بمعالجة الأبوية المحدثة التي هي نتاج هجين من الحداثة من جانب والنظام الأبوي الفكري والسياسي من جانب آخر. تنتصر الأبوية لقيم الذكورة والطاعة والكاريزما ومعها قيم الأمر والسمع والطاعة، ولا تعرف السياسة إدارة للتنوع قدر ما هي إدارة للتوحيد والسيطرة والهيمنة الفوقية . تجسدت هذه الأبوية المحدثة ـ خاصة فيما يخص مسألة المرأة في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة ـ رغم التقدم النسبي الذي حدث فيها قياسا بسابقاتها ـ وهو ما يمكن أن نرصده بعيدا عن التناول السجالي المسجون داخل ماذا لو حكم الإخوان؟ ولماذا وكيف نجح الإخوان ؟ وكأن الإخوان فقط هم الإشكالية كلها وكفي! وفي رأيي أنهم أكثر تطورا علي مستوي الخطاب ـ الذي يظل التناقض كامنا فيه رغم تطوره ـ أو إدارة للجدل مع النخب أو مع الشارع والجماهير عن سواهم . مع زخم إسلامي بدأ منذ السبعينيات في القرن العشرين وما زال مستمرا حتي الآن كما ان الثقافة السائدة ما زالت أقرب إليهم وبينما راهن الآخرون علي الدولة والسلطة راهن الإخوان منذ مرحلة دعاة لا قضاة وانقلابهم علي مفهوم الحاكمية علي الشارع وعلي القواعد وعلي المجتمع المدني الذي يستطيعون أن يملأوه في ظل وجود مقومات التطوع لديهم بدرجة أكبر من غيرهم .هذا في ظل نخبوية الطرح العلماني والمدني في العالم العربي بعموم ربما باستثناء المغرب ولبنان، وكون أغلب مشاريع نهضته مشاريع فوقية لا ترتبط بقواعد وحوامل اجتماعية في الغالب، وهو ما ألجأ العديد من النخب ـ منذ ثمانينيات العقد الماضي ـ منجذبة للثقافة السائدة في صيغة توفيقية أو تراجعية ـ والوصف هنا ليس تقييميا ـ حتي صارت عندنا ظاهرة في الفكر العربي المعاصر عرفت بمفكري التخوم لم تنل حقها من الدرس بعد! وهو وصف يعبر عن حالة الكثير من المثقفين الذين يرون في التراث ثورة أو يلتزمون حلا وسطا وتوفيقيا بين مرجعية العقل والنقل . فهناك أزمة في الفكر قبل أن تكون هناك أزمة عميقة في الدولة، وكلاهما تقليدي وسلفي أو إذا شئنا الدقة كلاهما أبوية محدثة وليس الإخوان وحدهم، وإن تميزوا بقدرة أكبر علي التعبئة وتعاطيا أكثر استيعابا للمتغيرات والمواجهات ومناخ الأزمة الذي يحياه المواطن والوطن، سواء فيما يطرحونه من حلول فكرية وسحرية للإصلاح تختزل في اللجوء للمطلق والدين ويرد الابتعاد عنه سببا لبقاء هذه الأزمة في الحس الديني السائد أو في غياب وضبابية المشروع النهضوي عند الآخرين.مقولة النموذج وفسادها غلب نقد الصعود الإخواني علي أساس النموذج الذي يتمثله، خاصة بعد تكرر تجارب الشمولية الدينية في السودان وأفغانستان والجزائر بشكل ما. وهو ما نري أنه لا يصح الامتداد به في مواجهة الإسلام السياسي في مصر خاصة وأن النماذج غير الإسلاموية للدولة ليست بخير المنال وهي كائن متجسد مشاهد، لم يستطع حتي اللحظة أن يحقق يوتوبياته ووعوده المواطنية والوطنية في التحرر أو التنمية أو المواطنة أو الشفافية فأزمة النموذج ليست فقط إسلاموية في إيران أو السودان أو الجزائر، ولا الانتصار للجماعة الأم وصعودها الأخير بأنها قد تكون قريبة من النموذج التركي للعدالة والتنمية حيث يرفضه الإخوان في مصر ويتبرأون منه كعلمانية مؤمنة ملتحقة بالغرب لا ينتمون إليها، وليس أدل علي أزمة النموذج العلماني للدولة في بلادنا من الاعتذارات والتصحيحات التي اعترفت بها عدد من الأنظمة في العقد الأخير من قبيل ديوان المظالم في المغرب أو الوفاق المدني في الجزائر أو تعقد الموقف أكثر في بلاد كسورية ولبنان، أو حدوث انتخابات حقيقية ـ بدرجة كبيرة ـ لأول مرة في مصر هذا العام منذ الاستقلال، وهو ما جعل تفسير البعض التصويت ضد الحزب الحاكم مثلا بأنه تصويت احتجاجي ناتج عن الارتباط المصمت بين الحكومة والحزب الذي يدعو الكثيرون لفكه بتخلي الرئيس مبارك عن رئاسة هذا الحزب الشائخ ! في ظل فساد كثير من المنتمين أو القريبين للنخب الحاكمة كان آخرها سقوط واحد من أكبر القيادات الإعلامية وآخر مسؤول عن أهم بنك للتنمية والائتمان الزراعي إن ترهل الدولة العربية ـ لغياب المؤسساتية عنها ـ وسيطرة الأفراد والمزاج الفردي علي المؤسسات ومعهم الفساد في كثير من الأحيان، جعل الثقة في الدولة ضئيلة كما أن علينا أن نعترف أن النموذج العلماني لم يستطع في كثير من الأحيان أن يصنع شحنا طهريا ونضاليا ـ رغم ترويجه منذ الستينيات لمفهوم الالتزام السارتري ـ وبعد أن كانت السياسة موقفا يقفه خالد محمد خالد أمام عبد الناصر في الستينيات ويقفه العقاد أمام الملك في آواخر العشرينيات، صارت تورتة للمناصب والهبات وربما المنح الأجنبية، مع تقديري للاستثناءات القليلة، وبينما ظل المسجد أداة جذب انسحب الإعلام العربي المدني نحو السجال والاتهام والتشويه المستمر وعدم الاهتمام بالوعي المدني والحقوقي فضلا عن الانتماء إليه، فصار جاذبا لمجتمع تقليدي بوعي تقليدي، لا يعنيه سوي الكلام الكبير، من هنا غابت النماذج العلمانية حكومات ونخبا بينما ظل العبق الديني التاريخي سائدا ومعه عبق حاضر في كل مناطق الصراع، وتلامس حي مع الناس في الشارع، بعيدا عن الفضائيات التي لا يخترقها من الإسلاميين سوي القليلين! النخب العلمانية وهشاشة الوجود والطرح كلما كان الطغيان كان الاعتزال السياسي طريقا ! من هنا نري اعتزال العديد من النخب المثقفة للعمل السياسي الذي صار تصدره في أحيان كثيرة حكرا علي البيروقراطيين والتقليديين، وبينما ينشغل معظم المحللين العرب بالسياسة فهم لا يشتغلون بها، بل يحتفظون بمسافة بينهم وبينها، بينما يظل المثقف التقليدي والشيخ المستنير والبرجوازية المتدينة تمارس الاجتماع بهدف الوصول للسياسي بعيدا عن الطرح العلماني الغريب والمتهم عند العوام فالسطات الحاكمة في المؤسسات والأحزاب اغتالت طاقات من النشاطية السياسية في توجهها لتهميش أصحاب المواقف والقناعات لصالح أهل السمع والطاعة للأب الملهم المسيطر علي الحكم أو علي الحزب مع كل احترامي لمن تم فصلهم في الأحزاب المدنية المصرية وليس منير فخري عبد النور وحده كما أنتجته بشكل ما سلطة الثقافة السائدة التي ما زال العامل الديني يمثل رأسها ومركزها الوحيد . تسيطر الأبوية التقليدية والأبوية المحدثة علي المشهد بعموم، وصار جهد كثير من النخب المدنية ومنظماتها قاصرا علي المراكز في العاصمة وقاعات الفنادق الكبيرة، بينما الشارع وأزماته وثقافاته لا تعرف قبلة سوي للدين والمتحدثين باسمه الذين يملكون مقومات مجتمع مدني من التراث في شكل الصيغ التكافلية للصدقة والزكاة وكفالة الأيتام والفقراء. كما أن النخب العلمانية والمدنية تصلبت أطروحاتها عند شاشات الفضائيات سجالا مقيتا لا يحدث تطويرا أو تغييرا في رؤي طرفيه، وهي أشبه بلغة المنافرة والمفاخرة القديمة التي عرفها العرب في سوق عكاظ، حيث يلح كل من المتصارعين علي تعرية الأخر وتبيين نقصه ومؤكدا علي كرامة عنصره وقدم سؤدده فقط، دون أن يري عيوبه مهما ألح الآخر عليها أو علي ضرورات يحتاجها. فعجز الأفراد كما المؤسسات عن إحداث نقلات نوعية في أفكارها أو ممارساتها أو جماهيريتها حتي الآن! ليبقي الصعود للآخرين هو الطريق الطبيعي، ربما أكثر مما تتصور النخب شبه المدنية وشبه العلمانية في مفهوم مشتبه للدولة كذلك! ہ كاتب من مصر 8