الكتابة التاريخية

في فترة ما منذ عدة سنوات، أحسست بانجذاب كبير تجاه تاريخ السودان، وأعني ذلك الذي كتبه مؤرخون حقيقيون أنفقوا أعمارهم في البحث والتقصي، أو ذلك الذي ورد على ألسنة رواة عاديين، لم يكونوا كتابا أو باحثين، وصادف أن كانوا مكلفين بمهام ما وأنجزوها، ثم كتبوا بعد ذلك، أو زوارا للبلاد، ومستعمرين شهدوا حوادث وثورات دامية، ودونوا عنها الكثير، من وجهات نظر قد تكون قاسية، لكنها وجهات نظرهم على أي حال.
الذي شدني أكثر في تلك الكتابات، هو ما رواه العاديون، ورووه بكل تلقائية وبلا تحريف أو بلاغة أو عجرفة، مثل كتاب: «يوميات كاتب الشونة»، الذي يتحدث عن تاريخ ملوك وقادة، ومجتمعات كانت سائدة في وقت ما، وانتهت، مثل تاريخ مملكة سنار القديمة. كذلك كتاب: «تاريخ ملوك السودان» الذي تم استقاؤه من الرواة الملتصقين بالتاريخ، كما تبين طريقة روايته، وكانت فيه إيحاءات كثيرة، ومعلومات جيدة، على الرغم من أنه يروي عن الملوك والسلاطين باقتضاب شديد، ولا يوضح حياتهم كاملة، مثلا، الحياة الإنسانية والاجتماعية، والحياة داخل القصور الطينية، وبين الزوجات والأبناء، فكل ملك أو سلطان، يرد ذكره في الكتاب، بدأ بمسألة توليه العرش بعد أن يكون سلفه قتل، أو عزل بواسطة مساعديه، أو مات ميتة طبيعية بلا شبهات، ثم يتعرض بعد ذلك مباشرة للحروب التي خاضها ذلك الملك، والأعداء الذين قتلهم، والانتصار الذي انتصره أو الهزيمة التي ذاقها، هكذا.. كل من تولى الحكم، لا بد قاتل وقتل، انتصر، أو انهزم أو قتله أحد، وثمة فراغ عريض في تلك الحياة المقاتلة، فراغ الإنسانية التي فيها قلب يعشق، وعاطفة تستعر، ونساء يتزين ويتعطرن، ويضعن الكحل في العيون، وعيال يولدون ويصرخون، ولا يميزون بين أب حاكم، وأب صعلوك، بمعنى تلك الحياة التي نعيشها ويعيشها البشر كلهم، بعيدا عن المشاغل، قبل أن يدركهم الموت..
هذا الفراغ في الحكاية، هو بالضبط ما يبحث عنه المؤلف الذي يود كتابة عمل روائي، ملحمي، مستوحى من التاريخ، ستكون فيه هذه الممالك الدموية، لكن لا بد فيه أيضا لمحات إنسانية، فلو أن كاتب الشونة مثلا في كتابه، الذي ذكرته، ذكر أن الملك بادي أو الملك عبد الرحمن، أو بلادي الثاني، كانوا عطوفين أحيانا،، وقد اهتموا برعاية الأطفال، وأمروا بإنشاء مشاغل للنسيج بالنول لتعمل عليها نساء العائلة، واستصلحوا الأراضي للمزارعين، حتى يزرعوا، وازدهرت بذلك تجارة المحاصيل، وكانوا يتجولون في السوق يطلعون على أسعار السلع وأنواعها، لو ذكر ذلك، لما ترك للخيال الروائي، صفحة يتخيلها ويبني عليها مستقبل نصه، ولضاعت كل الحيل التي تؤدي لصناعة عمل تاريخي ناجح.
كتاب: «تاريخ ملوك السودان» كذلك، بالطريقة نفسها، أغلق الطريق تماما، أمام الحيل، وتلك الكتب السيرية التي كتبها أجانب قدموا مع الاستعمار، أو بعده، واستوطنوا البقع المعتمة في الحكاية، وصاغوها بناء على مزاجهم الخاص، مثل كتاب: «السيف والنار» للعسكري النمساوي سلاطين باشا، و»مذكرات القبطي: يوسف ميخائيل»، حقيقة لم تكن مانعة تماما لتوالد الخيال، ولا بنت سدودا عالية من أجل أن تظل محمية من إعادة ترتيب أفكارها، فقط كانت بحاجة إلى بحث طويل، لتنقيتها من سقطات المزاج، وحين تكتب بعض الإيحاءات منها في نصوص روائية بعد ذلك، تكتب عن دراية لا عن رؤية ضبابية.
لقد سألت نفسي مرارا، وكنت من الذين قرأوا كثيرا من الروايات التاريخية واستمتعوا بالخيال الذي كان فيها مضافا إلى الحقائق التي ربما استقاها المؤلفون من كتب التاريخ: خاصة تلك التي كتبت عن الحروب، والنزوات، والاستعمار وتداعياته، مثل: «الأشياء تتداعى» لتشينوا أشيبي، و»ليلة لشبونة» لأريك ماريا، و»ظل الريح» لزافون الإسباني.
لماذا يستوحي المؤلفون من كتب التاريخ؟، وماذا يريدون أن يقولوا في الروايات التي استوحوها؟
حقيقة، توجد عدة أهداف من إعادة صياغة التاريخ روائيا، منها ما يعتقد الروائي أنه إعادة تصحيح للتاريخ نفسه، بكتابة المجتمع القديم والأحداث القديمة بطريقة أكثر شفافية، وتعقلا بعيدا عن تحيزات المؤرخين، ومنها ما يحمل إسقاطاته البعيدة لتصب في الحاضر الآني، مبينة وجهات نظر كان لا بد أن تبين، ولو تأملنا كثيرا من الروايات التاريخية، لوجدنا في بعضها قراءة مستقبلية عن فقرات في الدنيا توقع الروائي أن تكتب لاحقا، وكتبت بالفعل، حتى الربيع العربي الذي صار ونجح وأخفق، هناك من تنبأ بحدوثه، والموت والدمار وجز الأعناق، هناك من تنبأ به، وبالتالي كان للعمل الأدبي قوله الجيد والمهم.
كذلك من جماليات كتابة التاريخ فنا، ذلك التلاعب الممكن والأخاذ بمصائر أشخاص حقيقيين، كانت تبحث عن تغيير ويستطيع الكاتب تغييرها من دون أن تختل الحكاية، مثلا الأميرات اللائي يعشقن، ويضيع عشقهن في الحقيقة، هنا يمكن أن ينمو العشق ويثمر بدلا من الضياع في ظل عمل جيد، والحمال الذي وردت سيرته في النص الأصلي حمال هامشي، لماذا لا يرتقي في النص المتخيل إلى قائد للجيوش. لقد صنعت ذلك شخصيا وأعرف أن عشرات غيري صنعوه.
عموما هي أفكار تبدأ من لوثة الكتابة وتعود إليها، ويوجد كتاب عديدون، بل أغلب الكتاب، يفضلون ان يرسموا الواقع المعيش، كما هو من دون أن يرهقوه بالتخيلات، وتلك كتابة أخرى.

* كاتب سوداني

الكتابة التاريخية

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منى هنينغ السويد:

    قلة قليلة من أدباء العرب من كتب الرواية التاريخية او حتى اقترب من هذا الجنس الأدبي الذي هو منتشر في الغرب ومنذ فترة طويلة. ولقد عملت دار المنى على ترجمة بعض هذه الروايات الى اللغة العربية مثل رواية زيارة طبيب صاحب الجلالة والتي تتكلم عن الدنمارك وملكها كريستيان السابع في القرن التاسع عشر والصراع الذي حصل عندئذ بين المحافظين والمتنورين وأثره الذي لايزال حتى يومنا هذا يرسم تاريخ أوروبا الحاضر، او رواية المهاجرون للكاتب السويدي ويلهلم موبيرغ لتسلط الضوء ايضا على الحياة العادية للناس الذين عاشوا في تلك الفترة من تاريخ السويد قبل اكثر ٢٠٠ عام.
    ننتظر بفارغ الصبر ظهور الرواية العربية التاريخية وأرجو ان تتم على يد كاتب مقالة القدس العربي هذه

  2. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    لقد كانت سلسلة الروايات التأريخية التي كتبها جرجي زيدان ناجحة وممتعة ، بالرغم من انها تعرضت للنقد الشديد وحتى انها مٌنعت في بعض الدول العربية ، لكن على ماأذكر هو انها نالت أقبالا كبيرا ابتداءا من الجيل الذي سبقنا ومن ثم جيلنا . لقد قرأتها في السبعينات وأعدت قراءتها في الثمانينات و من ثم في التسعينات ولا زلت احتفظ بها . لقد نجح الكاتب في ان يعطي للشخصيات التأريخية صورة اخرى أكثر انسانية مختلفة عما درسنا عنهم في المناهج الدراسية والتي كانت محصورة في الفتوحات والحروب فقط .

إشترك في قائمتنا البريدية