«ساق البامبو»… بين التلقي القرائي والدرامي

عندما صدرت «ساق البامبو» استبشرت وكتبت حينها بأنها رواية صالحة وجاهزة للتحول إلى عمل درامي، حيث وصفتها آنذاك بأنها «نص درامي جاهز للترحيل مباشرة إلى الشاشة»، من منطلق كونها قطعة أدبية تعادل الوثيقة الإنسانية، وتتوافق بشكل كبير مع مفهوم الدراما، الذي رسم معالمه مارتن إسلن، أي (كسجل اجتماعي يؤرخ للظواهر والتحولات).
فهي كرواية تختزن في طياتها تقنيات الاتصال الدرامية بين البشر، حيث استطاع سعود السنعوسي تحويل مجمل الأفكار والتصورات المجردة التي ابتنى بموجبها روايته إلى علاقات إنسانية نابضة.
واليوم تحولت الرواية إلى مسلسل درامي من إنتاج (الصباح بيكتشرز)، وإخراج محمد القفاص، ويُتوقع أن يُعرض في مستهل رمضان بعد معاناة مع الرقابة، وهو الأمر الذي يطرح متوالية طويلة من التساؤلات في صميم العمل محتّمة بشهرة الرواية ومقروئيتها العالية، وهذا هو أول التساؤلات، حيث يمتلك كل قارئ تصوره الخاص للشخصيات والأحداث والمواقع، لدرجة أن بعض القراء عبروا عن قلقهم من تحويل رواياتهم الأثيرة إلى مسلسل خليجي، بالنظر إلى السمعة المتدنية للدراما الخليجية.
وقد انتشر قبل مدة على مواقع التواصل الاجتماعي بوستر متخيل للمسلسل تتوسطه الفنانة حياة الفهد في دور الجدّة (غنيمة)، من تصميم مشاري محمد العبيد حسب مقروئيته للرواية وإعجابه بها، إلا أن الدور الحقيقي أنيط بالفنانة سعاد عبدالله، كما حمل البوستر صورة الفنان خالد البريكي في دور (راشد الطاروف)، إلا أن الدور الحقيقي كان من نصيب عبدالمحسن النمر وهكذا، وهو الأمر الذي يشي بوجود قراءات متغايرة، وأن أفق توقع القارئ يختلف عن مرئيات فريق العمل، كما أن قيام فيصل العميري بأداء دور (غسان) ببشرته السمراء يثير السؤال عما إذا كان في الرواية ما يعزز هذا الخيار لشخصية على درجة من الأهمية في الرواية باضطلاعها بدور أحد أبناء (البدون).
كذلك يبدو السؤال مشروعاً ومربكاً عما سيفعله السيناريست رامي عبدالرازق بكل مقولات المناضل الفلبيني خوزيه ريسال، وهي التي تشكل المظلة الفكرية للرواية، وأعتقد أنه سيتخفف من كل تلك الحمولة الأيديولوجية ويكتفي بالمستوى الحكائي للرواية، حيث سنكون أمام مسلسل يغلب عليه الحسّ الاجتماعي بمعناه التقليدي المتوارث، بحيث تكون الفلبين مجرد هامش لاستيلاد الشخصية المهجنة (عيسى/خوزيه) التي يؤديها وانهو شونج، وهو الأمر الذي قد يفرغ الرواية من أثرها الجدلي، كما ستضغط اللهجة الخليجية بكثافتها على إيحاءات الرواية ودلالاتها، إلى جانب ما يمكن أن تؤديه الأبعاد التجارية للعمل من انزياحات بالرواية عن مقاصدها.
أفترض أن سعود السنعوسي على مقربة من المسلسل، وهو الأدرى بمخلوقاته الروائية، وبالتالي فهو لن يترك أي مجال للتأويل أو العبث، لا بشخصيات الرواية ولا بسيرورة الأحداث، كما يفترض أن يكون مدافعاً وحريصاً على إبراز النص التحتي لروايته، وعدم الاكتفاء بعرض سطح النص في قالب من التشويق والإثارة، وهذا ما نتأمله وسنتابعه أيضاً من خلال هذا المنظور، أي عبر عمل درامي يعكس الواقع الاجتماعي، ولكنه لا يتطابق معه بشكل مرآوي، أي يمثل روح الحياة وليس صورتها، وهو احتمال يشترك فيه كل من سيشاهد المسلسل ليطابق أفق مقروئيته للرواية مع ما صارت عليه درامياً، حتى المشاهد الذي لم يقرأ الرواية سيجد نفسه أمام عمل درامي نواته صلبه، ولكنه قد لا يلامس ارتداداته المفهومية العميقة.
الرواية مكتوبة بالعربية، ومروية بصوت فلبيني، اعتماداً على مقولة خوزيه ريسال «أن من لا يحب لغته، هو أسوأ من سمكة نتنة»، فهل سيحافظ المسلسل على هذه النبرة المتعالية في السرد؟ لا أعتقد، لأنها لا تتناسب مع شروط الدراما التي تعتبر أكثر أشكال الفن قرباً من المجتمع، وهو الأمر الذي سيحتّم إجراء عمليات تطويعية عميقة في بنية النص، وربما تخفيض المستوى الصوتي للناشطة الحقوقية (هند) مثلاً، التي تؤدي دورها فاطمة الصفي، بحيث ينحى المسلسل إلى صراع تقليدي حول إرث عائلة (الطاروف) واسمها وسمعتها، أي العمل على أدنى درجات البعد الهوياتي، وهو الأمر الذي سيبعثر الخيوط الزمانية والمكانية المشدودة بقوة في الرواية.
أظننا سنكون أمام حكاية بيت ملعون، بيت الجدّة (غنيمة)، البيت الذي «من بابه الخلفي تأتي اللعنة، ولا تدخل من بابه الأمامي البركة»، ولا أدري كيف ستحضر هذه العبارات المزلزلة ومثيلاتها المتزاحمة في الرواية، التي تلقي بظلالها الكثيفة على واقع ومآل البيت الكويتي الكبير؟ كما أترقب التقنية التي سيعتمدها المخرج لتركيب صوت وصورة (خوزيه) على صوت وصورة (راشد)، وإرسال تلك الدفقة الشعورية الجارحة إلى وجدان الجدّة (غنيمة)،
كذلك أتساءل عن الهامش الذي سيتاح لخوزيه في المسلسل للبحث لنفسه عن إسم ودين ووطن، فهذه مناطق وعرة ولا تتحمل الالتفاف عليها بأي مبرر، وعما يمكن إتاحته لصوت سعود السنعوسي الناقد للمجتمع المهترئ بالظهور والتمثّل على الشاشة، لأن هذه المتوالية من الترقبات وغيرها هي التي ستحكم على جانب مهم من نجاح المسلسل.
عيسى أو خوزيه، المعلّق على قشة من الحُبّ، لم تنصفه أوراقه الثبوتية ولا القوانين، أما معضلته الكبرى فتتمثل في محاولاته للالتصاق بوطن له وجوه عدة، وكلما اقترب منه أشاح بوجهه عنه، فعندما يتلبس اسم (عيسى) يصير ابن الشهيد، وعندما يلتصق باسم (خوزيه) يصير ابن الخادمة، ولذلك كان يكره أن يسمع اسمه بين شفتي جدّه الداكنتين في الفلبين، ويحبه بين شفتي جدّته في الكويت، وكم كانت خيبته كبيرة عندما سمع (عواطف) تقول له «الله لم يخلقك لتكون هنا»، وكل هذا اللهاث وراء النبع الذي جاء منه يحتاج إلى حبكة درامية موجعة، أعتقد أن الرواية قد قدمتها على طبق من ذهب للقائمين على العمل، ولذلك سيقع على وانهو شونج، المعروف بأداءاته الكوميدية عبئا كبيرا لتجسيد تلك المآزق.
خوزيه شجرة بامبو، حاول سعود السنعوسي استزراعها في الكويت كأرض وعندما تعب غرسها داخل رواية، ويفترض بالمسلسل أن يتمكن من توطين هذه الأفكار في وجدان المشاهد، من خلال صرح درامي مؤسس بلغة مفهومة ومشوقة، وعليه، أعتقد بأن المسلسل سيتخفف من أسلوب الاستعارات الشعرية والصور الغنائية المزدحمة في الرواية، وربما يضعنا المسلسل مرة أخرى أمام إشكالية من إشكاليات المسلسلات الخليجية، أي أن نتورط في مشاهدة المسلسل كملهاة أو مأساة، على الرغم من كون الرواية تتسم برؤية موضوعية، ويمكن من خلال مقاربتها كموضوع فارط الحساسية الارتقاء بها درامياً إلى مستوى النظام الاجتماعي.
من المبهج أن تتحول رواية رائعة كرواية «ساق البامبو» إلى مسلسل تلفزيوني، وهو خيار فني طالما تمنيناه لتجويد الأعمال الدرامية، أي الاعتماد على النصوص الأدبية كمرجعية عوضاً عن الارتجال، لأن الدراما شكل من أشكال الفكر والوعي المتقدم، وهي أدب في المقام الأول، وفي الوقت ذاته الذي نعبر فيه عن الاستبشار، لابد أن نفصح عن هواجسنا وملاحظاتنا، فمن المعروف أن السيناريست لن ينقل الرواية كلها إلى الشاشة، بل سيستخلص منها ما يراه مناسباً لعمل درامي، كما يحدث في كل الأعمال المأخوذة عن روايات، وهنا نفترض أن استخلاصاته ستكون جوهرية، وستمكن القارئ الذي عشق الرواية أن يراها على الشاشة كما عانقها وعيه وذائقته.

٭ كاتب سعودي

«ساق البامبو»… بين التلقي القرائي والدرامي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية