أمريكا… ليلة «الباشا بازي»

أن يتسبب إطلاق للنار من قبل شخص واحد في وفاة خمسين شخصا مع إصابة عدد أكبر من ذلك فهي مسألة غير مفهومة على الإطلاق، خمسون إصابة قاتلة كانت لتضعه بطلا للعالم في الرماية بالأسلحة النارية.
ولكن لنفترض أن خبرته بوصفه عاملا سابقا في شركة أمنية مرموقة، بالإضافة إلى الفوضى والتدافع أديا معا إلى الرقم الكبير من الضحايا، فما الذي يمكن أن يبرر الدفع برهاب المثلية الجنسية بوصفه دافعا لارتكاب مجزرة أورلاندو، ولا سيما أن عمر متين من مواليد مدينة نيويورك، حيث لا تشكل المثلية أي صدمة اجتماعية أو ثقافية.
هذه النوعية من التساؤلات لا تعني ميلا لنظرية المؤامرة بوصفها الطريقة السهلة لتفهم العملية في سياقات تحولات كبيرة في المجتمع الأمريكي، ولكنها تساؤلات ضرورية قبل الاقتراب من الدوافع الحقيقية التي تقف وراء أكبر عملية إطلاق نار عشوائي تشهدها الولايات المتحدة في تاريخها.
الأب من المتعاطفين مع المجاهدين الأفغان، وطرح نفسه مرشحا لرئاسة أفغانستان من خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة أفغانية، وهذه المسألة تدلل على وجود المسألة الأفغانية حاضرة في منزله أثناء نشأة الابن، ولكن قبلها وبصورة خطرة، تضخم الذات لدى الأب الذي جعله يتصور وهو من دون تاريخ واضح، أو منجزات مهمة قدرته على إدارة بلد غارق في المشكلات مثل أفغانستان، ويبدو أن شخصية الأب كانت تمثل الطاغية الشرقي الذي يصدر إحباطه الشخصي لأطفاله ويجعلهم رعاياه الافتراضيين، الذين عليهم أن يخضعوا لعظمته المنزلية، ومع ذلك فإنه من الصعب على الشخص الشرقي أن يغتال صورة الأب في داخله، على ما في ذلك الأمر من ضرورة ملحة من أجل التعايش مع عالم تتساقط فيه السلطات التقليدية لتخلي مواقعها لأخرى جديدة مثل الترفيه والتواصل.
عُرف عن عمر الذي التحق بالمدارس الأمريكية ميوله العنيفة، ويمكن من خلال التأمل في تاريخه الشخصي أن يلحظ استغراقه في نمط حياة يقترب من البلطجة، وتظهر صوره التي تناقلتها المواقع الإلكترونية مسحة من الاعتداد الكبير بالذات يصل إلى درجة النرجسية والغرور، وتوضح تصريحات زوجته السابقة معاناته من السلوك ثنائي القطبية، وهو حالة نفسية تتسم بالتأرجح المزاجي بين أقصى حالات الرضا عن الذات والامتلاء بها وبين السقوط في اليأس والاحباط وفقدان أي تقدير للنفس، وبين الذروة والحضيض هاوية عميقة تحرض الشخص على كراهية ذاته وإدانة العالم بأسره، الذي يعتبره مسؤولا عن شقائه وتعرية تفاهته وضآلة شأنه أمام نفسه والآخرين.
شخص ذكي مثل عمر متين استطاع أن يتحصل على درجتين في العلوم من كلية متوسطة كان في الغالب يتطلع إلى فشله في تحقيق مكانة مرموقة بكثير من المرارة والغضب، ويبدو أنه لم يصبح محاميا مثلا جراء أسباب اجتماعية واقتصادية دفعته لأن يرتضي بوظيفة بسيطة في شركة للأمن، ولكن ضمن خريطة صحته النفسية فمن الصعب عليه أن يقدم الاعتراف بحالته وأن يستكين بالكامل قانعا بظروفه، إنه يبحث عن تحقيق ذاته بأي طريقة، وليكن عملا قويا ومرعبا، ولذلك فالعملية التي نفذها لا تختلف كثيرا عما أقدم عليه الشاب جيمس هولمز في كولورادو حين أطلق النار على رواد الحفلة الافتتاحية لفيلم «الباتمان» سنة 2012.
الإسلام الراديكالي أو الأصولي، كما وصفه مرشح الرئاسة ترامب غاضبا من تجاهل الرئاسة الأمريكية لتجاهله، بوصفه دافعا أساسيا للهجوم الذي نفذه متين، يبدو بعيدا عن حالة الشاب الأفغاني، الذي يتشابه مع قطاع عريض من الشباب الأمريكيين الذين لم يجدوا حاضنة إجرامية لاحتضانهم مثل المافيات الإيطالية أو المكسيكية، فأخذت ميولهم الإجرامية صفة شخصية للغاية، الجريمة من أجل الجريمة ذاتها، الموت المزدوج الذي يحقق الخلاص لشخصية بقيت تعاني من الانهيارات المتتابعة بين الذروة والحضيض، والانتقام من المجتمع الذي أدانه متين بكل تصرفاته العنيفة والاستعلائية.
لا يمكن بالطبع أن يجري عزل جميع العوامل المرتبطة بديانة عمر متين، ولكن يبقى الدين عاملا يظهر في المرحلة الأخيرة عند اتصاله بالشرطة ليربط نفسه بتنظيم «داعش» وهو ما يظهر أقرب للتصرف الارتجالي منه إلى الانتماء الحقيقي القائم على قناعات عقائدية معينة، وقبل الدين يأتي عامل الثقافة المحلية الأفغانية التي تعتبر الشواذ جنسيا أدنى من مرتبة البشر، على الرغم من شيوع ثقافة الغلمان الـ(باشا بازي) في أفغانستان، إلا أنهم عادة ما ينتمون إلى القبائل الصغيرة والأقليات المستضعفة، ولذلك فالهجوم على أحد أندية المثليين، وضمن ثقافة المعتدي، يعد عملا يتسم بمسحة بطولية، كما أنه يعفيه من أي تردد قائم على الاحتكام لضميره الشخصي، كما أن الثقافة الأفغانية الذكورية لدرجـــة كبيرة، وبغض النظر عن العامل الديني، تفسر أيضا ميوله العدوانية تجاه المرأة التي هي الأخرى أداة أقل في المرتبة من الرجل.
متين شاب بقيت ثقافته المحلية حاضرة في منزله، ومن خلال شخصية أبوية بقيت تسكن في جبال أفغانستان معنويا، بينما كان حضورها في الحياة الأمريكية دافعا لتعميق شعور الاغتراب، والابن كان عليه أن يضرس الحصرم وهو يفشل في دخول الحياة الأمريكية، لأن والده ببساطة لم يترك له المجال بأن يندمج فيها مثل كثيرين غيره من أبناء الجاليات المهاجرة، وذلك من خلال استحضار الأب الدائم لأفغانستان حتى وصلت إلى مرحلة الهوس المتبدي في ترشيح نفسه لرئاستها، ويبدو أن سلطة المنزل لدى العائلات المهاجرة، خاصة في حالة الأب المهيمن تبقى عائقا أمام اندماج الأبناء، فهل يمكن أن نفسر ما حققه أشخاص مثل ستيف جوبز (مؤسس شركة أبل) والرئيس أوباما بتغيب الأب أساسا من حياتهما.
يبدو أن الصراع في حياة متين اتجه ليطغى فيه جانب الاغتراب والانفصال على المجتمع، مع الميل المرضي لأصوله الأفغانية حين تقدم وهو في العشرين من عمره بطلب ليضيف اسم (متين) في خانة العائلة في أوراقه، وبحيث استدعى الاسم الأفغاني ليعلن أمام نفسه يأسه الكامل من الحصول على الاعتراف في المجتمع الأمريكي.
من السهل إدانة عمر متين، ومن الأسهل أن يزج بالإسلام سواء الراديكالي أو المعتدل في هذه الحالة، وهذه الوضعية ستجعل مزيدا من التضليل يحول دون تفهم جذور العنف الإجرامي ذي الخلفيات النفسية في المجتمع الأمريكي، التي يجب تفهمها ضمن ظروف المجتمع الأمريكي وعلاقاته الطبقية وأزماته الداخلية، فالحادثة ارتكبها شاب مسلم ربما تراجعت فرصه في التقدم ضمن الشروط الأمريكية بعد سبتمبر 2001، ولكن ذلك لا ينفي فرصة أن يخرج شاب آخر لاتيني أو آسيوي بفعلة مشابهة، أو حتى أمريكي أبيض مثل هولمز صاحب ليلة الباتمان.

٭ كاتب أردني

أمريكا… ليلة «الباشا بازي»

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامح // الاردن:

    * بعيدا عن التحليل والتنظير.
    * هذه جريمة وعمل ( ارهابي ) من قبل
    شخص معتوه وقاتل والاسلام العظيم السمح
    براء من أفعاله الاجرامية.
    سلام

  2. يقول خليل ابورزق:

    مقال ممتاز و يطرح القضية من زاوية اجتماعية غير مطروقة
    استوقفني قول الكاتب عن والد عمر الذي فكر في الترشح لرئاسة افغانستان “تضخم الذات لدى الأب الذي جعله يتصور وهو من دون تاريخ واضح، أو منجزات مهمة قدرته على إدارة بلد غارق في المشكلات”. و لم يكن الكاتب بحاجة الى تفسير ذلك بناء على الموروث الثقافي الشرقي. فيكفي عذرا للوالد ان يرى العشرات مثله و قد يكونوا اقل ينقلبون عسكريا و يترأسون بلادهم “من دون تاريخ واضح، أو منجزات مهمة قدرته على إدارة بلد غارق في المشكلات”. الم نر هذه الحالة في اكثر بلادنا العربية و بعض البلاد الافريقية.
    و لا استغرب اذا وجدنا العديد من ضباط الجيش الذين يرون انفسهم افضل ممن قام بالانقلاب و احق منه و الالاف من رجال (و نساء) البلد الذين يرون انهم اقدر و افضل و معهم الحق.

  3. يقول عبدالله -العراق:

    هذه العملية مخصصة للمرشح الجمهوري ترامب…….اكيد رفعت نقاطه…..وهي تضر بمصالح اللمسلمين في الغرب…. على الحكومات الغربية ايجاد حلول لمناطق النزاع….لان مهما كانت منظومتهم الامنية قوية…….فلا يستغرون.. وصول الرماد اليهم……الله نسالك سلام دائم بكل ارجاء المعمورة

  4. يقول بشار:

    هي فقط مؤامرة لصالح انتخاباتهم القادمة
    و هناك كتاب مشهور للقراء(المخابرات و تقرير مصير الشعوب) و شارك في هذا الكتاب سبعة ضباط لدا المخابرات الامريكيه و يتحدث الكتاب عن سياسة ترويض الشعوب و خطف الثورات و ادارة الاعلام
    من ايام الحرب الباردة وصولا لليوم

  5. يقول Rabih Alrabi:

    اعتقد ان مواجهه عمر متين لصراع داخلي بين قناعتين وسلوكين مختلفين صحيح, ولكنه ربما كان ليس بالكيفيه التي عرضها الكاتب, فاءذا صحت الاخبار حول تردده على النادي الليلي الذي هاجمه وظهوره في بعض التطبيقات الخاصه بالمثليين فهذا يشير الى شيئا” واضحا” وهو ميوله المثليه الشاذه ولكن كانت لديه مشكله وهو عدم قناعته بظهور هذه الممارسات الشاذه الى العلن ولابد من بقاءها كممارسات سريه وهو الامر الذي يناسب الشواذ امثاله على اعتبار انه ينحدر من مجتمع مسلم ومحافظ. ورغبته في الانتماء الى مجتمع الشواذ كانت تصدم بتوجه المثليين الى الاعلان عن انفسهم وممارسه شذوذهم بالعلن ضمن تجمعات ونوادي ومراكز ترفيهيه تجعله عرضه للفضيحه التي كان يتجنبها, وما يدعم هذا الاعتقاد هو استياءه من رؤيه اثنين من المثليين يتبالان القبل في الطريق العام. مشكله هذا الشاذ هي انه كان يرى فضيحته كلواطي قادمه لا محاله اذا ما استمر في التردد على تجمعات المثليين وممارسه شذوذه وهو الامر الذي لم بمقدوره مقاومته فأقدم على حسم امره بقتل هذا العدد من الاشخاص في اتهام ضمني لمجتمع الشواذ بالمسؤوليه عن صراعه الداخلي.

إشترك في قائمتنا البريدية