قُلْ: كلّ بيتٍ في الشآمِ مهدّمٍ بيتِي، ولدتُ به ومتُّ؛
وكلّ شيءٍ قد يضيعُ وقد يَبِيدُ، سوى الذي كنّا فقدناهُ صغارًا؛
فهْو باقٍ، لا يضيعُ ولا يبيدُ.. وقد يُلِمُّ بنا على قلقٍ كخطف النبضِ
قُلْ: لي هذه الأسماءُ أسمائي على حيطان من رحلوا..ومن قُتلوا وأشيائي!
وكانَ عليكَ أن تمشي وئيدا في كلامكَ.. أنتَ!
نحن نقيمُ في لغةٍ لنا أبويّةٍ (هيَ قبرُ أمّي!)
قُلْ: نساءُ اللهِ في التوراةِ والإنجيلِ والقرآن منسيّاتُهُ!
قُلْ: هنّ سِرْبُ ظلالِهِ!*
فكّرتُ في هذا الخرابِ، أنا احتشدْتُ لهُ بكلّ لغاتِهِ،
بِمدافنِ القتلى، بكلِّ عظامِهمْ (كلماتُهمْ محفورةٌ فيها)،
بكلّ عيونِ سُوريّاتِه مشدودةِ الأطرافِ، فاغرةٍ؛ إلى الأشياءِ..
كانَ الله أكثرَ رهبةً منّا.. وأكثرَ وَحْشةً.. وَإِخَالُهُ نَدْمانَ
منذ خطيئة التفّاحِ.. في فردَوسهِ!
قلْ: ما الذي يَسْطِيعُهُ هذا اللسانُ إزاءَ زلاّتِ اللسانِ!؟
وما الذي نَسْطِيعُهُ!؟*
البحرُ يوقظ ليله الأبديَّ في طرطوسَ،
أنزلُ واجسًا؛ وأنا أثبّتُ جيّدا قدَمَيَّ حيثُ الأرضُ تسْترخِي
لماءٍ كان يُجْرِي في ثناياها مَجَازَ الماءِ..
غادرتِ السفينةُ.. ليسَ غيرُ دخانِها في الأفْقِ؛
إذ تترنّحُ الأشجارُ أبعدَ كالصواري
خِلْتُ أنّي قد سمعتُ نعيبَ غرْبانٍ (تراهُ أزْدَرَخْتٌ يابسٌ يعْوي!
ولكنْ هذه طرطوسُ لا حلبٌ!)
وليسَ هناكَ إلاّ شمْعَدانَاتُ الغُصُونِ،
وغيرُ أضواءِ الحباحبِ.. مَنْ إذنْ!؟
***
أروادُ دفْءُ هوائها لَزجٌ..
وضيّقةٌ صباحًا.. كنت أقفزُ.. ثمّ أغطسُ.. ثمّ أسبَحُ.. ثمّ أطفُو..
كانت الأمواجُ أشجارًا لنا..
(هل قلتُ أطلنْطيدُ في قعْر البحارِ!؟)
الماءُ كان يُرمّمُ الألوانَ في أروادَ.. أذكُرُها بثوبٍ دافئٍ..
الصدرٌ مثلُ تُويْجِ زهرةِ لوتسٍ.. والشعرُ سلّورٌ..
وأذكرُ ربْلةَ ساقِها ممْدُودَةً..
ـ لا خمرَ في أروادَ.. لا عرَقٌ!
«رسائلنَا مطرّزةٌ، إليهمْ.. في مناديلِ الحريرِ..تقولُ: هذا رسْمُ أقدامي إليكَ.. هناكَ.. في إيجه!»
وأذكرُ ضحْكةً.. ويديْنِ نائمتيْنِ.. ناعِسَتيْنِ..
*في رحلتي الأولَى على الأقدام.. حيثُ الأرضُ من تحتي تميدُ..
الريحُ تحتَ جفونِنا، الأنهارُ تمرقُ كالنيازِكِ؛ لم يكنْ إلاّ الربيعُ الصيفُ في كلّ الشآمِ، الأرضُ بستانٌ لنا مُحْدَودِبٌ..
وعرفتُ أنّ هناكَ للأبديّة البيضاءِ بعد الحربِ، ظهرًا مستديرًا كالسماءِ، وربّما مُحْدَودِبٌ أيضًا.. وَأنّيَ قد أعودُ.. ولا أعودُ!
وللعبورِ إلى دمشقَ،
عليكَ أن تمشي وئيدا في وريدِك أنتَ.. بينَ نعمْ! ولاَ!
ما بينَ تابوتيّنِ: تابوتِ ابن رشدٍ!
ظلِّكَ الممدودِ من مرّاكشَ الحمراءِ حتّى فجرِ قرطبةٍ،
وتابوتٍ لمحي الدينِ! من غاباتِ مُرْسِيَةٍ إلى الصحراءِ..
حتّى الصالحيّةِ حيثُ زَخرفةٌ مُنمْنمةٌ بِه.. في رُبْع دائرةٍ..
ـ تأخّرْنا بِبابكَ..غير أنّا قد وصَلْنا..
وليكنْ! عند اختتامِ الحفلِ..
لا نايٌ سيصدَحُ في أصابعِنا.. ولا إيقاعُ داليةٍ..
وأسْورةٍ.. وأقراطٍ مدوّرةٍ كهذي الأرضِ..
واسعةٍ كهذي الأرضِ..
بينَ نعمْ! ولا! ستطيرُ من أجسادِها الأجسادُ والأرواحُ..
لكنْ هرُّكَ الشاميُّ !؟
قُلْ للفاتحين مَغالقَ التابوتِ: ذي مدنٌ بلا أبوابها بُنيتْ..
ولا شبّاكَ فيها، غير طاقٍ زخرفيٍّ.. كان تلْطؤُهُ العناكِبُ!
قُلْ: أنا عوّدتُ نَفْسيَ»لا وجودَ لمن أسمّيه [أنا] قبْلي ولا بعْدي..
فلاَ خوفٌ ولا قلقٌ!»
وقلْ: هذي الحياةُ ـ وكنتَ قد سمّيتَها قلاّبةَ الصفحاتِ ـ تعزِفُنا بطيئًا..
ثمّ تطوينا سريعًا!
واقعيُّونَ الحياةُ تُلمُّ بنا
ولكنْ لا تَمسُّ طفولةً فِينا..
أنا في ذروةِ الأصواتِ أهبطُ بئرَ صمتي.. أفتحُ الأبواب لي..
في الشامِ..كالجاموسِ يرفع قاسيونٌ.. ظهرَهُ..
وصعدتُ.. مفرودَ الجناحِ..
نظرتُ.. فوق عموده الفقَريّ، تستندُ البيوتُ إلى البيوتِ
كأهلنا استندُوا بشكلٍ لولبيٍّ.. قلتُ ثمّةَ روضةٌ سُفلى
لمحي الدين؛ كنت أجلسُ عندها..
بزعانفٍ خضْرٍ وريشٍ.. كان لي فيها وسادٌ
من غبارٍ ناعمٍ.. أو خافقٍ..
متبسّما أصغي لحلمِي الآنَ إذْ أدنو من السبعينَ كالحلزونِ
(في وَجسٍ) أقولُ الحلمُ أحجارٌ على الآفاقِ، لامَرْئيّةٌ.. أبدًا..
وأعرفُ لا ذئابٌ.. لا ثعالبُ.. لا ثعابينٌ..
سِوى رَجلٍ يُقرفِصُ مثل بُوذا..( جذعُ تمثالٍ
تُراهُ أنتَ!؟ )
كُوعاهُ إلى مَطْويِّ ركبتِه..
تراهُ كانَ محي الدين يبسطُ لي ذراعيهِ،
ويكشفُ لي أنا أسرارَ كيمياءِ السعادةِ!
ولْيكنْ علمُ الحسابِ هو الطبيعة نفسهَا!
لا فرقَ بين معابدي وكنائسي ومساجدي.. وبيوتهنّ السوريَاتُ الشامخاتُ الساحباتُ ظلالهنّ على سطوحِ الصالِحيّةِ.. في ليالي الصيفِ.. ليلةَ لا نُهاةٌ.. لا زَواجرُ.. كُنّ يَسْتنبتْنَ أجنحةَ النوارسِ والسنُونو.. هُنّ.. أوْ يُطلِلْنَ من أخشابِ نافذةٍ مُخرّمَةٍ.. وقد يبْسِمنَ أو يضحَكنَ.. للغرباء مثلِكَ.. قلْ: نساءُ غَدَامسٍ في ليْلِ إفريقيّةٍ، حيثُ السطوحُ أزقّةٌ؛ يسْرينَ من سطْحٍ إلى سطْحٍ.. وفي وضَحِ النهارِ.. ونحنُ من تحتٍ؛ نشمُّ ظلالهنّ على السطوحِ، وربّما وقعتْ علينَا!
قُلْ: لنَا أسواقُها مسقوفةً.. أبوابُها من فضّةٍ.. ذهبٍ.. وعاجٍ..
إذ تقدّمُ نفسَها.. كالفجرِ وادِعَةً..
سواكفُها كمَا عتباتُها أطواقُ أزهارٍ وأسفاطٌ..
لزيّاحِ القرابينِ المُقدّسةِ العرائسُ والقواديسُ التماثيلُ الشموعُ..
وتحتها تتلامسُ الأكتافُ والأجسادُ، لكنّ المسافةَ بينها تبقى المسافةَ..
كلّ شيءٍ ريّقٌ كالموتِ فيها.. طاعنٌ مثل الحياةِ.. ونحنُ كنّا ظلّها المعكوسَ..
لوْلاَ نسوةٌ في الصالحيّةِ يقْتعِدْنَ الأرضَ.. خصرٌ منْثنٍ من ثقْل أردافٍ.. وأثداءٍ.. وأحزانٍ..
ولوْلاَ تينةٌ خضراءُ.. نافرةُ العروقِ تطلّ من أبدٍ.. بجذعٍ داكنٍ أوْ أرْعَنٍ وكأنّها «البو» يُطلُّ.. على دمشقَ قوامُهُ القوطيُّ.. أوْ تلتفّ حول جذوعِها بزعانفِ الأسماك.. أو مثل الحبالِ..
يقولُ للحلاّج حبلٌ مُلتوٍ:
ـ «لا تختنقْ بي !»
ـ «جذلانُ في أبديّتِي.. وبِهَا.. ودِيني.. لا إلهَ لهُ..»
***
فكّرتُ في نفسي وفي لِدَتي.. وفي أهلِي… كمنْ يُشْفِي على موتٍ قريبٍ،
قلتُ ذا جسدِي يرافقُني إلى طرفِ الحياةِ..
وقلْتُ ذا صمتٌ كسيحٌ
كان معقودًا على لغة مبلّلة بِهِ!
أُحْصِي على طرَفِ الأصابعِ مَنْ تبقّى مِنْهمُ
ـ برَدَى أتجري موحلاً!؟
أشربتَ قتلاهُمْ إذنْ!؟
***
هلْ ثمَّ شيءٌ كان يسْري؟ الصمتُ؟ دفءُ هوائِهِ؟
للخوفِ رائحةٌ.. وكنتُ أشمّها في الشام.. كلِّ الشامِ..
رائحةُ كمَا لو أنّها الأعشابُ حينَ تُجَزُّ..
رائحةٌ لهُ بحُموضةِ الليمونِ يَدْعَكُنا..
كأنّا لمْ نكنْ!
***
في تدمرٍ.. والشمسُ تزحفُ فوقَ أحجارٍ مبلّطةٍ..
وتُصْميها.. وتصْمينا..
وتسلقها.. وتسلقنا..
تشبُّ على قوائمِها الخيولُ.. إلى متاهات الغيومِ.. خيولُ زينوبا
وأبعدَ حيث كان الأخضرُ البرّيُّ لونُ الموزِ ذيْلَ حصانِها في الريحِ؛
كان السلّمُ الصخريّ يصعدُ.. ثمّ يصعدُ..
حيث تتّكئُ السماءُ به على التيجانِ..
عصفورانِ كانا يحملانِ سواكِف البنيان!؟ قلْ:
لاشيءَ كالصحراء يشحذُ ناظري..
لاشيءَ يشبهُ شيئَهُ..
حتّى نباتُ الكلْسِ.. حتّى وردةُ الصحراءْ!
***
برَدَى يُقَطِّرُ ماءَهُ في حلْقِ مُحتَضَرٍ.. ويمضي مثلهُ!
***
سأنامُ في موتي.. وأحلمُ فيه.. ثمّ أعودُ.. ثمّ أموتُ..
موتًا كاملاً في مائهِ البنّيِّ حيث القاعُ
في بَردَى لحاءُ صنوبرٍ.. أو هنْدِباءٍ..ربّما
يومًا بزغْنا في بنفْسَجِ زهْرِها!
***
ضوءٌ شحيحٌ يصبغُ الأشجارَ.. في ليلِ الحديقةِ.. ها هنا
في ليلِ إفريقيّةَ الخضراءِ..
ضوءٌ قيروانيٌّ يضنُّ عليكَ بالمعنى!
ولكنّا رحلْنا عن بلادٍ لم نَصِلْها!
٭ شاعر تونسي
منصف الوهايبي
تحياتي : شكراً لك أستاذ منصف الوهايبي.إنك رائع في رسم صورة كلوحات بيكاسو.شاعرية جمعت بتصوّف العلووالسّمو؛ كإنجيل الشام المتلو.