غياب التواصل وصعود التعصب

حجم الخط
3

من أهم أسباب الفوضى السياسية التي تعم المجتمعات المدنية العربية، والصراعات الإثنية والمذهبية والقبلية التي تستهلك طاقة المجتمعات، بحيث لا يبقى من هذه الطاقة شيء لتوجيهها للبناء التنموي والحضاري، عدم وجود ممارسات التواصل بين مكونات تلك المجتمعات.
ونعني بممارسة التــــواصل وجود رغبة حقيقية للتعرف على فكر وشكاوى ومعاناة وآمال الآخر، ومحاولة إجراء التحاور الهادئ المنفتح المتسامح معه، ذلك التحاور الصادق الشَفاف الذي يحدد بالضبط ما هو مقبول وما هو مرفوض. وبمعنى آخر وجود منطلقات تحكم ذلك التحاور وتضبطه، منطلقات تقوم على العقلانية من جهة وعلى تحكيم الضمير الأخلاقي العادل من جهة ثانية.
هذا النوع من التواصل لم يحدث بين أتباع الديانات المختلفة، ولا بين أصحاب المذاهب الإسلامية المتعددة، ولا بين المنتمين لأحزاب وإيديولوجيات متنافسة، فالذي حدث هو تخندقات في جهات متقابلة، قائمة على الجهل شبه التام بما لدى الآخر، وعلى اختزال الآخر في شعارات وكلمات مثيرة وعاطــفية وغير قابلة للأخذ والعطاء. والنتيجة هي تأصل النزعة المجنونة لاستئصال الآخرين أو تهميشهم إلى حدود الإذلال والاستعباد، التي تحكم على الأخص الحياة السياسية العربية التي تحياها ببؤس وشقاء كل الأرض العربية.
وبالطبع فإذا كان غياب مثل ذلك التواصل يطبع العلاقات بين مكونات المجتمعات العربية المدنية، فإن غيابه أشدَ وأفجع بين مكوَنات المجتمعات من جهة وسلطات الحكم من جهة أخرى.
لقد عايش العرب في الماضي الصراعات بين القوى القومية العربية والقوى السياسية الإسلامية، بين الإسلاميين والاشتراكيين الماركسيين، بين ما عرف بأنظمة الحكم المحافظة وأنظمة الحكم التقدمية، وبين رافعي شعارات الأصالة المنغلقة ورافعي شعارات الحداثة الطائشة. وها هم اليوم يعايشون قمة بؤسها في الصراعات الدموية المتوحشة التي يرونها يوميا تحدث في العديد من أقطار الوطن العربي، وعلى الأخص مشرقه.
في قلب موضوع غياب فكر وممارسة التواصل، بتلك الصورة المشرقة التي ذكرنا، صفة حياتية اجتماعية لازمت العرب طيلة تاريخهم، صفة فرضت نفسها في أهم حقلين: حقل العلاقات القبلية، وحقل العلاقات الدينية والمذهبية. إنها صفة التعصب. والتعصب هو انغلاق فكري وشعوري على الذات ورفض فكري وشعوري لذات الآخرين. ويحار الإنسان من تجذر صفة التعصب المذموم في أمة تدعي أن وجودها قائم على حمل رسالة إلهية للبشر كلهم، قائمة على التسامح الإلهي مع البشر في شكل توجيهات واضحة كل الوضوح من مثل: «وجادلهم بالتي هي أحسن»، أو «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، أو إدفع بالتي هي أحسن (الحسنة) فاذا الذي بينك وبينه عداوة (لاحظ وجود عداوة وليس فقط خلاف) كأنه صديق حميم.
فإذا كانت أمة العرب قد اعتبرت أن روح ثقافتها هي ما جاء في تلك الرسالة الإلهية المنزلة، فكيف سمحت وتسمح بأن تقوم العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتها على التعصب المنغلق المتزمَت الأحمق، الذي هو نقيض لأي تواصل متفاعل متحاور مسالم؟ هل يريد الإنسان في أيامنا أن يتعرف على مقدار التعصب الذي تحياه مجتمعاتنا العربية؟ ما عليه إلا أن يقرأ ويستمع إلى ما يكتب ويقال، من خلال وسائل الاتصالات الإلكترونية المختلفة حتى يتعرف على الرذيلة الدنيئة التي يمارسها الملايين: رذيلة التعصب، التي تمارس باسم النقاء والطهر الديني أو باسم الوطنية أو باسم الهوية القبلية أو باسم الانتهازية السياسية.
غياب التعصب، وبالتالي الانتقال إلى ممارسة التواصل، يحتاج إلى تربية إنسانية عقلانية أخلاقية، تبدأ في البيت وتنضج في المدرسة والجامعة وتنتهي في مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات سلطات الحكم. فالبيت الذي لا توجد فيه علاقات أخذ وعطاء، قبول ورفض، هو سجن. والمدرسة التي لا يكون هدفها الأساسي هو بناء القدرات الفكرية القادرة على ممارسة التحليل العلمي والنقد الموضوعي والتساؤل والاستقصاء والتجدد الدائم والانفتاح على الآخرين وعلى كل ما يحيط بالإنسان، هي مدرسة لا تعلم نبذ التعصب ولا تربي على التواصل. وينطبق الأمر على مؤسسات المجتمعات المدنية ومؤسسات سلطات الحكم، التي إن غابت فيها حرية التفكير والتعبير والحوار والمشاركة في اتخاذ القرار، فإنها ستصبح واجهات خشبية ومياه آسنة تتعفَن فيها الحياة.
اليوم ونحن نرى الغياب التام لممارسة فضيلة التواصل العقلاني الأخلاقي بين الأفـــراد والجماعات والسلطات، في طول وعــــرض بلاد العرب، ندرك أن السكوت عن الرذائل في الأيام العادية لحياة الأمم سيقود إلى وقوف تلك الأمم عاجزة ومعتوهة أمام الحرائق والأزمات التي يتفنن البعض في إشعالها وتفجيرها.
هل هناك أفجع من غياب تام للقمة العربية، للجامعة العربية، للجبهات الوطنية، للتحالفات الإنقاذية في أمة يراد لها أن تموت؟ غيابها هو دليل على التجاهل التام لفضيلة التواصل في أيام الرخاء وأيام المحن.

٭ كاتب بحريني

غياب التواصل وصعود التعصب

د. علي محمد فخرو

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد حسنات اﻷردن:

    د. فخرو ،الله بالخير
    التعصب مرض إجتماعي لدوافع قبلية ،دينية ،طائفية ،جهوية …الخ لغياب دولة المواطنة ،والمؤسسات ،وسيادة القانون.
    إن اﻹستعلاء بما ذكرت آعلاة سببه ،عدم ترسيخ ثقافة القانون كمر جعية للحماية كبديل عصري لبدائية التعصب ،القبيلة والطائفة والمذهبية.
    والربيع العربي بتوجهاتة وشعاراتة المدنية السلمية مثال ،لكن دعاة الحفاظ على السائد ،ورفض التغيير ،مؤشر على عدم
    قدرتها أو رغبتها بالتواصل ،والتوافق المشترك لخدمة العباد والبلاد ،بحيث يكون الكل رابح ،ولهذا يستمر النزيف والجميع خاسر.
    تكفي خمس سنوات من العناد والمكابرة واﻹنكار ،وليتاح دور للعقلاء وغير الملطخة إيديهم بالدماء والمال الحرام للتوافق على حل.

  2. يقول خليل ابورزق:

    لعل اهم وسائل التواصل هي ما بين السطة و الشعب. و لا يستقيم الامر الا بكون السلطة منتخبة بشكل حر من الشعب محددة المسؤولية و المحاسبة.
    معطم العنف المجتمعي ناتج عن ردة فعل منع الحريات و القمع

  3. يقول على القزق:

    أرجو الإشارة إلى موضوع هام جداً وهو أننا بحاجة أيضاً إلى الإرتقاء بالمعلمين والمناهج والمؤسسات التعليمية. إننا بحاجة إلى تعليم المعلم والإهتمام به وبالمعاهد التي تخرج المعلمين لكي يكون لدينا المعلمين الذين يملكون آخر ما توصل إليه علم التعليم وتنشئة الأجيال، لكي يكون لدينا جيل مثقف واثق بالنفس، منفتح العقل، يحترم الآخر، ينتمي لوطنه وأمته، يعتز بثقافته العربية، ذو أخلاق ومبادئ وقيم. هذا هو طريق التغيير، وأعتقد بأن على الآباء والأمهات وأطياف الشعب والحكومة والمؤسسات من البرلمان إلى النقابات التعليمية والأكاديمية تقع مسؤولية إعطاء هذا الموضوع ما يستحقه من إهتمام.

إشترك في قائمتنا البريدية