تحتل الذّاكرةُ مركزا مهما في ميكانزمات الوعي السّردي للكاتب، كونها المنجم الذي تُصنَّع منه الحكايات الجديدة، بحثا عن عوالم مغايرة تنمُّ عن خزين متصاعد من اللحظات المفترضة في استعادة الصلات بين ما كان وما يمكن أنْ يكون، حيث الرّاوي/السّارد يتفانى في مخادعة الزمن؛ لغرض إعادة صوغه ماضيا وحاضرا ومستقبلا، أي صوغ ذاكرة الكتابة جماليا ليستحيل السّرد معها إلى زمن مستعاد تتجلى منه فرضيات الحكاية، لذا تستغل الذاكرة المصطنعة بطريقة منهجية موارد الكتابة، كونها لا تعتد باستحضار الوقائع فقط، بل تشدد على الانتقال من وعي الواقع إلى وعي ما فوق الواقع بعد أنْ أنتجتْ أشكال الرأسمالية لما بعد الحداثة بنى مُغايرة من ثقافة فقدان الذّاكرة، فأصبحتْ ـ الذّاكرة ـ (مُصْطَنعة) أكثر مما هي (مُمَثلة)؛ لأنّها تنتج مكوناتها السّردية اعتمادا على العلاقة الدينامية بين هذين المستويين، لتصور الحدث ــ واقعيا/فوق واقعي ــ بعيدا عن جذوره القريبة من الذهنية الرتيبة ، لتغدو ما بعد حداثية، كونها تشكك بالأنساق الفكرية الكبرى التي تغذتْ عليها الرّواية طويلا، وبهذا يتأكد أنّ النّزوع النّقدي للخطاب الرّوائي المعاصر يحتم استقصاء مقولات مأسسته معرفيا وهو يتبين على شكل (إدراك جماعي/وعي ذاتي) مكوّن لـ (ذاكرة مُنتجة)، تعمل على إنشاء (حدث مُسْتَرجَع) مغاير للحدث الممثل بوصفه نسخة جديدة مغايرة للواقع الحقيقي بواقع مفترض، يعتمد في بنائه على تركيبة معرفيّة من الكتابة الرّوائية، ظالتي تعتمد على مستويات اصطناع الأحداث، ممثلة بالحدث بوصفه (وعيا) ثم بوصفه (متخيلا) ثم بوصفه (ذكرى)، وهي جميعا مرتبطة بثلاثة أنماط من الذاكرة، (ذاكرة ذاتية) ذات طابع سايكولوجي، و(ذاكرة جماعية) ذات طابع سوسيولوجي، و(ذاكرة أدبية) ذات طابع ثقافي، تَعْمَل معا على تكوين كتابي مغاير للمألوف من يقينيات ومفاهيم ومعارف، يتمثل بنمط (ذاكرة مؤلفة) حيث الانتقال من ذكرى إلى أخرى عن طريق التداعي.
وإذا كان الجزءُ الأعظم من أعمالنا الرّوائية قد انساق معرفيا ومفاهيم، ضمن ما يمكن توصيفه بحسب طروحات فلسفة ما بعد الحداثة بــ(السّرديات الكبرى) حيث الانغلاق على رصد أيديولوجيات اجتماعية، مثل التقدم والتنوير والثورة والتحرر والعدالة وغيرها، في الوقت الذي كان فيه الجزءُ الآخر مبهورا بيوتوبيا الذات والانهمام بها والسّعي الحثيث لإثبات زمن (السّرديات الصغرى) حيث التمتع بفردية السّلعة وتأمين جودة عالية للحياة والانعزال بمنأى عن الجماعات بحثا عن خصوصية نرجسية في الأداء الحياتي، فإنّنا يمكن أنْ نشخص جزءاً نزراً من هذه الأعمال يندرج تحت ما سبق أنّ سميته بــ (السّرديات المُصَطنَعة)، السّرديات التي خضعتْ لمدار تنسيق المكونات المصطنعة عن النّسخة الأصل ونقلها إلى النّسخة المنتجة التي حاولتْ القفز مفارقة الكثير مما سبقها من نتاج، مع أنّها انطلقتْ منه؛ مؤسسة بذلك ذاكرتها الخاصة في بناء مقولاتها وتفوهاتها لتغادر الواقعية المباشرة والحدث التأريخي وأدلجة البطل المطلق بصوره الثقافية كلها، ولتبني وفق ذلك تقاناتها الخاصة مع وعيها بمفاهيم راسخة في أرض الرّواية الغربية والموروث العربي القديم والواقع المعاصر والتحولات الفكرية الكبرى والتغيرات السياسية ورمزية الحدث ودلالته التي حولتْ الفرد (بورجوازي الرّواية) إلى مجرد خرافة تتشكك أزاءها الميتاحكايات، فصار ضروريا العودة إلى ما رسختْه الكولينيالية، وما أثمرتْ عنه من نتائج لما بعد الكولينيالية، وغدا النّصُ مفتونا بسرد حكايته للوصول إلى ما وراء الذاكرة الإنسانية، ولم يكتفِ بذلك فقط، بل راح يبحث عن واقع جديد مغاير كسرا للقناعات ويقينيات التلقي، فسعى بذلك لصناعة واقعه الافتراضي محققا نمطا من التبادل المستحيل مع السّرديات الكلاسيكية جميعا، حيث العودة إلى الذاكرة الثقافية للرواية محاولا تصنيعها من جديد مذيبا في ضمن ذلك أنماطا راسخة من الحكاية الشعبية والخرافة والسّيرة وهويّة الأفراد وعنف الحرب وتأريخ الفئات المقموعة، لإنتاج (مسوّدة) من أطراس مغايرة/مضادة تقود الوعي المبدع نحو آليات جديدة، وتُأسس لدرجة كتابية مغايرة تتناسب مع الحساسية الجديدة لسرديات ما بعد الحداثة، الحساسية التي تسعى تحت هيمنة العالمية إلى ترسيخ مشروع ثقافة الــ(ما بعد) المُنتجة بتأثير ما بعد صناعية المجتمعات والثقافة المؤثرة التي تثير الشك أمام اليقينيات والثوابت جميعا، بمعنى أنّ الرّواية المعاصرة استطاعت بسبب هذه التحولات الكبرى ــ بنائيا ورؤية ومعرفة ـــ الوصول إلى مرحلة ما بعد الحداثة بوصفها مرحلة تأريخية معبرة عن سمات فكرية خاصة، والتحول جماليا نحو مرحلة ما بعد الحداثية بوصفها نمطا معرفيا جديدا يتقصد رفض السّائد والمقنن والرتيب، والعمل على اصطناع عالم خيالي مغاير في قوانينه التي انتقلت من الواقع إلى (ما- فوق) الواقع تحت مؤثرات العالم الافتراضي بسبب أفول العلاقة بين الدال والمدلول؛ لأنّ نمط الحياة المعاصر والأجهزة التكنولوجية والإعلام وعوالم السينما وغيرها عملتْ جميعا على مشروعية (اختفاء الواقع) وتكسير قوانينه المباشرة، مما حفز الكثير من الفنون، ومنها الرّواية على الانتقال إلى فعالية جديدة تغدو السّوسيولوجية إثرها مجرد صورة مقدمة وليستْ السّوسيولوجية كما هي بقوانينها المعهودة، صورة أخرى متولدة عن صور مغايرة مذابة في (ذاكرة المؤلف)، تقترب تارة من الواقع المعيش وتبتعد تارات كثيرة، حتى يتداعى في ضوء ذلك الاعتيادي والسّائد حد الانمحاء النهائي لغرض إعادة صوغ الواقع غرضا بمحيه.
بيد أنّ الإشارة السّابقة إلى (الذاكرة الأدبية) توجب تحديد تأريخ علاقة الرّواية بهذه الثيمة؛ لما لذلك من تأثير في تشكيل ذاكرة النّص الرّوائي في ثقافتنا، ولعل رائعة مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» هي المثال الأرسخ في تأريخ الذاكرة الثقافية الغربيّة لتصنيعها نمطا من السّرد، يعيد إنتاج الماضي بالانتقال من الذكرى الإرادية إلى الذكرى اللاإرادية القادرة على استعادة الذاكرتين، الذاتية والجمعية للمبدع، وصهرهما في منفى الخيال الجامح وصولا لنمط من الأحداث المفترضة التي تبنى عليها الحكاية، وهي صوغ إبداعي تكرر عند آخرين مثل ماركيز في «ذكريات عاهراتي الحزينات» التي اعتمدتْ الذاكرة الذّاتية للإيروس. أما الرّواية العربيّة فقد شكلتْ ذاكرتها الثقافية نتيجةً للتحولات الكبرى التي أعقبت الاحتكاك بثقافة الآخر، فضلا عن تفاعلها الحيوي مع الموروث العربي الحكائي بوصفه ذاكرة ثقافية للنص الرّوائي الحديث، وقد تبنتْ تشكيل الذاكرة انطلاقا من هاتين الثقافتين معا كما في نصوص مثل: «رحلة ابن فطومة» لنجيب محفوظ ، وقد اعتمدت رؤية سحرية لذاكرة المجتمع العربي، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح في اعتمادها أسلوب طمس الذّاكرة عن طريق التذكر والنسيان، و«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني التي شكلتْ بعدا أيديولوجيا للذاكرة، فضلا عن روايات أخر اعتمدت المدينة والتراث وثقافة الجريمة في إنشاء ذاكرتها مثل: «شارع الأميرات» لجبرا إبراهيم جبرا، و«سيرة مدينة» لعبد الرحمن منيف، و«كتاب التجليات» لجمال الغيطاني، و«هشام أو الدوران في المكان» لخيري الذهبي، و«ضائعة في دهاليز الذاكرة» لآية ياسر، ومع أنّ الرّواية العراقيّة لم تتبنَ ذلك بطريقة مطلقة تتحدد بها رؤيتها للعالم، إلاّ أنّها لم تغادرْها مطلقا بوصفها أسلوبا يُتكأ عليه في تمويه الماضي بالحاضر، انطلاقا من عنصرين أساسيين هما (الزمن) و(الذات) كونهما عنصرين حاسمين في الذّاكرة، ويبدو أنّ رواية الحداثة وما بعدها لدينا بدأتْ تتعامل مع الأمر بشكل مغاير يغادر منطقة استرجاع الذكرى المباشرة إلى منطقة تصنيعها من جديد، وفق تحولات الرؤية المعرفيّة للنص المعاصر، أي نقل الاستفهام الوجودي (ماذا حدث؟) إلى استفهام معرفي يتعلق بصعوبات معرفة: (ما كان قد حدث؟) و (ما يمكن أن يحدث؟) بمعنى أنّنا تحت تأثير المعاصرة نتعامل مع نصوص مخادعة تغادرها رجاحة العقل التنويري، كونها تجد الواقع مشروطا بالزّيف والافتراء، فهي تنتج عالما مفترضا يصطنع الحقيقة ولا يعمل على نقلها، فكيف يمكن أنْ يصطنعَ الروائي ذاكرةً لحكايته؟ ولعل الجواب النّقدي الدقيق لذلك، يتبين من خلال معرفة التحولات المعرفيّة في التساؤلات السابقة معا وماهية تشكل النّص، لكنّها قضية أخرى سأتتبعها في مقال لاحق.
٭ ناقد وأكاديمي من العراق
خالد علي ياس