قال كيبلنغ الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا. وأمامنا التاريخ والجغرافيا، وتضارب الذهنيات والتصورات حول العالم، وهي جميعا تؤكد ذلك.
لكن هذا لا يعني أن الشرق لا يتأثر بالغرب، والعكس. فالتفاعل بين الأمم والشعوب متى حصل بينها اتصال، كيفما كان نوعه، لا يمكن تجاوزه، لأنه يبين أن الحدود الفاصلة تسمح بالتأثر والتأثير المتبادل. أما التقاء المشرق العربي بمغربه فهو ثابت تاريخيا وثقافيا، رغم كل ما يمكن أن يعتور هذه العلاقات من غيوم أو تصورات تدافع عن الخصوصية أو تميل إلى الاستعلاء أو التعالي، سواء من هؤلاء المغاربة أو أولئك المشارقة.
تتعالى، بين الفينة والأخرى، وعلى مر التاريخ، نداءات تتشبث بالتميز المغربي، عن المشرقي، كلما أحس المغاربة بالضيم والتهميش وعدم الاعتراف. كما أنه في الوقت نفسه، تتعالى أصوات تؤكد الأسبقية المشرقية والتبعية المغربية، وأن هناك مركزا مشرقيا، لا يقابله سوى هامش مغربي. لا أعتبر هذا التشبث بالإقليمي، قديما، والقطري، حديثا، سوى تعبير عن نزعات الانتصار للذات الخاصة. وهي إعلان على التنافس والمشاركة. ويقدم لنا التاريخ الكثير من الأمثلة عن هذا التنازع بين العواصم حين تنشأ، ويطلب كل منها الاعتراف من الآخر بالفضل أو الأسبقية أو التميز. وليس هذا الأمر مقتصرا على الأطراف المتباعدة، بل نجده ساريا حتى بين المناطق المتجاورة والحدودية. ومن هذا التنافس تكون المشاركة.
لقد تأسست في النحو «مدرسة البصرة»، وجاءت «مدرسة الكوفة» لتجسد الاختلاف. وجاءت «مدرسة بغداد»، لتحاول التميز عنهما. وتشكلت بعد ذلك «مدرسة قرطبة»، لتؤكد الاختلاف نفسه، مقدمة تصورا يستفيد من كل المدارس، ويجسد نموذجا جديدا. وكما كان التمايز بين المشرق والمغرب، نجده بين الأندلسيين والمغاربة، وكل يسعى إلى المساهمة في الثقافة العربية وإثرائها بما تخوله له خصوصيته وبيئته الثقافية. وفي المحصلة الأخيرة نجد كل الأطراف قد شاركت بقسط أو بآخر، حسب شروط لم تتوفر لغيرها في تمثيل الثقافة العربية ـ الإسلامية وتطويرها.
لكن التنافس على العطاء شيء، والتفاخر بالأفضلية شيء آخر. إن التنافس يؤكد التفاعل الثقافي الإيجابي. أما التفاخر فليس سوى إلغاء لدور الآخر في العطاء، وتبخيس لمساهمته في الإثراء. وبيّن الفرق بين التنافس والتفاخر. مارس مثقفو المشرق والمغرب معا التنافس والتفاخر، قديما وحديثا. لقد دافع المغاربة عن وجود «مدرسة مغربية»، وشكك المشارقة في وجودها، في الوقت الذي ظل المغاربة أبدا يلحون على وجود مدرسة مشرقية، تتلمذوا عليها، ولكنهم لم يقفوا عند حدود استنساخها أبدا، أو محاكاتها دائما. لقد ظلوا قديما وحديثا، وهم يتلقون ما ينتج في المشرق يعملون على استيعابه وتمثله، في مرحلة، وفي أخرى يعملون على تجاوزه. ومن هنا كان التفاعل الإيجابي الذي يؤدي إلى الإبداع والعطاء. وعندما نذكر الآن ابن خلدون وابن رشد وابن طفيل وابن باجة، وحازم القرطاجني والسجلماسي وابن البناء المراكشي… نؤكد هذا التفاعل.
في العصر الحديث تأسست الجامعة المغربية، والنقد المغربي على خلفية الجامعة المشرقية والنقد العربي في مصر. لقد لعبت ظروف تاريخية في جعل مصر رائدة وطليعية في بداية القرن العشرين، وحين نتحدث عن دور مصر، لا نكتفي بالحديث عن المصريين، فالشوام (سوريون ولبنانيون..) ساهموا مساهمة كبرى في نهضة مصر، من الفكر السياسي إلى الفكر الأدبي. وظل إشعاع مصر متواصلا ومستمرا، ولم يكن لهذا الإشعاع لأن يتواصل لولا ما كان يقدم عليه المغاربة من تفاعل مع العطاء المصري. ومع التطور كان لذاك التفاعل أن يؤتي أكله، ويجعل المغاربة مساهمين في تطوير الجامعة العربية والدرس الأدبي ليس فقط في المغرب العربي، ولكن في الوطن العربي بكامله، خاصة منذ الثمانينيات من القرن العشرين. وفي الوقت نفسه بدأت العطاءات تتوالى من أقطار عربية أخرى كانت مساهمتها، لظروف خاصة، غائبة في إثراء النقد العربي. ويكفي هنا أن نذكر السعودية والبحرين والكويت التي صارت مشاركتها في الثقافة العربية قوية وعلى المستويات كافة، ولا داعي للحديث عن العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
تطور التاريخ العربي الحديث، وغدت المشاركة الثقافية لا تقتصر على قطر عربي دون آخر. وبدأ البساط يسحب من القاهرة، وصارت مختلف العواصم العربية ومختلف مدنها تنخرط في هذا العطاء. ولا يمكن لهذا التفاعل الإيجابي إلا أن يؤدي إلى التطوير والإغناء الذي يتجاوز المركز الذي كان الأنموذج إلى عهد قريب. وفي هذا النطاق، لا يمكننا سوى الاغتباط ببروز نجيب محفوظ آخر من سلطنة عمان، أو ظهور طه حسين من تونس… ولا يمكن لهذا الظهور إلا أن يفرح له المصريون، ويصفق له العراقيون، ويهتم به المغاربة. هذه الصورة التفاعلية بين مشرق الوطن العربي ومغربه هي نفسها التي نجدها في أوروبا. فإذا كانت فرنسا، منذ عصر الأنوار رائدة، وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، نجد مركزية الثقافة الفرنسية بدأت بالتقلص أمام عطاءات السلاف والجرمان والأنكلو أمريكان.
إن ترهين التمايز المشرقي المغربي، الآن، من لدن بعض المثقفين العرب نزوة مثقفية وقطرية عابرة؟
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
رد هادئ و رزين على من يهمه الامر من مدمني آفة التمركز و الأنا
–
وتحياتي
رد هادئ من الأستاذ سعيد يقطين على موقفين متعصبين للقبيلة والجغرافيا.. الأول مشرقي يقصف المغرب والثاني مغربي يقصف المشرق..
نحن في المشرق كما في المغرب ،بحاجة لمثل هذا الطرح المستنير ،الذي يجمع جناحي الوطن ،لعله يحلق عاليآ متحررآ
من أمراضه ،التي آعاقت إستجاباته لتحديات عصرة،التي آتاحت التدخلات الشريرة في شؤونة وشجونه،في غياب للحكم الرشيد.
اليس في هذا بعض التملق من اجل مكاسب اكثر؟؟
إن الذين يعتقدون أن بين المشرق و المغرب العربيين تمايزا و تفاخرا إنما يكرسون الفكر الاستعاري القائم على فكرة ( فرق -تسد ).