قيروان الإلهام والاستيهام

حجم الخط
3

كان الصديق منصف الوهايبي، شاعر تونس المعاصرة وأحد أبرز عقولها النقدية وأرفع ضمائرها الأخلاقية، يجول بنا في القيروان العتيقة؛ حيث الدروب الضيقة، والبيوت المتلاصقة، والعمارة العتيقة، وعبق التاريخ في «رابعة الثلاث»، بعد مكة والمدينة والقدس. وفي غمرة أحاديثه ـ بشغف طافح، طبيعي محبب، وطلي مشوّق ـ عن عراقة مدينته، مسقط رأسه؛ أتى الوهايبي على ذكر الفنان السويسري ـ الألماني بول كلي (1879 ـ 1940)، وما خلّفته القيروان من تأثيرات بالغة العمق في بصيرته وباصرته.
ومن المعروف أنّ هذا الفنان الكبير قضى أسبوعين في تونس، نيسان (أبريل) 1914، صحبة رفيقيه الفنانَين، الألماني أوغست ماكي والسويسري لوي مواييه؛ ويرى بعض النقّاد أنّ تلك الرحلة غيّرت جذرياً وجه، ووجهة، الفنّ التشكيلي من حيث علاقة اللون (الضوء تحديداً، والتربة النارّية المتوهجة، في تونس والحمامات والقيروان…)، بالكتلة التجريدية (العمارة الإسلامية). وأعمال كلي التونسية ـ مثل «موتيف من الحمامات»، و»الحمامات ومسجدها»، و»على غرار القيروان» و»منظر من القيروان»… ـ ما تزال محلّ دراسة وتحليل، من هذه الزاوية تحديداً: أثرها في تطوير أسلوبية كلي، وفي تحولات المدرسة التجريدية استطراداً؛ خاصة في أعمال الألوان المائية (قرابة 35 لوحة).
من جانبي، ورغم تحفظات طفيفة على مسحة استشراق طغت على انطباعات كلي عن المدينة، تجلت في مذكراته وكتاباته تحديداً، وليس في رسوماته بالطبع (ثمة مرجع هامّ، لمن يرغب الاستزادة: «بول كلي، لويس مواييه: الرحلة إلى تونس 1914»، تأليف مايكل بومغارتنر وإريك فرانز وإرنست ـ غرهارد غوس وأرسولا هايدريش، صدر بالإنكليزية سنة 1914)؛ شردت بأفكاري نحو مبدع آخر، ألماني بدوره، زار القيروان فلم يخلّف للإنسانية عنها إلا انطباعات سطحية، ضحلة، وجاهلة: راينر ماريا ريلكه، الذي سافر في خريف 1910 إلى شمال أفريقيا ومصر، أو «إلى الشرق، حيث ينبغي توسيع الحلم» كما سيكتب.
بعد الجزائر، وصل ريلكه إلى تونس، ومرّ على خرائب قرطاج قبل أن يصل إلى العاصمة، التي لاحت له أكثر أمانة لمناخات «ألف ليلة وليلة» من الجزائر، بل اعتبر أنها «شرقية حقاً»… هو الذي لا يعرف الشرق إلا من خلال فلوبير ونرفال وحكايات شهرزاد! وفي رسالة إلى زوجته كلارا، وعلى سبيل وصف انطباعاته عن مدينة القيروان الإسلامية العريقة، كتب يقول: «في الأسواق تقع أحياناً برهة خاطفة يستطع فيها المرء أنّ يتخيل عيد الميلاد: المنصّات الصغيرة ممتلئة بأشياء ملوّنة، والأقمشة وافرة ومدهشة، والذهب يلمع جذّاباً، وكأنّ المرء سوف يتلقّاه هديّة غداً. وحين يحلّ الليل، وبعيداً عن هذا كلّه، يضيء مصباح واحد ويتمايل، مهتاجاً بحضور كلّ شيء يقع عليه الضوء، عندها فإنّ ألف ليلة وليلة تحوّل كلّ ما اعتقد المرء أنه أمل ورغبة وإثارة، ويصبح عيد الميلاد غير عصيّ على المخيّلة في نهاية الأمر».
ومن الواضح تماماً أنّ ريلكه لم يبذل أيّ جهد في النظر إلى أجواء الأسواق بما هي عليها، وبما يمكن أن توحي به لمخيّلة لامعة ونشطة ومرهفة، قادرة على التوغّل العميق في باطن الأشياء قبل ظاهرها.
المشهد، بذلك، لا يتأسس اعتماداً على معطياته البصرية النابعة منه، وإنما على الصور التي يستعيدها ريلكه من باطن التنميطات المستقرّة في وعيه الغربي، ومن العمل الوحيد الذي يشكّل دليله إلى الشرق: «ألف ليلة وليلة». من المدهش أيضاً أنّ السوق يبدو طافحاً بالأشياء المادية (وخصوصاً الذهب، الذي يتوق ريلكه إلى امتلاكه!)، ولكنه يظلّ خالياً تماماً من العناصر الإنسانية؛ الأمر الذي يدهشنا حقاً، هنا أيضاً، إذْ يصدر عن شاعر خاض طويلاً وعميقاً في غمار النفس البشرية. ويبقى أنّ استذكار عيد الميلاد في هذه الأرض الإسلامية لا يخلو من دلالة مسيحية صرفة، خصوصاً وأنّ ريلكه كان، في ذلك الطور من حياته، متأثراً بالأجواء الصوفية ـ المسيحية التي دفعته إلى كتابة سلسلة قصائد «رؤى المسيح».
في رسالة أخرى تتكرّر، أكثر من ذي قبل، مناخات «ألف ليلة وليلة»، وصورة الشرق الغارق في الماضي وحده، المقيم في كنف الأموات والأوابد الصامتة، حيث الأمس هو اليوم، والمدينة مملكة. وبدون أيّة محاولة للاقتراب العميق، أو حتى السطحي، من الثراء الإنساني والتاريخي والمعماري لمدينة مثل القيروان، يكتب ريلكه: «تماماً مثل رؤيا، تنبسط هذه المدينة المسطحة البيضاء في أسوارها ذات الشرفات المُفَرّجة، ولا شيء فيها سوى السهل والقبور المحيطة به، وكأنها محتلّة من موتاها، الذين يرقدون هنا وهناك خارج الجدران، ولا تكفّ أعدادهم عن الازدياد. وهنا يدرك المرء، على نحو مبهج، بساطة وحياة هذه المنطقة، والنبيّ فيها كأنه كان هنا بالأمس، والمدينة مُلْكه وكأنها مملكة».
فيض إبداعي استثنائي عند كلي، وجدب إبداعي تامّ عند ريلكه؛ أمّا القيروان، ذاتها، فإنها بقيت بهية متألقة عريقة، حمّالة الاستيهام وباعثة الإلهام…

قيروان الإلهام والاستيهام

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    القيروان هي النموذج لمعظم المدن التونسية. غير أن القيروان ولحسن اختيار موقع من أسسها سنة 50 هجري تقريبا حافظت على بصمات من بنوها وكل له لمسة معمارية واجتماعية فيها. باهي برشا ما كتبت يا سي صبحي. ويعطيك الصحة على ما يحمل عقلك من معرفة.

  2. يقول أوراسية:

    شكرا أستاذ صبحي على هذه ” الفسحة ” في القيروان ت بعيدا عن هموم السياسة و خبثها..مع أنّكم من حيث تدرون أو لا تدرون، قيّمتم انطباع ريلكه عن القيروان من زاوية سياسية، بمقاربة الوعي الغربي في الماضي بما هو عليه اليوم ، وما له من انعكاسات على تعاملات الغرب مع شرقنا في كلّ الأوقات! لكن يبدو أنّ نفس هذا الوعي الغربي النمطي، بإمكانه أن “يتهذب” و “يتأنسن” تجاه العالم الإسلامي كما هو الحال مع الفنان كلي..تحياتي

  3. يقول صوت من مراكش:

    للقيروان إلهام بليغ الأثر على مواطن كثيرة بشمال افريقيا

    منذ ان اسسها عقبة ابن نافع الفهري ، فمن نسل هذا الرجل

    و قيروانه نزحت عائلة فاطمة الفهرية بالمغرب الاقصى لتسقرة

    بفاس في عدوة القرويين اي “القيروانيين “وفاطمة الفهرية هي مؤسسة
    _
    جامع القرويين “القيروانيين”

    تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية