الدّراما وغواية الشّيطان

يبدو أنّ سحر(فاوست) الشخصية الأسطورية التي عرفتْ في المتون الحكائية الألمانــــية ما زال مستمرا، فقد أثرتْ سابقا في الثقافتين الغربيّة والعربيّة على حدٍ ســـواء؛ فظهرتْ على شكل موتيفات واضحة فيه وكانتْ الأسبقية طبعا للثقافة الغربيّة، كما في عمل كرستوفر مارلو المسرحي والمسرحية الشهــــيرة لغــــــوته، التي حملت الاســــم نفسه، فضلا عن محاولات أخرى كثيرة تأثرتْ بذلك تصريحا أو تلميحا، فتمظهرتْ هذه المؤثرات في أعمال أدبية لدى توماس مان وأوسكاروايلد وغيرهما.
أما في الثقافة العربيّة الحديثة فقد تجسد هذا التناص الأدبي في نصوص مختلفة إجناسيا، منها ما ينتمي إلى المسرحية مثل: «عهد الشيطان» لتوفيق الحكيم، و«فاوست» لعبد الكريم برشيد، و«ملحمة السراب» لسعد الله ونوس، و«فاوست الجديد» لعلي أحمد باكثير، ومنها ما ينتمي إلى الرّواية مثل: رواية «الشيطان يعظ» لنجيب محفوظ وفي بعض قصصه القصيرة أيضا، ورواية «بلد واحد هو العالم» لهاني الراهب، فضلا عن مؤثرات فكرية واضحة تجلتْ في الفنون الأخرى، من ذلك مقطوعة موسيقية لبتهوفن مستوحاة من عالم فاوست، وعرض أوبرالي بعنوان «فاوست» للإيطالي شارل غاووند، ولوحة لرامبرانت تُجسِد دلالات أحداث الحكاية؟
وفي السّينما أنتجتْ الحكاية ثلاث مرات متتالية (1967، 1997، 2011). وها نحن اليوم نجد تأثيرها الفني في عمل درامي/روائي كتبه السيناريست المبدع عبد الرحيم كمال بعنوان «ونوس»، وأنا هنا أرجّحُ تأثير المسرحية الشهيرة لغوته بعيدا عن أصل الحكاية في سردياتها الشعبية، وللأمر صلة واضحة بتفكير الكاتب ومعرفته الثقافية والاجتماعية في مفاهيم الميتافيزيقا والرّوح الصوفي، الذين سبق أنْ جسدهما في أعمال درامية ناجحة مثل: «الرحايا» و»الخواجة عبد القادر» وقليلا في «دهشة» ذات الأصل الشكسبيري، وبعودة إلى ونوس نجد أنّه تبنى فيها فكرة أغواء الشيطان للإنسان ولكن برؤية تقترب من واقعنا العربي، بعيدا عن ميثولوجيا الحكايات، لتتجسد أسطورة (الشيطان) بطريقة مغايرة تقترب من اليومي والاعتيادي والمدرَك، على يد مبدع كبير هو الفنان يحيى الفخراني، الذي استثمر نضوجه الفني بوضوح مجسدا نمطا مغايرا من الشخصيات الخيالية ذات الطابع الفانتازي، ويبدو أنّ الكاتب قد حاكى الثيمة الأصلية للمسرحية – كما قلت – لكنّه أجرى تحولات هائلة فيها ليبعد ذهن المتلقي عن الحكاية الشعبية الألمانية للدكتور الساحر/الخيميائي التي استثمرها غوته بذكائه، عندما أراد تقديم نمط فلسفي في إدراك الجوهر الحقيقي للحياة بحثا عن السّعادة، من خلال إبرام عقد بالدم مع الشيطان مقابل خلود ورغبات زائفة تتجسد فيهما المأساة بشكل مغاير لما سبقها من نتاج أدبي، وقد عرف حينها بـ(الفاوستية)، وكان نتيجة فعلية للتطور المعرفي والعلمي بحثا عن التقدم السوسيو/اقتصادي الذي كانتْ المجتمعات الأوروبية تصبو إليه، بحسب مفهوم البورجوازية الرأسمالية الصاعدة والمجتمع الصناعي المتشكل آنذاك، وإذا كانت نشأة فاوست في الثقافة الغربيّة ذات طابع علمي، فإنّها في ثقافتنا أخذتْ طابعا مغايرا في محاكاتها للأصل الثقافي، كونها نتيجة حتمية لإرهاصات سلبية في بنيتنا الثقافية والمعرفية؛ لأنّها تواشجتْ بقوة مع سايكولوجية مجتمع يعاني أعراض التفكك والانهيار المتولدة نتيجة عوامل عديدة، فالمغوي في الحكاية العربيّة شاب اعتيادي وقع في حبائل الرغبة فتاهَ في الملذات، وبعد رغبته بالزواج على غرار فاوست الذي عارضه الشيطان بسبب قدسية الزواج بحثا عن حب ممنوع، غدا (ياقوت) مثالا شبيها بقرينه، كونهما فقدا نقاءهما على يد الشيطان / ونوس وبالطريقة ذاتها، فهي مقابل فروض خارقة لقوانين المجتمع، لكنّ نتائج ذلك – أعني سقوط ياقوت – ليس كنتائج سقوط فاوست؛ لأنّ الرؤية الفكرية مختلفة للنصين كليهما، فالأخير تحدد برؤية فلسفية خالصة لكشف حياة الفرد الفاقد للسعادة في ظل الرأسمالية الجديدة، بينما شخصية ياقوت نتاج مرحلة ثقافية قاسية في مجتمعنا العربي، المجتمع الذي بدأ يفقد تماسكه بسبب لعنات السّياسة وسوء الإدارة، لهذا كانتْ مسألة خرق عائلته لممنوعات التابو الديني والاجتماعي قضية دلالية، فغدتْ العائلة رمزا للمجتمع وغدا حينها الشيطان/ونوس رمزا للظروف الحتمية السّيئة التي تحيط بالفرد العربي على مختلف اتجاهاتها وأسبابها.
هنا بدأتْ أسطورة اللعنة تتحقق في الشخصيات والأحداث وحتى في أسلوب التقديم (السّرد الصوري)، الذي أخذ طابعا تراجيديا خالصا بلا منازع، فتمظهر بتأثير ذلك شعورُ فداحة هذه اللعنة على العائلة، الشعور الذي أظهره الممثلون (شخصيات العمل) ببراعة كبيرة، على شكل تجاذب مستمر لروح لا يشوبها النقاء بسبب تمسكها الوجودي بالخطايا السّبع، عندما تتأجج (الشهوة والغرور والجشع والغضب والحسد والشره والتراخي)، لتدنيس ليس الحب وحده، بل كل ما هو إنساني، وكما أراد فاوست العودة والارتداد عن عقـــده المبرم هذا، فعل ياقوت الأمر ذاته بلا جدوى، مما أكسب الدّراما هنا بعدا أخلاقيا واضحا بوصفه محورا مركزيا لما وراء الأحداث، حـــيث الحـذر من هذه الخطايا، وضرورة التعامل مع منجزات العلم ورفض الخرافة، والتمسك بالمبادئ الأساسية للمجتمع البشري، لكي لا يقود الشيطانُ العالمَ نحو شرطه الأخير، وهو ما حرصتْ دراما ونوس عليه برؤية فنتازية ما ورائية تتباين مع واقعية الدّراما التي كثيرا ما تعود عليها المتلقي العربي؛ لذلك وفق العمل على الرغم من صعوبة النّص واحتشاد أفكاره وعمقها في رسم الشخصيات والحوار، بما يخدم رؤية العالم الخفيّة وراء المكونات الفنية وآليات التقديم بوصفها أداة لتأجيـــج الصـــراع وإنــــتاج الدور الوظــــيفي في شحن المواقف الدّرامية، مما فرض نصا مركبا ذا قيم فنية وفلسفية وروحيّة عالية، وقد توضح ذلك فعلا في الأداء التمثيـــلي والإخراجـــي للوصول إلى صوغ يقارب الفكرة الأصـــلية، وضرورة التعبير عنها بمتعة تضــــاهي متعة مشاهدة المسرحية، وبتجـــريب يجعل صورة الشيطان المعروفة في الذهنية الإنسانية واللاهوتية ذات نســـغ آدمي لتوليد شبكة من العلاقات الدرامية الملتحمة عضويا، بفعل بناء جمالي ممتع ومعبر في الوقت ذاته عن عناصر كاملة على غرار عناصر سينوغرافيا المسرح الفاوستي.
ولعل الإشارات السّابقات عن المجتمع الذي عبرتْ عنه هذه الدّراما والصورة المألوفة لشخصية الشيطان، أقول لعل هذه الإشارات جميعها تؤكد المدخل السوسيولوجي الواضح للنص في سعيه الدؤوب نحو واقعية الأسطورة، فالشيطان لم يعدْ ذلك الكائن الكريه ذا الوجه والهيئة القبيحة، بل هو نتاج بيئة محليّة معروفة وثقافة مستساغة، هيئة الشيخ الوقور الذي يتعاطف معه الجميع، بدلالة واضحة لفكرة التلبس أو حتى على غرار ما يحدث في السينما العالمية من فنتازيا تصويرية تقدم هذا الكائن بشكل إنساني متخفٍ (مشهد لقاء ونوس مع رجل الدين المسيحي)، وهو يبحث عن معركته الجديدة في إغواء البشر وطردهم من جنانهم، وبهذا تبتعد الخرافة لتحل بدلا منها واقعية مقنعة، متحولة نحو كسر أفق المتلقي من خلال التقمصات الذكية التي تؤكد على شيطانية ونوس أكثر من آدميته، والحقيقــــة هي محاكـــمة واضحة لعقــــلنا المعاصر في مدى تفاعله مع الخرافة وتأثيرها على معتقــــداته الشخصية والرّوحية، بوصف الإيمان ثقافة قد تكون سلبية أو إيجابــــية، يتبناها الفرد ليصوغ في ما بعد منها انتماءاته وتصوراته جميـــعا، فتجسيد الشر المطلق حالة ما ورائية وهي من نتاجات المجتمعات البدائية أو الدينية المُتسيّدة التي تجعل منه مُنطَلقا لتفسيرات غير علمية، أي التعامل مع الوهم بصفته القائمة المجسدة على أرض الواقع وليس بوصفه رمزا، أما ما فعله هذا العمل الدّرامي فعلى العكــــس تماما، إذ غيب التفكير الماورائي ليحل بدلا منه تصور واقعي مرتبط بذات الإنســـان نفسه، وجعل من ذلك تصورا عاما يتداخل به المتخيل مع الحقيــــقي، والعــــقلي مع الوهمي، والإيماني مع الإلحادي لتتطابق بذلك الصورتان معا، (الشيطان) و(الإنسان) ثم الوصول إلى صورة سيميائية واحدة يميزها عن بعضها التفكير المنطقي والاختيار، وهنا تكمن واقعيّة و(نوس) مقارنة بتغريبات (فاوست).

٭ ناقد وأكاديمي من العراق

الدّراما وغواية الشّيطان

خالد علي ياس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية