منذ صغري وانا أشاهد الناس في حيّنا يتلهّون بتحدي بعضهم بعضاً مجاناً وبدون أي أهداف واضحة. وعلى حد علمي لا خلاف على مصالح يفرقهم ولا نزاع على عقار أو بناء أو عداوة كار يمزقهم. يعيشون بأمان في حيّ لم يعرف المشاكل الحقيقية بين الناس كما شاهدتها فيما بعد. فقط يقومون بممارسات عدائية ضد بعضهم لم أكن بالحقيقة أفهمها أو أحزر أسبابها. فيما بعد علمت أنهم هم أيضاً عاجزون عن تفسير معنى مناكفتهم العشوائية. كانوا من وقت لآخر يرفقون موقفهم بعبارة ‘جكارة فيهم’. فيما بعد علمت أيضاً أن كلمة دارجة تعني النكاية.
لا شك لدي أن الجيران لم يكونوا حاملين لكل هذا البغض والضغينة من أجل النكاية فقط. الناس لا تبغض مجاناً. كان عليّ أن أعيش زمناَ طويلاً قبل أن أكتشف من خلال الحرب الأهلية التي ضربت لبنان منذ عام 1975 أن اللبنانيين منقسمون الى ‘هم’ و’نحن’، جماعات جماعات مستعدة كل واحدة منها، أو لنكن أكثر تحديدا، مجموعات فيها إلى سلوكات عنيفة قد تصل أحياناً إلى حد التصفية الجسدية ‘على الهوية’ أو التطهير العرقي المذهبي وكان يحمل اسم ‘التنظيف’.
لم نكن، جيلنا،معشرنا، محضرين ثقافياً ونفسياً لمثل هذا النوع من الصراعات التي أُطلق عليها فيما بعدُ صفة العامودية. كنا حتى تلك الفترة نحلم بالشعوب المشدودة الى حريتها وإلى الطبقات الكادحة الساعية، حسب دليل الإستعمال المرفق، إلى تغيير شامل للعلاقات البشرية من أجل غد أفضل لغالبية الناس. فقط كان الدليل يستثني من الشعب طبقة أقلوية مغرورة تستغل الناس، قليلة العدد، كبيرة البطن. لم يقل الدليل في اي صفحة منه أن الناس سوف تنقسم إلى جماعات كل واحدة منها تمثل كثرة تتشابه من حيث الإنتماء السوسيولوجي.
فجأة صرنا نقرأ في الإعلام مصطلحات جديدة كالقوى الوطنية والإسلامية والفلسطينية المتناحرة مع القوى المسيحية الإنعزالية. وفجأة وجدنا أن ما يريده طرف لا يمكن للطرف الآخر أن يقبله. ثم اكتشفنا أن الطرفين لا يملكان نفس التحديد للوطن ولا نفس الهوية. وأن العدو مختلف باختلاف الطرفين. إسرائيل للأول والعرب للثاني. وبالتالي وكتتمة منطقية فإن الأصدقاء ليسوا موحدين ولا الأهداف ولا البرامج ولا الطموحات ولا الرؤى. غريب أمر هذا الشعب الذي من المفترض أن تاريخه واحد لا يملك من المشتركات أي حد أدنى يجمعه.
والغرابة الأكبر تجسدت في عدم بروز تجمعات بشرية تجمعها وحدة المصلحة الإقتصادية وموقعها من ‘عملية الإنتاج’. بل جماعات لا يربطها غير رابط العصبية والنعرة الطائفية. وبذلك اختفى برنامج الحكم ومحتوى التغيير وغلُب الصراع الكلي حيث تشعر كل طائفة بتهديد يطال وجودها وكيانها من أساسهما. ‘الطبقة الحاكمة’ ليس فقط لم تتوحد على مستوى السلطة بل انقسمت بدورها أسوة بالطبقات المحكومة. طبعا جاءنا هنا من يقول أن الطبقة الحاكمة تظاهرت بالإنقسام كحيلة طبقية أو كذريعة تستخدمها لكي تقسم القاعدة فتمنعها من التوحد ضدها.
الحيلة غريبة ومعقدة ونتائج الصراع الأهلي على أي حال لم تذهب باتجاه تأكيد مثل هذا النوع من التحليل. غريبة تاريخياً إذ لا نعرف مجتمعاً ‘متطوراً’ شهد خلال الانتفاضات والثورات انشطاراً عامودياً للطبقة الحاكمة نفسها فضلا طبعاً عن الطبقات الشعبية. على أي حال فإن ما رسا عليه الوضع بعد الحرب والتوصل الى إتفاق يعيد الإستقرار إلى البلاد لم يكن من النوع الذي يضفي على نظرية ‘الحيلة الطبقية’ مصداقية ما. فلقد تغيّر رأس السلطة فعلياً وانتقل من جماعة طائفية إلى أخرى. تغيّرت ‘الصيغة’ كما يقول علماء الدساتير غير المكتوبة.
هنا فقط توضحت لي قصة ‘ بهم’. وهنا فهمت ان القصة ليست ‘رمانة بل قلوب مليانة’. هنا أدركت أن الدفاع عن النفس والوجود قاعدة ذهبية، في ثقافة الجماعة، أما الباقي فمسائل تقبل التفاوض والتسويات. في الإطار هذا ليس مهماً الموقف المبدئي والفلسفي من هذه القضية أو تلك. وحالات الاستدارة الجذرية السريعة لمواقف بعض الزعماء عندنا لا تحتاج الى صورة لكي تظهر. فلقد صارت من النوادر الشعبية المشهورة.
عشية بداية آخر حرب أهلية في بداية السبعينات عٌرضت في بيروت مسرحية ‘الرفيق سجعان’ للمخرج والكاتب المسرحي جلال خوري عالجت هذا الشأن مبيّنة بوضوح ان الناس في القرى ينقسمون بين قومي وشيوعي وفق روابطهم العائلية لا وفق أهوائهم الفكرية. فكان إذا انتمى وجيه إحدى العائلات إلى حزب منهما توجه الآخر ميكانيكياً إلى الحزب الثاني ‘جكارة’.
وفي مسلسله التلفزيوني الشهير ‘الخربة’ عالج دريد لحام الموضوع ذاته مركزاً على نفسها التي تحكمها الروابط العائلية بين بيت بومالحة وبيت بو قعقور. وتعبّر قصة التلاعب باختصاص أحد متخرجي بيت بو قعقور، بإعلانه طبيب صحّة عامة لا بيطري، جكارة بطبيب أسنان العائلة الأخرى، خير تعبير عن هذه الظاهرة.
جميع من زار مدينة حلب الجريحة اليوم يعرف ولا شك قصة المسجد الذي اختارت وزارة الأوقاف يوماً أن تبنيه بين كنيستين مسيحيتين وسمّي بجامع .
من الغرائب الملفتة التي تلقاها عندما تزور مدينة بلفاست الايرلندية الشبيهة ببلادنا من حيث السوسيولوجيا أنك ستقع في الحي الكاثوليكي على شعارات تنادي بـ ‘ الحرية لفلسطين ‘ بينما ستقرأ على حيطان الحي البروتستنتي شعارات ‘ إدعموا إسرائيل ‘.
من المؤكد أن موضوع الصراع العربي-الإسرائيلي ليس الموضوع الرئيس لخلاف كاثوليك إيرلندا وبروتستنتييها غير أن كل انقسام في الكون مرحّب به شريطة أن يشكل موضوعاً نموذجياً يختلفان عليه ويستعمله كل طرف ‘جكارة بالآخر’.