«إن الحزن الصامت يهمس في القلب حتى يحطمه»… شكسبير
ما بين خط زمني ارتدادي خلفي وآخر أمامي يفرش لنا طارق بكاري حكاية (أوداد/ مراد) التي يبدأها من «إغرم» قريته التي نصحه طبيبه النفسي بالعودة إليها. ومن هناك يحضر ماضي هذه الشخصية، التي تتكشف شيئاً فشيئاً عن طفل لقيط مقطوع ظلت قريته تخافه وترى فيه دنساً سيلوث لا محالة دماء نقية موحدة تسري في شرايين كل فرد من أفرادها، بل وتحسبه لعنة سُلطت عليها، فكان حكم القرية عليه اقتلاعه منها بحجج مختلفة مغلفة بحس أسطوري يرفض كل ما يَخرج أو يشذ عن نمط الحياة المعتاد.
إذن تقضي القرية- وحتى الرجل الذي التقطه وتبناه- باقتلاعه، إلى أن يحل في القرية رجل غريب يتبناه ويمنحه اسم «مراد» بدلاً من أوداد. يأخذه معه إلى المدينة محمّلاً بندوب عميقة أصابته في الروح، رافقتها قناعاتٌ بأن لعنة ما وقعت عليه كانت وراء الكثير من مصائب وخيبات حلّت بالبشر من حوله. مع توالي السرد في هذه الرواية يتكشف ( أوداد/ مراد) إنساناً مريضاً بالحزن وبكثير من حنين إلى الوعل الأمازيغي الذي كانه في القرية.
نرقبه وقد دخل حياته منذ البدايات على حصان أعرج ليصبح مع الوقت كما (لاعب النرد) في قصيدة درويش ينتظر احتمال موته، أو حتى الوصول إلى أقل النهايات مأساوية في فضاء «فيه الكثيرون ممن يدقون في القلب مسامير غليظة بمطارق كلماتهم وأفعالهم، وآخرون لا يفعلون شيئاً سوى سحب تلك المسامير».
ما من قراءة لهذه الرواية تستطيع تجنب استخدام مصطلح (الآخر) بما هو تصنيف استعاري يقصي كل من لا ينتمي إلى نظام جماعة لها قيمها وأخلاقياتها وثقافتها، ليكون الآخر كما يظهر في هذه الرواية عدواً لكل غريب غير مألوف، يُرى فيه تهديداً لوحدة الجماعة وصفائها. والآخر لم يكن خيراً، بل انطوى في كثير من الحالات على عداء أودى بإنسانية البطل، الذي وقع ضحية نظرة هذا الآخر وتحديقه، ليكون الآخرون هم الجحيم وفقاً لتعبير سارتر، الذي يجعل من التحديق (النظر مشحوناً بقصد) جزءاً أساسياً في تحديد الذات الوجودية، فما من شك أن وجود (أوداد/ مراد) الاغترابي اعتمد إلى حد كبير على الكيفية التي ينظر بها آخر إليه، يرى فيه ضداً لا بد من استبعاده. يحصل هذا معه في المدينة كما في القرية، حين كانت عليه مواجهة الكثير من تناقضات وخيبات عبّرت عنها الرواية من خلال قطرات دم حمراء ثقيلة، ما فتئت تنزل من أنفه وتتمدد في مختلف الجهات. لا يكون بوسعنا إبراز طبيعة خيبات أو خيانات كثيرة يمر بها البطل، بعيداً عن شخصيات نسائية أربع، تحلقت حول مراد ضمن دائرة محكمة الإغلاق، كان همّها شحن المفردات الدالة على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بمنطوقات دلالية ذات طابع جدلي يذهب بنا في واحد منها (جوليا) باتجاه جدلية القهر الكولونيالي، ويأخذنا في حالات كثيرة أخرى باتجاه ترميز فني جمالي يغدو معه الأدب وسيلة من وسائل استكشاف النفس البشرية، حين تلتقي فيها مشاعر جنسية بأخرى نرجسية ليكون اللقاء واحداً من آليات مواجهة الآخر، كما سنشرح في السطور المقبلة، ومن هنا نبدأ بتفعيل هذا الكشف، من خلال هذه الشخوص تباعاً مدللين في نهاية المطاف على أن نساء هذه الرواية يشبهن مادة صلصالية تملك ما يكفي من مرونة لتقول الكثير عن (أوداد أو مراد) في علاقته معهن.
أولاً: خولة- فراشة تحترق في بيدر: «هزمتك بغيابي وهزمتني بموتك» نبدأ بخولة الحب الحقيقي الصادق الذي قابله مراد في المدينة، وتسبب في ما بعد في إزهاق روحها لتغدو شبحاً معلقاً بين الأرض والسماء يؤرقه ويزيد من عذابه. ما فتئت بمذكراتها التي خلفتها له تذكره بجريمته النكراء تجاهها، ليحملها ذنباً بقي يلاحقه حتى لحظات اختفائه. وكثيراً ما تترك كلماتها إحساساً بأنها كانت في حياتها ملاذاً له يعوضه حناناً أمومياً طالما افتقده. لم تخنه قطّ، وبقيت حتى لحظاتها الأخيرة مؤمنة بحبه، والنتيجة أنه يبقى متلبساً بجرح ملتهب أوصله إلى مصحة نفسية، يبقى من بعده في حالة توق للوصال مع الحبيبة الميتة.
ثانياً: جوليا- حوت نائم استيقظ فجأة: « تحتمي بإمبرياليتها المتوارية خلف وشاح العاطفة المفضوحة «
أما جوليا، فهي من يضع لمراد شكلاً استباقياً ظلّ الغربي يكتبه منذ زمن طويل، كما يراه هو ملتفتاً لأسطورته الشخصية ومشاريعه الإمبريالية. تأتي لتحل مكان خولة بعد موتها، تستدرج مراد وتدخل إلى عالمه بدعوى أنها منخرطة في الكتابة عن الجانب الجنسي في العالم العربي. كانت قد اتصلت بطبيبه النفسي الذي باع ضميره وأوعز إليها باستخدام محلول تزرعه في أوردته بغرض تحريضه على البوح لها، ليصبح بين يديها مشروع رواية ناجحة تحاور بها الشرق وتختبر آدميته.
يبقى أن جوليا مارست على مراد نرجسيتها وساديتها معاً، كما السفاح الرومي الذي أقام في قلعته في «إغرم» يمارس سطوته على أهلها، ليثري مروياته الكبرى عن الشرق، وبالتالي يصبح من حقنا القول إنها حضرت في سياق كولونيالي تحكمه علاقة غير سوية بين مستعمر ومستعمَر لا يزالان يعيشان وتحديداً على المستوى النفسي تركة الاستعمار الثقيلة.
ثالثاً: نضال- رفيق منهزم «الجنس هو جلّ ما أعادها إليّ»
أما نضال في الرواية فتحضر بالتوازي ومصير رفاق إما خانوا أو تعرضوا للخيانة، وهنا تبرز الرواية فداحة هزيمة تبدأ حين يتحول الفكر ذريعة لتحقيق غايات شخصية، بل إن نضال في علاقتها مع مراد تبدت لنا رمزاً للانتهازية والوصولية «الجنس هو جل ما أعادها إليّ..» كم أنا في حاجة إلى امرأة تناديني: بني! فأطير إلى حديقة صدرها طفلاً وأظل بين ذراعيها، أقص عليها ما خرب قلبي المعطوب قبلها».
رابعاً: نوميديا ـ غيمة كاذبة «فكرت أن أتبعها عارياً إلى أن أجدها أو أموت دون ذلك»
بعد سلسلة من إخفاقات متتالية عاشها مراد ظهرت نوميديا أمامه بملامح أمازيغية وباسم ملكة هاربة من كتب التاريخ. « كأنها إغرم، كأن إغرم تجسدت فيها ولبست ثوبها البشري». تحضر نوميديا طيفاً ما إن يفتح ذراعيه حتى تذوب مثل أمل زائف. كان يرى فيها خولة تركض نحوه، ويخاف عليها من سيوف صدئة تشبه شفرة حلاقة أودت بحياة خولة. لكنها في النهايات تصبح هي نفسها وجعاً آخر يلتحق بقائمة أوجاعه الطويلة التي أورثته خيبة مثلها مثل كل الذين أحبهم ورحلوا لتدور الدورة عليه ويصبح حبها قاتله: «ربما مثلما غلبت خولة بغيابي غلبتني نوميديا بغيابها بعد أن أدمنتها».
مع شيء من التدقيق يصبح بإمكان القارئ ملاحظة هذا التماهي الأنثوي الذي يجمع نساء مراد مع الأم كي يقمن بدورها، لتكون الحصيلة فشلاً متكرراً شبيهاً بلحظات وجوده الأولى على الأرض. مع نوميديا تتكرس هذه الأمومة الغائبة التي خطفت روحه، لتصبح رمزاً أمومياً يحمل نداء العودة إلى حبل السرة من جديد وتجديد الالتحام بالجسد الأول. لذلك ما فتئت تظهر بحلة بيضاء بانتماء خارق إلى عوالم غريبة، مما يكرس دخولها في باب الاستيهام، أو حتى إحالتها إلى نشاط تخييلي بنزوع تعويضي. هنا تُستحضر إيديولوجيا الأم الكبرى في إطار بنية ذات طابع ميثولوجي برزت في الرواية مع أكثر من محطة فيها.
إن كان الأدب قادراً على استكشاف طبيعة نفوس بشرية مركبة، فجدير بالذكر هنا أن الرواية عدّت الجنس بديلاً حقيقياً لكل حالات الحب المجهضة؛ فكثيراً ما طالعنا البطل في حالات انكساره العديدة وقد بحث عن أناه بغرض إغنائها من خلال حالة فحولية تعويضية، فكان من السهل علينا تتبع جدلية نرجسية تدفعه للانتقام أو للتعويض عن طريق استيهامي يدور في فلك امرأة متخيلة (كما في نوميديا هنا) بدافع تضميد جراحه، أو يدور في فلك نساء حقيقيات (خولة، جوليا، نضال) في إطار إشباعات نرجسية متكررة. وفي طور آخر من القراءة يصبح بإمكاننا القول إن «إغرم» التي بالغت في خيانته بدت أماً تورط في عشقها رغم قسوتها، «هي أرض البدايات، هي أمي الوحيدة الجديرة بأن أناديها أمي، وإن تخلت عني ونسيتني»، بل وتتماهى في صورتها مع نوميديا في أمومتها وغموضها وفي فشله في الظفر بفرصة أن يعيشها رغم أنها تعيشه كما تشاء هي. أنهي بالقول: إن الرواية ارتكزت في كثير من ثناياها إلى حنين للرحم، أو حتى نداء الأرض «إغرم»، لو انطلقنا من افتراضية توحد الأم مع الأرض، لكنها في الوقت نفسه لم تخل من نقاط توتر منبعها الأب وفقدانه الذي كان بمثابة صفعة زلزلت كيان مراد وجرحته في أعمق طبقات الأنا، وهو ما تبدى من خلال أحلام مرعبة بدا فيها الأب رجلاً ضخماً يقبض على سكين حادة تلمع، ومكلفاً بمهمة قتله تحت طلب إلهي، يستحيل معها ذبيحاً لله، مع فارق إن سيدنا إسماعيل نجا، بينما لم ينج هو ليكون الذبيح بإرادة مجتمعية ترفض الغريب المختلف.
٭ كاتبة أردنية
رزان إبراهيم