جبرايل يونس عن مبادرة أطلقها الرئيس الراحل فؤاد شهاب: دراسات بعثة «ايرفد» أوصت بتطوير الزراعة والصناعة لمكافحة الفقر والطائفية في لبنان

حجم الخط
0

 

لدى انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية دعا الرئيس الراحل فؤاد شهاب، في مطلع ستينيات القرن الماضي، العالم الاقتصادي والإنمائي الأب جوزف لوبريه مُنشي ورئيس مؤسسة «ايرفد» المتخصصة في الإنماء الاقتصادي والاجتماعي للقيام بعملية مسح شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان أدت إلى وضع برنامج انمائي، كان الأول من نوعه في هذا البلد.
وصدر مؤخراً كتاب عن «دار نوفل ـ هاشيت» بعنوان «بعثة ايرفد، الفرصة الإنمائية الضائعة» لجبرايل يونس، أحد كبار الباحثين في بعثة «ايرفد» التي نفذت هذه الدراسة في عام 1961 والتي شملت الخطة الإنمائية الوحيدة التي عرفها لبنان والتي ركزت على الزراعة والصناعة ومحاربة الفقر وتقوية التعليم الرسمي واللامركزية الإدارية وتحقيق العدالة الاجتماعية، سعياً لصهر اللبنانيين تحت لواء الوطن، لا الطوائف.
في مقدمة الكتاب وفصله الأول، يستعرض الكاتب هدف الكتاب وكيف تم الاتفاق بين لبنان الرسمي وبعثة «ايرفد» ويعرّف بالأب لوبريه وفلسفته ومنهجه العلمي الساعيين إلى مساعدة الإنسان عموما، في سائر قارات العالم، للعبور (على مراحل) من حالة إنسانية إلى حالة أرقى وأسمى تنتج طاقات بشرية خلاقة وذلك عن طريق تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
كما يعرض يونس مساوئ لبنان كمجتمع ودولة التي ما زال بعضها منتشراً (بل ازداد) حتى الساعة وهي التالية (باختصار): عيش اللبناني في حالة خداع مع نفسه بسبب نجاحه في حقلي المال والأعمال وسيطرة الروح الفردية على طريقة حياته، وهذا أمر يتنافى مع إقامة مؤسسات دولة لها طابع الديمومة وتأليف جمعيات أهلية وتعاونيات تعنى بالمصلحة العامة.
كما يشير إلى ولاء اللبنانيين لطوائفهم على حساب الولاء للوطن، وهي حالة مستمرة منذ الاستقلال حتى اليوم، وهذا في رأيه يفسر تهافتهم على المحاصصة في الوظائف العامة وعلى تقاسم خيرات الدولة (علما ان هذا الأمر تفاقم بعد الحرب الأهلية اللبنانية 1975 ـ 1990).
ويضيف يونس قائلاً: «ورث اللبناني من العهد العثماني الحذر من الدولة، فالحكومة في نظره شرّ، فإذا تدخلت الدولة يُعَدُ تدخلها افتراء على حقوق الناس والنظام الليبرالي».
كما يصف المشاكل السكانية في البلد ومنها الهجرة الكثيفة من الأرياف إلى المدن التي جعلت المدن الرئيسية (وخصوصا العاصمة بيروت وضواحيها) المراكز الأساسية لقطاع الخدمات والمؤسسات والأمكنة شبه الوحيدة لتأمين العمل ولقمة العيش. ويتحدث يونس عن إنشاء، معهد للتدريب على الإنماء، في آب/اغسطس عام 1961، باقتراح من بعثة «ايرفد» كانت من أهدافه تنشئة وتدريب فرق إنمائية تعمل على مستوى الأقضية وتقوم بالعمل الإنمائي والإعداد الاجتماعي لهذا الغرض، وبدراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتقديم المساعدة التقنية للسكان ونشر ثقافة التنمية. ولكن ولسوء الحظ، يقول المؤلف، ألغي هذا المعهد وألغيت معه وزارة التصميم العام وحل محلهما «مجلس الإنماء والإعمار» الذي يعمل حسب أجندة مختلفة ويحضّر الدراسات لمشاريع متفرقة لا رابط بينها ويحصل على التمويل ويقوم بالتنفيذ ويخضع لمراقبة مالية لاحقة. «وهو أمر لا مثيل له في العالم المتحضر ولا حتى في الدول المتخلفة». (ص 43).
ويستعرض الكاتب في الفصل الثاني، بعض توصيات بعثة «ايرفد» التي ما زالت مفيدة حتى الآن ومنها توسيع شبكة توزيع الكهرباء وتطويرها وإيصالها بفعالية إلى المناطق التي يمكن ان تتحول إلى مناطق صناعية في أرياف لبنان، وتوزيع خدمات التعليم والخدمات الصحية المتطورة إلى المناطق الريفية وعدم حصرها في المدن الكبرى، وإنشاء زراعات وصناعات جديدة ومطلوبة ومفيدة للاقتصاد الوطني وتعزيز ودعم المشاريع السياحية خصوصا في مجال إنشاء مشاريع سياحية تجذب ليس فقط الأثرياء بل ذوي الدخل المتوسط خصوصاً من الشباب والطلاب في العالم والمنطقة.
بيد ان توصيات بعثة «ايرفد» كما يبدو لنا مما يعرضه الكتاب، لم تركز بما فيه الكفاية على تطوير السكك الحديدية والنقل المدني بالقطارات والحافلات ولا على تكثيف الدراسات لاستكشاف البترول والغاز بحرا وأرضا التي بيّنت السنوات اللاحقة أهميتها الكبيرة في ثروة البلد. كما لم تقترح بعثة «ايرفد» إنشاء مطارات إضافية في المناطق اللبنانية المختلفة مع ان الحاجة لمثل هذه المطارات (خصوصا خلال الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة) ازدادت وما زالت حاليا.
وفي الفصل الثالث من الكتاب، يوضح يونس ان منهج البحث الذي اعتمدته بعثة «ايرفد» ارتبط بما كان متوافراً، بحيث تم تقسيم المناطق التي أجريت الدراسات فيها على هذا الأساس. واستغرقت الدراسة عامين وأظهرت نتائجها تباينات كبيرة بين المناطق اللبنانية المختلفة. ففي بعض مناطق الشمال اللبناني والبقاع تواجد مستوى سكاني متدنٍ وشحّ في المياه ونقصٌ في وصول الكهرباء وفي التجهيزات الصحية والتعليمية، بينما كانت منطقة جبل لبنان أفضل من غيرها من مناطق الأطراف (البقاع والشمال والجنوب) لقربها من العاصمة بيروت وتوافر التعليم المقبول المستوى لسكانها.
وتشير دراسات البعثة، حسب الكتاب، إلى ان الزراعة، وهي قطاع العمل الأساسي في البقاع والشمال والجنوب، لم تكن مدعومة من الدولة ولم توجد مبادرات لتطويرها ولتحسين مردوداتها، وان عددا كبيرا من المزارعين كانوا يرزحون تحت الديون.
وفي المدن الرئيسية، حسب «ايرفد» تواجد أيضا نقص في تجهيزات البنية التحتية وفي الخدمات العامة وتوافر أمكنة الترفيه ومؤسسات لضبط واحتواء التوترات الطائفية والأثنية والحزبية.
أما المشكلة الأهم في هذا الصدد حسب «ايرفد» فكانت غياب التخطيط المطلوب لمدينة بيروت.
ويستعرض الفصل الرابع من الكتاب الأمور الإيجابية والسلبية في دراسة «ايرفد» ويطرح الخطوات العملية التي أوصت بها البعثة لمناطق لبنان المختلفة وطرق تمويلها.
وفي الخلاصة العامة لهذه التوصيات، تطرح «ايرفد» تشجيع الاستثمارات في لبنان من اللبنانيين الأغنياء أصحاب الثروات من خارج لبنان خصوصا في قطاعي الصناعة والزراعة وإنشاء مؤسسات ومعاهد للتخطيط وللإنماء. وتشير إلى ان بعض هؤلاء الأثرياء يستثمرون في لبنان في قطاعات تفيدهم هم فقط على الصعيد الفردي، بينما في إمكانهم إفادة نمو بلدهم والاستفادة فردياً، في الوقت عينه إذا استثمروا في القطاعات المنتجة للعمل المثمر والوظائف في قطاعي الزراعة والصناعة وفي تحسين وتطوير البنية التحتية (المواصلات والكهرباء والمياه والمؤسسات الصحية) في سبيل مكافحة الفقر، لأن الفقر والبطالة حسب «ايرفد» هما أساس المشكلة والسبب وراء النزاعات الطافية التي تشتد حدة وتهدم البلد. كما تقترح البعثة العمل على تغيير عقلية النخب الحاكمة والمتمولة والمتمسكة فقط بالمبادرات والمنافع الفردية والمعتمدة بشكل رئيسي على البلدان الأجنبية وشركائها ومؤسساتها في قراراتها وخياراتها.
وفي الفصل الخامس (الخاتمة) يشير الكاتب إلى ان السلطة في لبنان انتقلت بعد أحداث الحرب الأهلية اللبنانية إلى أمراء الحرب والطوائف فانتهك معظمهم القوانين واستباحوا المال العام. ثم يطرح وضع خطة للنهوض الاقتصادي مختلفة عن الخطط المعتمدة في بعض دول المنطقة، والتي تؤدي إلى الاستدانة بكثافة وتراكم الديون وخدماتها وتفاقم مشكلة صعوبة تسديدها.
ويأسف يونس لاستحالة تغيير الفريق الحاكم في لبنان في ظل أوضاع منطقة الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية الحالية.
الكتاب مفيد لأنه يذكّر بالحقبة التي يتحسر عليها كثير من اللبنانيين، على اختلاف إنتماءاتهم، وهي حقبة ستينيات القرن الماضي التي قاد البلد خلالها رؤساء كانت لهم رؤية إنمائية وإنسانية ورغبة في تحسين أوضاع شعبهم.

جبرايل يونس: «بعثة ايرفد: الفرصة الإنمائية الضائعة»
دار نوفل/هاشيت انطوان، بيروت 2016
204 صفحات

جبرايل يونس عن مبادرة أطلقها الرئيس الراحل فؤاد شهاب: دراسات بعثة «ايرفد» أوصت بتطوير الزراعة والصناعة لمكافحة الفقر والطائفية في لبنان

سمير ناصيف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية