وثيقة الاستقلال تصرخ ألما

حجم الخط
0

بعد يوم من اعلان قائد لواء المظليين موتي غور، الذي لا يُنسى أن ‘جبل الهيكل في أيدينا!’ جئت من رام الله بصحبة قادة الأقسام في سريتي الاحتياطية الى ذلك المكان ورأيت بأم عيني الأحداث الجارية. وشهدت تلك الزعزعة المسماة ‘حدثا تاريخيا’ وبرز من بين المتهاوين على عنقي الدكتور اسرائيل إلداد، الزعيم الروحي لكثيرين من أناس ‘ليحي’. وبعد حديث قصير متأثر حوّل وجهه ونظر الى ‘مسجد عمر’ القريب ذي البناء الفخم، بقبته المذهبة وسأل متفاجئا جدا: ‘ما الذي يفعله هذا الشيء هنا الى الآن؟’، وأجبته أن ‘هذا الشيء موجود هنا منذ 1300 سنة’. وأجاب الرجل عن ذلك بقوله: ‘يجب فعل هذا هذه الليلة’.
كان الدكتور إلداد على يقين، كما يبدو في أعماق قلبه، من أن نصر الجيش الاسرائيلي العظيم في هذا المكان المقدس ايضا في وسط القدس يجب أن يتحقق بهدم ‘الأقصى’ و’قبة الصخرة’ اللذين حلا محل الهيكل المقدس الذي خربته بابل وروما. ولهذا يجب اخلاء المكان الذي أُعد لانشاء الهيكل الثالث فورا، الذي لا يُفعل فورا في عين العاصفة لا يُفعل بعد ذلك. بعد ذلك ببضعة ايام التقيت بالقرب من فندق ‘الملك داود’ الشاعر أوري تسفي غرينبرغ. وقلت له إن كلام نبوءته في قصيدته ‘يهودا اليوم ويهودا غدا’ التي تختم كتابه ‘كتاب المُدافعة والاعتقاد’ الذي صدر في سنة 1937، تحقق في حرب الايام الستة.
وقف هذا الشاعر أمامي وصرخ ‘لا! جبل الهيكل ليس في أيدينا’ وهو لم يغفر لموشيه ديان وزير الدفاع وبطل الايام الستة أنه ترك للأوقاف الاسلامية السيطرة على الجبل ولم يغفر ايضا للحاخامية الرئيسة التي حظرت على اليهود الصعود الى الجبل. وقال لي مفسرا: ‘إن من يسيطر على جبل الهيكل يسيطر على القدس! ومن يسيطر على القدس يسيطر على ارض اسرائيل’، وأوجز بعد ذلك مثل نبي التنبؤ الاسود قائلا: ‘جبل الهيكل ليس في أيدينا! ولن تكون القدس في أيدينا، بل لن تكون ارض اسرائيل في أيدينا… كل شيء ضائع’. قال ذلك في ذروة ايام الاحتفال السبعة.
جبل الهيكل. جبل الهيكل. أنا من تل ابيب أصلا. وابن لعائلة علمانية واضحة. وأنا الولد الذي لم يُجرَ له حفل ختان.
ليس الخلاص عملا مسيحانيا إلهيا، بل هو ثمرة الجهود الكبيرة لشعب قام بالعودة الى صهيون مع ايمان متقد وعمل صعب وحب لا نهاية له لهذه الارض على اختلاف حقبها والحروب التي لم تنته. وبأعمال أثارت فينا فخر الانتماء وتمسكا بعدالة النهج، بل بتلك الاعمال التي أحدثت في عدد منا شعورا بالذنب والندم. لقد نبع معظم قوة العودة الى صهيون من كونها حركة شعب يعود الى التاريخ ويصوغه بغير تضليل مسيحاني.
أتذكر ‘جبهة العمل السري اليهودية’، نشأت هنا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بعد انشاء الاستقلال بأكثر من ثلاثين سنة مع كل وسائله ومؤسساته وأذرعه، باعتبار ذلك دولة قانون. وعمل اعضاؤها على معارضة الفلسطينيين ردا على هجوم مخربين على طلاب مدرسة دينية في طريقهم من كريات اربع الى الخليل قُتل ستة منهم وجرح 16. وحكمت السلطة الاسرائيلية على ثلاثة من ناس الحياة العامة الفلسطينيين بالطرد الى الاردن. وانتظم مستوطنون من الخليل وسائر أقاليم البلاد في جبهة سرية بدأت استعدادات للمس بزعماء فلسطينيين. بعد العملية في ‘بيت هداسا’ فُخخت سيارات ثلاثة رؤساء بلديات عربية، نابلس ورام الله والبيرة، وقُطعت أرجل اثنين منهم. وتمت عملية اخرى بعد ذلك بسنة في المعهد الاسلامي في الخليل بعد قتل طالب مدرسة دينية في الخليل كانت ثمرتها ثلاثة قتلى وثلاثون جريحا. وكان اعضاء الجبهة السرية يوشكون على ان يفجروا خمس حافلات عربية مع ركابها، لكن ‘الشاباك’ منع تلك العملية وبدأ اعتقالات وحوكم 29 وسُجنوا في سجن تلموند. ولم يكتف عدد من اعضاء الجبهة السرية بذلك وخططوا لتفجير مسجدي جبل الهيكل، وهو فعل يتجاوز الرد الانتقامي والعقابي، ويفترض ان يكون حادثة كارثية. إن العداء الطويل الدامي بين الحركتين القوميتين على هذه البلاد كان يوشك ان يصبح حربا دينية بين المسلمين في أنحاء المعمورة واليهود الذين يهددون بهدم الأقصى وقبة الصخرة. تلقيت آنذاك رسالة شخصية من أحد السجناء، ومن مفكري هذه الجماعة ومن المناضلين لانشاء الهيكل الثالث في جبل الهيكل. وأصابتني رسالته بالذعر.
بعد ذلك بوقت قصير التقيت في القدس يوشع كوهين، وهو عضو في كيبوتس سديه بوكير ومن أوائل اعضاء ‘ليحي’ ومن أبطال تلك الجبهة السرية العبرية التي قاتلت الانجليز. وكان هو ايضا الرجل الذي أطلق النار في القدس على الكونت برنادوت، مبعوث الامم المتحدة، فأرداه قتيلا. وأصبح في سديه بوكير مقربا من دافيد بن غوريون الراعي الذي قضى باقي حياته هناك.
حدثني يوشع عن أنه مكث مرتين مع سجناء ‘الجبهة السرية اليهودية’ بطلب منهم. فقد كانوا يرون ‘ليحي’ مثالا وقدوة لأن مقاتليها حاربوا مثل منظمة معتزلة قبل استقلال اسرائيل. أما وارثوهم فقد أخلوا بقوانين دولة اسرائيل وبما كُتب في وثيقة الاستقلال لحقب.
قال لي يوشع كوهين انه سألهم أكانت خطة تفجير المسجدين خطة للتنفيذ أو كانت بمثابة تفكير مجرد. وتعلم من كلامهم ان عددا من اعضاء الجبهة السرية خططوا لتفجير المسجدين لمنع الانسحاب من سيناء ولاحداث تجربة خلاص دينية. وعارض آخرون فيها ذلك. ولم يحظوا آنذاك بموافقة كاملة من السلطات الحاخامية التي يقبلونها. وسألهم هل فكروا مسبقا برد المسلمين جميعا في أنحاء المعمورة على هذا الفعل اذا تم. فكان من أجابوه بأن ذلك كان يفترض ان يكون لحظة الامتحان لله جل شأنه.
في ايام حكم مناحيم بيغن، بعد التوقيع على اتفاق السلام بين مصر واسرائيل، بدأ اخلاء سيناء من قواعد الجيش الاسرائيلي والمستوطنات التي أُنشئت. وبدأت حركة معارضة شديدة صارمة لاجراءات الانسحاب والاخلاء. وإن صور الصدام بين الجنود والمتمسكين بالأظافر لا تترك من يتذكرونها.
تم في ذلك الوقت اضراب عن الطعام في مبنى قريب من باحة حائط المبكى في القدس. وكان يوشع كوهين بين الصائمين. وكنت أزوره كل مساء مدة عشرة ايام، وفي نهاية الامر أمره طبيبه بالكف عن الصوم بسبب حالته التي ساءت.
عارض يوشع الانسحاب لكنه لم يُسلم بمقاومة الاخلاء العنيفة والصدام مع قوات الامن.
أفكر فيه ايضا في تلك السياقات. إن يوشع الذي قاتل البريطانيين من اجل استقلال اسرائيل لم يكن يستطيع تحمل اعمال ‘الجبهة السرية اليهودية’، وكأنه لا توجد سلطة ذات سيادة عبرية في هذا البلد ويفعل كل أحد ما شاء.
كنت في السبت الماضي أشاهد بصحبة زوجتي في القناة الثانية برنامجا يتناول جبل الهيكل. وعلمنا انه يوجد في اسرائيل 16 منظمة تُعد لعودة اسرائيل الى الجبل، بدءا بمهندسي العمارة الذين يشغلون أنفسهم بصورة الهيكل الكاملة وانتهاء الى النساء الصدّيقات اللاتي اختصصن بالاعداد لزينة الهيكل. وكان هناك الناشطون الذين يصعدون للصلاة في الجبل ويدعون إخوتهم الى الانضمام اليهم من اجل الهيكل، الذي يفترض ان يرتفع من جديد. وكان يصاحب هؤلاء رجال شرطة اسرائيل والعاملون في الأوقاف كي لا يصلوا على الملأ. وكان يوجد هناك رجل أشقر تصرف تصرف قائد وحكم بأنه يمكن تحويل الأقصى الى كنيس، ومتطرف آخر وعد بعودتنا الى جبل الهيكل حينما يحين الوقت. وكان هناك في نفس البرنامج في التلفاز من كان في حينه قائد الشرطة في القدس، الذي حذر من تحرش متطرفين يهود في جبل الهيكل يصعب ان نتنبأ سلفا بخطر نتائجه.
وفي هذه الاثناء يكتفي أناس ‘شارة الثمن’ بمساجد اخرى يحرقونها ويدنسون جدرانها بالزفت ويضيفون رسم ‘نجمة داود’، بل إنهم يمدون أيديهم الى الكنائس.
في هذه الايام عُدت ورأيت وعُدت وسمعت وثيقة استقلالنا تصرخ من شدة الألم والرعب والعار. وفكرت في أنه يكفي ثقاب واحد ليشعل حريقا لا يخمد.
أيتها الارض أيتها الارض، احترسي من الجنون الذي أصابك. سافرنا في الغد الى أبو غوش وشاهدت العمل البغيض الذي حدث هناك ولم أصدق ما شاهدته عيناي.

حاييم غوري
هآرتس 23/6/2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية