الليبرالية أقوم للعروبة والإسلام معا!
د. خالد شوكاتالليبرالية أقوم للعروبة والإسلام معا! تقف التيارات الإسلامية والقومية في العالم العربي، موقفا صداميا إزاء مسارات منطقتهم والعالم، انطلاقا من قناعة لدي قادة هذه التيارات ومنظريها، بأن زمن ما بعد الحرب الباردة، هو زمن امبريالي أمريكي بالضرورة، وأن المشروع المهيمن متناقض حتما مع مصالح الأمة العربية الإسلامية، وحائل لا محالة دون مساعيها لتحقيق طموحاتها في الوحدة والتقدم واستعادة الحقوق المسلوبة.وقد كان هذا الموقف الصدامي المصدر الأساسي للمواقف التفصيلية من القضايا المتفجرة في العالم العربي منذ حرب الخليج الثانية، والمؤطر الرئيسي لنظرة الإسلاميين والقوميين العرب للعلاقات مع الأنظمة السياسية والقوي الدولية، فالعولمة برأي هؤلاء لا يمكنها إلا أن تكون شرا مستطيرا للعرب والمسلمين، والولايات المتحدة لا يمكنها إلا أن تكون عدوة أولي دائمة للأمة العربية والإسلامية.وعلي الرغم من أن العرب لم يجربوا في غالب الأمر إلا المنطق الصدامي في تعاطيهم مع الموضوع الدولي والغربي، منذ أن طرحوا علي أنفسهم سؤال النهضة أوائل القرن التاسع عشر، وعلي الرغم من أنهم أيضا لم يجنوا غير الخيبات المتواصلة جراء إعمال هذا المنطق، إلا أن مفكريهم ومنظريهم ما يزالون متشبثين بصحة هذا المنطق، مقتنعين تماما بأن دروب النضال الصدامية طويلة ووعرة، وأن طريق التقدم لا بد وأن تكون متلازمة مع تأخر الآخرين، إذ لا يمكن بحسبهم أن نكون نحن والغرب متقدمين معا، وأن سنن تاريخنا المشترك تثبت برأيهم أن تقدمهم يعني تخلفنا وأن تقدمنا يعني تخلفهم.وإذا ما نظر العرب في تاريخهم الحديث والمعاصر، سيصلون بلا شك إلي نتيجة مفادها أن الآخر ما انفك يطور أشكال تعاطيه معهم ومع العالم، فيما هم راكدون ملتزمون بشكل واحد في النضال والمقاومة، فالمقاومة ظلت واحدة في مواجهة الاستعمار التقليدي والاستعمار الجديد والاستعمار العصري علي السواء، وتجربة العرب في مواجهة الغرب يمكن أن تكون مفيدة لغيرهم من شعوب الأرض، إلا أن تجارب شعوب الأرض لا تأثير لها عليهم.إن اليابانيين علي سبيل المثال قد قاوموا التدخل الغربي منذ القرن الثامن عشر تقريبا، فجربوا علي مر تاريخ مقاومتهم عدة أشكال من المواجهة، حيث ابتدأوا بمنهج العزلة حتي عصر المايجي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم ساروا في منهج الحرب حتي نهاية الحرب العالمية الثانية، وأخيرا ابتدعوا ما يمكن تسميته بمنهج المقاومة الاستسلامية ، بناء علي قاعدة أن خير من تتعلم منه عدوك الذي هزمك، وأن الاستسلام العسكري إنما يقوم بتحييد أهم عناصر القوة لدي خصمك من ساحة المواجهة، التي هي بالضرورة أشمل وأولي بالرعاية والتخطيط والمقاومة.وعلي نحو ما يلاحظ في سيرة العرب المفارقة، فإن اليابانيين قد نسوا – علي الأقل ظاهريا- مأساة نكازاكي وهيروشيما، ولم يروا في هذه الجريمة النكراء معوقا لتطوير علاقاتهم مع مرتكبيها والعمل علي الاستفادة القصوي من خبراتهم وتقدمهم وتقنياتهم لجسر الهوة الفارقة بينهم، وإعمال وسيلة السلم الأمضي لربح المعارك الخفية بديلا عن وسيلة الحرب البائدة المرعبة، فيما لا يزال كثير من قادة الفكر والسياسة العرب، يتباكون علي ضحايا المدينتين اليابانيتين، مزايدين علي اليابانيين في الانتحاب علي كوارثهم القومية.والعرب يركزون في تمحيص العلاقة بينهم وبين الغرب، علي الجانب العسكري أساسا، ويرون أن عملية التصحيح ورد الاعتبار القومي يجب أن تستهل في هذا الاتجاه، بينما جربت أمم أخري كثيرة استهلال التصحيح في جوانب أخري، اعتقد أنها أقل صخبا واستفزازا، وأكثر انسانية وعملية وإمكانية، فاليابانيون والكوريون والصينيون والجنوب-أفريقيون والتشيليون والبرازيليون وغيرهم، يخوضون معارك تصحيح لمواقعهم علي الخارطة الدولية، يواجهون فيها الغرب بشكل أو بآخر، دون سلاح أو إرهاب أو دماء.وفي التاريخ العربي الإسلامي، يمكن الاستنجاد بأكثر من واقعة تزكي هذه الرؤية الحضارية، فقد جاء التتار والمغول غزاة إلي بلاد العرب، فحققوا الانتصارات العسكرية الماحقة، وأسقطوا الدول العربية والإسلامية الواحدة تلو الأخري، غير أنهم خسروا الحرب الحضارية في ظرف لم يتجاوز العشرين عاما، وسرعان ما أصبحوا جزءا من ثقافة وحضارة الخاسرين عسكريا.والأمريكيون اليوم، ليسوا متفوقين حضاريا علي اليابانيين أو الكوريين أو التايوانيين أو الماليزيين، علي الرغم من تفوقهم العسكري الكاسح، تماما كما أن ظاهر الإسرائيليين أنهم منتصرون متفوقون عسكريا، إلا أنهم في حقيقتهم خائفون مرتعدون علي مصيرهم، يحملون في أعماقهم بوادر الهزيمة الحضارية والثقافية، يشيدون الجدران الإسمنتية العالية حفاظا علي وجودهم.إن حاجة العرب والمسلمين الماسة اليوم، ليست للسلاح والمفاعلات النووية كما فكر صدام والقذافي بالأمس، أو أحمدي نجاد اليوم، بقدر ما هم بحاجة إلي عقل منفتح متوازن ينظر إلي الأشياء بطريقة جديدة مبتدعة، ويبحث عن مساحات مبتكرة للتفوق الحضاري والثقافي، ويضع نصب الأعين مجالات للعمل والمنافسة، وفرصا خارقة للتنمية الإنسانية الشاملة.لقد ضرب المفكر السياسي الأمريكي توماس فريدمان للعرب مثلا لم يستوعبوه إلي الآن للأسف الشديد، عن شاب أردني أسس بإمكانيات متواضعة شركة أرامكس للشحن السريع، سرعان ما تحولت إلي مشروع عربي وعالمي رائد، ينافس أعظم الشركات في مجاله، كـ دي اتش إل و فيدرال اكسبريس ، وعلي العرب أن يعيدوا النظر في ضرورة الانتباه إلي هذه التجربة، وإلي تجارب أخري ممكنة الحدوث، قادرة علي أن تحول الطاقات البشرية العربية المهدرة، إلي طاقات فاعلة مفيدة، كما هي قادرة علي أن تشعل شمعة في سماء العرب المظلمة بدل التشبث بعقلية لعن الظلام.وبالعودة إلي قضية أكثر حساسية، كالقضية العراقية مثلا، لا مناص من التساؤل عما إذا لم يكن بمقدور العرب تجريب منطق آخر للتحليل السياسي ولو لمرة واحدة، فلو اتفق علي أن هذا البلد قد وقع في أسر الاحتلال الأمريكي نهائيا، وأنه لا مجال لتخليصه من براثن هذا الاحتلال من خلال الآلة العسكرية، أفلن يكون متاحا أمام العراقيين نحت تجربة مميزة في التعامل مع المحتل الأمريكي علي غرار ما فعل اليابانيون أو الكوريون أو الألمان، أو حتي تجربة علي غرار تايوان أو بعض الإمارات العربية الخليجية، التي أصبح دخل مواطنيها الأعلي من نوعه في العالم، بفضل تعامل واقعي مع الحماية الأمريكية.ولا ريب في أن هذا المطلوب ممكن أيضا، في التعاطي مع إشكاليات عربية جوهرية، من أهمها تثبيت قواعد تفكير نمطية تقيم تعارضا غير مبرر بين الليبرالية، التي هي مشروع العالم الجديد اليوم، وبين العروبة والإسلام، فيما يحيل التأمل العملي في المسألة إلي نتائج مغايرة تماما، حيث يكاد يجزم بأن الطريق الليبرالي وحده الكفيل بإقامة مجال حيوي عربي، اقتصادي وسياسي موحد، ووحده الكفيل أيضا بفتح آفاق عالمية واسعة أمام حركة الإسلام الدعوي، المسالم والمتسامح.لقد جرب العرب صداقة المعسكر الشرقي، كما جربوا الربط بين الاشتراكية والمشروع القومي، فماذا كانت نتيجة نصف قرن من هذه التجربة؟ ولماذا يصر منظرو القومية العربية علي التشبث بمنهج ثبت فشله الذريع نظريا وعمليا؟ ثم لماذا الإصرار علي عدم تجريب مناهج عملية أخري، لعل أهمها المنهج الليبرالي، الذي لو نجح في الانتشار عربيا، لأتاح المجال أمام تواصل حركة الأشخاص والأموال والسلع بين الدول العربية، ولحول فكرة الوحدة العربية إلي مشروع اقتصادي مربح ومصلحة جماعية لكافة الطبقات والفئات الاجتماعية، بما يوفر قاعدة النجاح لأي مشروع وحدوي علي الصعيد السياسي.وفي السياق ذاته، لماذا ينظر الإسلاميون العرب إلي المشروع الليبرالي الدولي، علي أنه تهديد للهوية الثقافية والحضارية الإسلامية؟ أو لم يعتمد الإسلام كدين وثقافة مبدأ العالمية منذ نشوئه؟ ثم ألم تكن تجربة انتشار المسلمين في مختلف أنحاء العالم، تجربة مفيدة وثرية لحركة الدعوة الإسلامية؟ وأخيرا إلي ماذا تحتاج الرسالة المحمدية أكثر من الحرية، التي تتيح لها القدرة علي نشر الدعوة علي أصعدة عالمية، ومخاطبة المؤمنين أينما كانوا بلا إعاقات أو منغصات سلطوية؟خلاصة القول إذا، أنه ليس أفيد أو أقوم عندي للطموحات القومية العربية والإسلامية، من التشجيع علي اندماج العالم العربي في إطار المشروع الليبرالي العالمي، وتبني أساليب مستحدثة تركز علي العمل في المجالات غير المتنازع عليها، وهجر العقلية العسكرية، إلي عقلية حضارية وثقافية شاملة، لا تنافس الآخر فيما هو مهيمن فيه، وتبحث عن عناصر جديدة للإبداع والمقاومة.ہ كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي ـ لاهاي8