تأسّيا بشعار الشعب يريد… النخب العلمانية المتطرفة تريد حركات إسلامية معصومة

حجم الخط
0

بمناسبة مرور الذكرى 32 على تأسيس حركة النهضة، كثر الحديث بين بعض نخب المجتمع، خاصة منها العلمانية المتطرفة، عن حركة النهضة ومشروعها، وأطنبوا في إبراز أخطائها وعيوبها، إلى أن وصلوا إلى استنتاج مفاده أن هذه الحركة ليست حركة إصلاحية، بل هي حركة تتستر بالدين قصد تحقيق مكاسب ومآرب سياسية، وكذلك مصالح شخصية لمنخرطيها على حساب المجموعة الوطنية.
وكدليل على ما يدّعون، أتوا على تفاصيل وحيثيات قتل حارس الشعبة الدستورية بباب سويقة في تسعينات القرن الماضي، حيث بينوا تورط حركة النهضة في استعمال العنف، وذلك بعد أن اعترفت الحركة بمسؤوليتها المباشرة ومسؤولية مناضليها في هذه العملية. ولم يبق، حسب زعمهم، إلا محاكمتها على ما اقترف منتسبوها وتحذير الشعب منها ومن أفعالها المشينة التي تتنافى ومبادئ وسماحة الإسلام الذي تتبنّاه الحركة.
إن الوقائع المتحدّث عنها باعتبارها جرائم مرتكبة، هي في حقيقة الأمر من تأليف وسيناريو وإخراج وإنتاج قوى البغي والاستكبار والاستبداد التي لا تريد الخير للبشرية وتحاول في كل مرة فرض رؤيتها ومنهجها الفكري بالقوة على الجميع. حيث أن كل ما في الأمر أن مناضلي الحركة استدرجهم النظام السابق إلى كمين للإيقاع بهم، ومن ثمة تشويههم أمام الرأي العام، ومحاكمتهم والزج بهم في السجون للتخلص منهم نهائيا.
فحسب الخطة المعدة سلفا تضيّق قوى الاستبداد المنتشرة في كامل الوطن العربي على الحركات الإسلامية الجماهيرية حتى تحد من انتشارها. وتسعى السلطة في سبيل ذلك إلى استعمال كل الممارسات، لثني ومنع الإسلاميين من محاولة تنزيل الإسلام في الواقع، وذلك بتشويههم ومطاردتهم والتضييق عليهم والزج بهم في السجون وممارسة كل أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي عليهم، قصد إرغامهم إمّا على رفع الراية البيضاء والانسحاب من الحياة السياسية أو دفعهم مكرهين لاستعمال العنف للدفاع عن أنفسهم.
فقوى الاستبداد تجبر، في مرحلة أولى، الحركات الإسلامية على ارتكاب ردود فعل عنيفة، ثم تخرج ردود الفعل هذه من سياقها الطبيعي والظرفي، كدفاع شرعي لتوقّي الأسوأ، وتحمل في ما بعد كل وزرها على مناضلي الحركة الإسلامية. وتقود هذه القوى المعادية، حملة شعواء لتشويه أبناء الحركة والادعاء بأنهم يستغلون الدين لأغراض دنيوية، على أساس أن الإسلام يدعو إلى التآخي والتحابب والتسامح، ولا يدعو إلى التفجير وقتل الناس الأبرياء. ففي وعيهم ووعي الجماهير، التي شكلوها على مدى سنوات الاستبداد، الحركات الإسلامية الحقيقية ليس لها أن تخطئ ، فهي معصومة ولا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن ترتكب أعمال قتل مهما فعل بها الاستبداد، ومهما مورس عليها من ضغط و محاصرة وقتل وتشريد ونفي ونحو ذلك. فإذا أخطأت بفعل الحصار وتحت ضغط الواقع الصعب المفروض عليها، هجموا عليها مرة أخرى وقالوا ان هذه الحركات لا تمت إلى الإسلام بأي صلة وإنما تدعي الإسلام وتتلبسه وتتستر به لتحقيق أغراض سياسية ودنيوية رخيصة.
وفي حقيقة الأمر لم تأت النخبة العلمانية المتطرفة بجديد في الغرض، وإنما أعادت صياغة ما أتى به الأولون. جاء في سيرة ابن هشام ‘أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش بن رئاب على رأس ثمانية رهط من المهاجرين، وقال له امض حتى تأتي بوادي نخلة بين مكة والطائف فترصد لنا قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. فمرت بذلك المكان في آخر يوم من رجب، عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة. فسطت عليها سرية عبد الله بن جحش وقتلت رجلا وأسرت رجلين. فلما قدموا على رسول الله قال لهم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. وأبى أن يأخذ من الغنائم شيئا. فظن أفراد السرية أنهم قد هلكوا. وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله ‘يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه. قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أشد من القتل’ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله، مع الكفر به، وعن المسجد الحرام. وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل ما قتلتم.
يقول محمد الغزالي في كتابه ‘فقه السيرة’ صفحة 165: ‘إن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله. فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم؟ لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته. فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعا. فالقانون المرعي – عنده في الحقيقة – هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب’.
وبعد فتح مكة بعث رسول الله السرايا تدعو إلى الإسلام ولم يأمرهم بقتال وبعث خالد بن الوليد داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، فوطئ خالد بن الوليد بني جذيمة فقتل منهم. ولما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء وقال، اللهم إني أبرأ لك مما فعل خالد. وبعث علي بن أبي طالب ومعه مال فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من أموال حتى رضوا.
فالمسلمون بصفة عامة والمجاهدون بصفة خاصة معرضون لارتكاب الأخطاء عند تشخيصهم لواقع الحال وعند ممارستهم لواجباتهم الدينية والجهادية، ولا سيما عندما يكونون قد حيل بينهم وبين العلماء وأصحاب الرأي. فالمطلوب إذن هو فتح الباب أمام العلماء لتصحيح المسار باستمرار وليس الارتماء على أول حركة عابرة لانتهازها لتشويه الدعوة والدعاة والقيام بحملة واسعة للتخلص من الإسلام والمسلمين جملة وتفصيلا ، بما يعني ‘التخلّص من الجمل وما حمل’، كما يقول المثل العربي. ورغم محاولات كل القياديين لدفع الشبهات وإنارة الطريق أمام الناس، لا يزال بعض العلمانيين المتطرفين وبعض المرتبطين بقوى الاستبداد يصرّون على اتهام الإسلاميين بالتستر بالدين لتحقيق أغراض سياسية. ولسائل أن يتساءل لما الإصرار على هذا الاتهام وعلى هذا الافتراء الفاضح؟ ذلك أنّ الذي يتستر بالدين للحصول على مكاسب سياسية ودنيوية إنّما يريد أن يربح في الدنيا قبل الآخرة، ولا يحب بالتالي أن يخسر. ونتيجة لذلك فانّه لا يمكن أن يسعى بإرادته لقضاء عشر سنوات أو عشرين سنة من عمره في السجون الانفرادية، ولا يمكن أن يتحمل ويصبر على عذابات ومعاناة شديدة في سبيل دين اتخذه أصلا، حسب زعمهم، مطية لتحقيق أغراض دنيوية. أليس كذلك؟
لم يكتف العلمانيون المتطرفون باتهام الإسلاميين بالتستر بالدين لأغراض سياسية، بل هربوا إلى الأمام وطالبوا الحركة الإسلامية بضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي، وحجتهم في ذلك أن الإسلام لا يتدخل في السياسة. بما يعني أن الجماعة يحاربون الإسلام ويفتون باسمه في نفس الوقت. بعض الأحزاب العلمانية التي انحازت إلى الاستبداد وركنت إليه وساعدته في اجتثاث الإسلاميين من مؤسسات الدولة، تظهر اليوم في عديد المؤسسات الإعلامية وتعلن على الملأ أنها أحزاب لا تعادي الإسلام وأنه يوجد من بين أنصارها نساء مسلمات محجبات! فمن يا ترى يتستر بالدين لتحقيق أغراض سياسية وانتخابية ودنيوية و …؟ فهم من جهة يعلنون أنهم مع الإسلام عندما يسمحون بعضوية نساء محجبات في أحزابهم ومن جهة أخرى يحاربون الإسلام في المجلس التأسيسي ويتصدّون لمنع أن تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للإسلام، بينما يسعون باستمرار لإدراج الحقوق الكونية في الدستور. فما هي هذه الحقوق الكونية؟ أليست حرية التعري والزواج المثلي من ركائز الحقوق الكونية؟ فمن جهة يتظاهر القوم بأنهم مع الإسلام ومن جهة يحبون أن يستبدلوه بدين آخر يسمى الحقوق الكونية. لم يفرض المسلمون على مدى التاريخ الدين الإسلامي على الناس، بدليل وجود أقليات يهودية ومسيحية ومن ديانات أخرى يعيشون في مختلف البلاد العربية والإسلامية كمواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. ولو فرض المسلمون الإسلام على كل الناس لما وجدنا هذه الأقليات تعيش بيننا. وأما اليوم فإن الأقليات العلمانية المتطرفة تريد أن تفرض على الأكثرية كفرا تحت غطاء الحقوق الكونية والتوافق.
كما نلاحظ العنوان الرئيسي للفترة الانتقالية هو التستر: يتهم المتطرفون العلمانيون الأحزاب الإسلامية بالتستر بالدين لتحقيق أغراض سياسية. وفي نفس الوقت يتستر هؤلاء العلمانيون المتطرفون وراء الحقوق الكونية لضرب دين وهوية البلاد والعباد. ويتستر بقايا الاستبداد وراء مواطنين صالحين وصحافيين يدافعون عن حرية الإعلام للتهجم على الحكومة وعلى رموز الثورة والإيحاء بأن البلاد تتجه إلى المجهول (البلاد داخلة في حيط). لذلك فإنّ من أولويات المرحلة الإسراع بإعداد القوانين والبرامج والندوات والملتقيات لفضح كل المتسترين وتحصين الثورة.

‘ كاتب تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية