تعتبر معاهدة سايكس بيكو المعاهدة الأشهر في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، والسبب الحقيقي لذلك هو كثرة ذكرها في الإعلام العالمي بشكل عام والإعلام العربي بشكل خاص، وادعاء الكثيرين بأن الحدود القائمة بين مختلف الدول في الشرق الأوسط كانت قد رسمت بموجب هذه المعاهدة.
وكان قد تم التوقيع على هذه المعاهدة في التاسع عشر من مايو 1916 بين بريطانيا وفرنسا، حيث مثل الأولى مارك سايكس (1879 – 1919) والثانية فرانسوا بيكو (1870 – 1951) وكان هدف المعاهدة تقسيم الشرق الأوسط بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، التي بدأت سنة 1914.
وكان نصيب بريطانيا الأردن ووسط العراق بينما كانت حصة فرنسا لبنان وسوريا وجنوب شرق تركيا وشمال العراق. وسبق لبريطانيا أن وقعت معاهدة سرية مع روسيا (القيصرية آنذاك) في مارس 1915 تعطي لروسيا مضيقي البوسفور والدردنيل، بالإضافة إلى مدينة اسطنبول مقابل إعطاء بريطانيا مناطق من الإمبراطورية العثمانية، ومنها وادي الرافدين الغني بالنفط، وبعد فشل حملة الحلفاء على الدردنيل وغاليبولي بفترة قصيرة، تم ضم روسيا إلى معاهدة سايكس – بيكو، التي ضمنت لروسيا مناطق مثل أرمينيا التركية (أي الجزء الشرقي بأكمله من تركيا الحالية) بالأضافة إلى مضيقي الدردنيل (الذي تشرف عليه مدينة أسطنبول) والبوسفور ومدينة أسطنبول، ولذلك أصبح اسم المعاهدة سايكس – بيكو– سازونوف، فقد كان وزير الخارجية آنذاك سيرغي سازونوف ممثلا لروسيا في مفاوضات هذه المعاهدة، وتعهد كل طرف بالسماح للأطراف الأخرى بالمرور في مناطقه. وكان هناك شرط اساسي فيها هو تعهد الأطراف الموقعة بالاشتراك في الحرب حتى الانتصار على ألمانيا وحلفائها.
وقد اعتبر الموقعون كل شيء متعلقا بهذه المعاهدة سرا من الأسرار وحتى وجودها، ولذلك فإن توقيع المعاهدة لم يعلن في حينها، وبموجبها أعطت بريطانيا شمال العراق لفرنسا كي تكون القوات الفرنسية حاجزا بين القوات البريطانية في وسط العراق والقوات الروسية في الجزء الشرقي من تركيا، بعد الحرب، ولم يكن هذا صدفة أو كرما فروسيا وبريطانيا كانتا عدوين لدودين في آسيا، ولم تخف روسيا أطماعها الآسيوية أبدا فقبل الحرب كانت تحاول التوسع في الصين وشمال إيران وأفغانستان، بل ان أطماعها في الهند التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك لم تكن سرا، وفي حالة الانتصار في الحرب العالمية الأولى فإن الصراع البريطاني الروسي كان على الأغلب سيعود الى الواجهة. وكانت روسيا تحاول جاهدة التوسع في أوروبا الشرقية لتأسيس نوع من الإمبراطورية السلافية هناك، تحت قيادتها طبعا، ما جعلها تدخل في صراع مع الامبراطورية النمساوية وكانت لها مطامع معروفة في شمال إيران، وقد يكون هدفها الحقيقي الوصول إلى المناطق النفطية في الشرق الأوسط، وعلى الأخص وادي الرافدين، فقد حاولت الدخول في مشروع سكة حديد برلين – البصرة الذي كان الألمان ينوون إنشاءه. وبالإضافة الى معاهدة سايكس بيكو قامت روسيا وفرنسا وبريطانيا بتوقيع معاهدة منفصلة مع إيطاليا في أبريل 1915، لإعطاء الأخيرة جزءا من تركيا الحالية، بالإضافة الى مناطق في أوروبا، وقد سميت هذه المعاهدة بمعاهدة لندن.
وجدير بالذكر أن معاهدة سايكس بيكو مثل غيرها من المعاهدات الدولية، لم تستند الى أي قانون ولم تكن هناك محكمة قادرة على فرض حكمها على الأطراف الموقعة في حالة وقوع خلاف بينهم، ولذلك فإن قابلية كل طرف فيها على حماية حقوقه كانت تعتمد كليا على قوته العسكرية. ومن الممكن القول إن الأطراف الموقعة ربما كانت غير راغبة في الالتزام بها، وإنها لم تكن سوى نوع من الالتزام الأدبي الذي سينتهي مع نهاية الحرب العالمية الأولى بانتصار الأطراف الموقعة وستكون تلك مرحلة لإعادة المفاوضات.
ولكن لم تجر الرياح كما تشتهي السفن بالنسبة لكل الأطراف الموقعة، فقد خرجت روسيا من الحرب سنة 1917 بعد أن سقط النظام القيصري ليحل محله النظام الشيوعي، الذي كانت له رؤية مختلفة، ولم يكن الجيش الروسي في حالة تسمح له بالاستمرار في القتال، ولذلك فعندما انتهت الحرب كانت روسيا قد اختفت كقوة عالمية وسقطت حقوقها في المعاهدة، بينما كانت بريطانيا أقوى الدول الأوروبية المنتصرة فاستولت على شمال العراق واحتلت أجزاء من تركيا ومنها إسطنبول ومضيقا البوسفور والدردنيل ودخلت مع فرنسا في مفاوضات جديدة حول تقسيم الغنائم، وكانت بريطانيا فيها طرفا صعبا إلى درجة انه في إحدى جولات المفاوضات استشاط رئيس الوزراء الفرنسي، جورج كليمنصو(1841 – 1929) غضبا وجن جنونه فتحدى رئيس الوفد البريطاني في مبارزة، ولحسن الحظ أن الأمر لم يصل الى تلك الدرجة.
وتم تأسيس الجمهورية التركية الحالية ما يعني أن فرنسا وإيطاليا وروسيا لم تنل في تركيا ما كان من المتوقع أن تأخذه حسب المعاهدات التي وقعتها ولذلك فإنه من الممكن القول إن معاهدة سايكس بيكو لم تنفذ أبدا. ولكن اذا كانت المعاهدة سرا من الأسرار فكيف عرف المؤرخون والإعلام بوجودها؟ فعندما استولى البلاشفة الشيوعيون على مقاليد الحكم في روسيا اطلعوا على وثائق النظام السابق، ومنها معاهدة سايكس بيكو فتم نشرها في الصحف الروسية الرسمية (أي السوفييتية) في سبتمبر 1917 ثم نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية بعد ذلك بثلاثة أيام.
هناك الكثير من النقاشات حول معاهدة سايكس بيكو في الإعلام، ولكن قد يكون أكثرها إثارة للدهشة هو اللقاء الذي قام به مقدم البرامج خالد الرشد في برنامجه «رحلة في الذاكرة» في قناة «روسيا اليوم» في 22.6.2016 مع سيميون باغداساروف، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط وبلدان وسط آسيا، الذي أعرب عن رغبته بوجوب حصول روسيا على ما أرادته من هذه المعاهدة، وإذا كان هذا غير ممكن فيجب العودة للمعاهدة السابقة بين روسيا وبريطانيا التي أبرمت سنة 1915 على أساس أن هذا يشكل «الإرث الشرعي» لروسيا، وأسهب في وصف «حقوق» روسيا في احتلال إسطنبول التي كان يسميها القسطنطينية طوال المقابلة التلفزيونية، وهو اسمها قبل استيلاء العثمانيين عليها، الظاهر أنه لا يعترف بعثمانيي الأمس أو أتراك اليوم، واختلق أسبابا دينية وعائلية لاحتلال اسطنبول، حيث ادعى أن الامبراطور الروسي إيفان الرهيب (1530 – 1584) كان حفيد ابنة آخر امبراطور بيزنطي وكأن هذه أسباب كافية لتبرير الأطماع الروسية. أما إذا كان سكان اسطنبول الآن ليسوا روسا فهذ ليس بمشكلة لأنه بالإمكان إسكان الروس في المدينة. أما سكان إسطنبول الأتراك فلم يتكلم عن مصيرهم، ثم أضاف ان الشعوب الإسلامية من الممكن ان تتوحد تحت التاج الروسي. وعلى الرغم من أن المعاهدة معروفة باسم سايكس بيكو فإنه كان يذكر اسم الطرف الروسي أولا وطيلة الوقت للتركيز على الدور الروسي في المعاهدة، كما بدا مزهوا عندما قال إن القوات الروسية التي احتلت شمال إيران كان هدفها بغداد والخليج العربي الذي سماه الخليج الفارسي.
ومن المثير للشفقة أن نسمع مثل هذه الأسباب الواهية يعلن عنها بمثل هذه الصراحة كتعبير عن رغبة في احتلال مدينة رئيسية في بلد ذي سيادة في زمننا المعاصر المليء بالمآسي أصلا، وكأن تركيا وأهم مدنها اسطنبول كانتا جزءا من روسيا لآلاف السنين، وأن تركيا والشرق الأوسط بأكمله منطقة جرداء غير مأهولة بالسكان، ويتم كل هذا من خلال قناة تلفزيون تعتبر الواجهة الإعلامية الرئيسية لروسيا على العالم، لقد كانت هذه المقابلة كارثة حرفية كعمل في مجال العلاقات العامة.
٭ كاتب عراقي
زيد خلدون جميل
الى كاتب المقال مع تحياتي: مدينة أسطنبول تشرف على مضيق البوسفور وليس على مضيق الدردنيل. وشكرا على هذا المقال التاريخي الذي يذكرنا بالمشاريع الغربية لتقسيم الشرق الأوسط.