الجنسية المصرية: هل كل الأشياء قابلة للبيع حقا؟

حجم الخط
1

عندما اقترح عضو من أعضاء مجلس النواب المصري أن يتم الإعفاء من التجنيد الإجباري عبر دفع مبالغ مالية برر اقتراحه بأنه مصدر من مصادر الدخل وتمويل الاقتصاد ومواجهة ما تعانيه مصر من مشكلات اقتصادية. كان الخلط واضحا بين السياسة والاقتصاد، وبين محاولة مواجهة أزمات حالية عبر خلق أزمات أكثر عمقا وتأثيرا سياسيا وإستراتيجيا. فمن ناحية لا يفترض أن تمول الدول احتياجاتها المالية عبر الحصول على مقابل الإعفاء من التجنيد الإجباري الذي يفترض أن يخضع له الجميع مادامت توافرت الشروط اللازمة له وفقا للقواعد والقوانين المنظمة.
وفي الوقت نفسه لا يفترض أن يتحول التجنيد الإجباري إلى عبء على الفقراء، ولا أن يصبح عقابا ضد من لا يملك لأنه يتعارض مع أصل فكرة الجندية ودورها في حماية الوطن. والأكثر أهمية في الحالة المصرية إنه يتعارض مع قيمة الجيش وميزته التي تشكلت في الوجدان المصري بوصفه عابرا للطبقية وفرصة لتحقيق قدر من المساواة الغائبة في مجالات ومؤسسات أخرى في مصر، بعيدا عن أنه مهمة ذكورية إلا أن قواعده ظلت جزءا أساسيا من صورته ومن النظر إليه بوصفه جيشا وطنيا يعبر عن كل شرائح المجتمع. أما تسليعه أو تحويله إلى سلعة فمن شأنه إثارة الغضب والاحتقان وربما كراهية من يقوم به ممن لا يملك وبالتالي الإخلال بأهم مميزات الحماية والدور وتهديد فكرة المساواة في مسؤولية الدفاع عن الوطن.
كان الاقتراح مثيرا وكاشفا عن العديد من السلبيات التي تحيط بالمشهد السياسي المصري وبالبرلمان وتشكيله والأسس التي يتم على أساسها اختيار الأعضاء حتى وإنْ كانت تتم في إطار الاحتكام للصناديق. كما كانت في جزء منها تعبيرا عن إشكاليات ظهرت في العديد من التصريحات التي تناقلت من المرشحين لعضوية البرلمان سواء في مرحلة ما قبل الانتخابات أو أثناءها أو بعد تشكيله. ولهذا استمرت الانتقادات الموجهة للبرلمان رغم تأكيد الخطاب الرسمي على أن البرلمان آخر مراحل خارطة الطريق وتحقق الديمقراطية في مصر.
بدوره لم ينته الخلط بين السياسة والاقتصاد عند هذا الحد واستمرت محاولات تسليع السياسة وتوظيف الأزمة الاقتصادية من أجل طرح أفكار شديدة الخطورة إنْ تم الأخذ بها سواء في بعدها السياسي أو الإستراتيجي. وتحولت الأزمة الاقتصادية لذريعة لهذا الخلط الخطير الذي يسمح لمن يتحدث باسمه أن يطرح قضايا شديدة الحساسية وتهميش قيمتها عبر نقلها من البعد السياسي – الإستراتيجي إلى الحسابات الرقمية المادية للاقتصاد.
ظهر هذا الخلط مرة أخرى واضحا في قضية جزيرتي تيران وصنافير عبر تصريحات نائب برلماني آخر رحب فيها بإعطاء الجزر للسعودية والاستعداد لتقديم المزيد من الجزر علي أساس انخفاض قيمتها الاقتصادية – من وجهه نظره -، وبوصف هذا التحرك نوعا من التقدير للمعونات التي حصلت عليها مصر من السعودية. الحديث الذي أثار العديد من الانتقادات وظف الاقتصاد والمعونات لتمرير قضية تتعلق بالسيادة والحدود والقيمة الإستراتيجية إلى جانب القيمة والمكانة الإقليمية والدولية لمصر.
ظهرت الفجوة واضحة بين من يفترض أن يشرع ويدافع عن مصالح المواطنين والوطن، وبين استخدام الأزمة الاقتصادية بوصفها ذريعة لتمرير التنازل عن الجزر وتغيير الوضع الإقليمي لغير صالح مصر. إلى جانب ترسيخ صورة الدولة المأزومة اقتصاديا التي يمكن أن تتجاوز عن العديد من الثوابت من أجل بعض المال، ناهيك عن حقيقة تقييم وتخصيص هذا المال نفسه وطرق استثماره ودوره في تحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق التنمية من عدمها لأن تلك النقاط خارج السياق وتمثل نقاشا لا يفترض الدخول فيه لأنه يقوم على افتراض ضمني بقبول استخدام الاقتصاد من أجل بيع الوطن أيا كانت درجات وأشكال ومسميات هذا البيع. وأثارت تصريحات التنازل عن الجزر لمن يملك المال تساؤلات عن قضايا حدودية أخرى مع أطراف قد لا تملك، والتساؤل إن كان التمسك بالأرض حقيقيا بوصفها جزءا من السيادة والقيمة والتاريخ والدور أو أنها مجرد سلعة يتم التعامل معها حسب الطرف الآخر وما يملكه أو لا يملكه من الناحية المادية.
ولأن المشكلة عميقة فإن تلك التساؤلات والجدل المثار حول القضايا المهمة المرتبطة بها لم تنه محاولات استخدام الأزمة الاقتصادية عند هذا الحد لتظهر تصريحات لنائب برلماني آخر يعلن فيها تقديمه لاقتراح للمجلس لبيع الجنسية المصرية للعرب، والمبرر المعلن – كما هي العادة – هو الحصول على أموال لخزينة الدولة. وفي 30 يوليو/تموز 2016 أعلنت الحكومة عن مشروع قانون لتعديل أحكام القرار بقانون رقم 89 لسنه 1960 الخاص بدخول وإقامة الأجانب ومنح الجنسية المصرية. وينص مشروع القانون على إمكانية منح الجنسية للمستثمرين الأجانب مقابل مبالغ مالية تدفع بالدولار. واعتبرت المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون أنه يعمل على تشجيع الاستثمارات العربية والأجنبية في المشروعات الاقتصادية، والتيسير على الأجانب ممن لهم ارتباط طويل وقوي بمصر، وخلق جو من الثقة والاستقرار من أجل الاطمئنان على أموالهم وتحقيق الاستقرار العائلي لهم، مع التعبير عن تقدير مصر لدورهم في تنشيط الاقتصاد. واعتبرت المذكرة أن الإقامة في مصر مدة لا تقل عن خمس سنوات تشكل نوعا من الوفاء والانتماء للدولة المصرية.
نوع آخر من الخلط بين الجنسية والاستثمار، وبين الاستثمار فى دولة والولاء لها، وبين الجنسية ومصادر تمويل الدولة وحل أزمتها الاقتصادية بعيدا عن طرق المعالجة والمواجهة المفترضة اقتصاديا وسياسيا. دون أن تطرح الحديث عن المعوقـــــات التي تمنعهم من الاستثمار دون الحاجة للحصول على الجنسية ودون الإشارة للمخاطر التى يمكن أن تترتب على مثل تلك الخطوة في تلك اللحظة وعلى حدود القرار وإمكانية توسعه ليشمل جنسيات أخرى ترغب بدورها في الاستثمار بالطريقة نفسها في مصر وكأن الاستثمار لا يتم أو لا يتم بصورة جيدة دون الحصول على جنسية الدولة المعنية. والسؤال لماذا ترغب في تحويل شخص يمكن أن يستثمر ويحصل على الكثير من المميزات والتسهيلات الاقتصادية بوصفه مستثمرا أجنبيا أو عربيا إلى مواطن؟ وما هي المكاسب المفترضة والمخاطر المحتملة لمثل هذا القرار؟ وكيف تحسب جدواه بمقارنه المكاسب والمخاطر المرتبطة به؟
قد يؤكد البعض على أن الخطوة ليست جديدة وأن الحصول على جنسية دولة ما مقابل استثمارات محددة فيها يحدث في عدد من الدول، ولكن يظل هذا الاستدعاء قاصرا عن التعامل مع الواقع لأن تلك السياسات لا تعمم ويجب أن توضع في سياق الدولة ووضعها والظروف التى تمر بها داخليا وإقليميا مع حساب المخاطر والتحديات الأمنية والإستراتيجية، إلى جانب تأثير السياسات المتبعة على الجانب المعنوي والكرامة الوطنية في اللحظة التاريخية المعنية.
بداية تبدو الدولة المصرية في لحظة ضعف من شأنها أن تضعف الثقة في مثل تلك الخطوات لإنعكاساتها السياسية والاستراتيجية وحتى الاقتصادية الأكثر عمقا. ولكن كما يحدث فى القضايا المشابهة تركز جزء من النقاش المطروح على البعد الاقتصادي ووصل الأمر إلى تهميش الجنسية المصرية نفسها حيث أعتبر البعض أن الجنسية المصرية لا تملك المميزات التي تدفع أحدا لدفع أموال من أجل الحصول عليها في تكرار لفكرة القيمة الاقتصادية من وجهة نظر قاصرة كما حدث في قضية الجزر وفي تأكيد على فكرة أن مصر «أشباه دولة» لا تسعى للريادة. وفي حين اعتبر البعض أن مشروع القانون يدعم الاستثمارات الأجنبية، اعتبر البعض الآخر أن المميزات المطلوبة لدعم الاستثمارات يمكن توفيرها عبر تسهيلات خاصة دون بيع الجنسية وهي النقطة التى يفترض أن يتم التركيز عليها وتفنيدها خاصة وأنها تعني أمكانية الوصول لمؤسسات الدولة المختلفة والتمثيل فيها والمشاركة في صنع القرارات عبر البرلمان نفسه وهي الأوضاع التي يمكن أن تطرح سؤال الولاء السياسي وحسابات المكسب المتوقعة لمن يحصل على الجنسية عبر مقابل مادي.
تتحول الجنسية إلى سلعة تقدم مقابل وديعة مالية ويفترض أن من يحصل عليها يسعى للاستثمار والحصول منها على مكسب مادي أي أن المدخل لها اقتصادي- ربحي يسعى فيه النظام المصري للحصول على ودائع سهلة ويسعى فيه المستثمر لتعظيم مكاسبه وفي المنتصف ترحل المشكلات الكبرى للمستقبل وتغلف باسم حب مصر والوفاء لها وتقدير من يستثمر فيها بما يعني أن الدائرة لا تغلق والاتساع في التفسير محتمل وفقا لتفسيرات القانون وتعديلاته إنْ تم تمريرها.
وإذا كانت هناك العديد من الاسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا السياق فإن السؤال المباشر يرتبط بقيمة أصدار قوانين تمنع بيع أراض معينة أو تحظر أنشطة محددة على الأجانب إن تم الربط بين الجنسية والودائع المالية لأن من يحصل على الجنسية يمكن أن يحصل على تلك الأراضي ويتخلص من الاشتراطات التي تفرض على الأجانب وخاصة ضرورة استغلال الأرض وإقامة المشروعات المفترضة في فترة زمنية محددة. ويتحول بيع الجنسية أو الحصول عليها عبر وديعة مالية لوسيلة للالتفاف على القوانين وعلى القيود المفروضة من أجل اعتبارات الأمن القومي التي تمنع تملك الأجانب لأراض محددة وفقا للنشاط أو للموقع الجغرافي، أو القيام بأنشطة معينة أو الاستثمار في مجالات محددة.
فى «لا تصالح» يؤكد أمل دنقل على أن هناك «أشياء لا تشترى»، وبالطبع هناك أشياء لا تشترى وأشياء لا تباع ولحظات ضعف يجب أن نتمسك فيها بالخوف من قرارات يمكن أن تضر بالوطن وبما يترك لأجيال قادمة باسم الأزمة الاقتصادية الحالية التي تستمر فى حين يخسر الوطن أشياء لا تعوض ولا يفترض أن تباع.

٭ كاتبة مصرية

الجنسية المصرية: هل كل الأشياء قابلة للبيع حقا؟

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسن الحساني:

    لأنه يتعارض مع أصل فكرة الجندية ودورها في حماية الوطن…. انتهى الاقتباس وهل سلوكيات عسكر مصر وانهماكهم في السياسة البزنس يقيم أي وزن منذ عقود لفكرة الجندية وفي مقال أخير للمفكر فهمي هويدي يقول فيه بما معناه خاض بل فرض على عسكر مصر أربعة لا أقول حروب بل مواجهات مع الكيان الصهيوني في السنوات: 1948 و 1956 و 1967 و أخيراً 1973 ولم ينتصر في واحدة منها. العض يقول حرب اكتوبلا المجيدة ويدعي الانتصار فيها لكنها في الحقيقة لم تكن سوى تحريك تجاه ما اصطلح عليه في ذلك الحين باللغة الإنجليزية disengagement اي فك اشتباك يفضي إلى مفاوضات تتوجت باتفاقيام كامب ديفيد وما أدراك ما اتفاقيات كمب ديفيد. ليس القصد هنا الطعن في قدرة الجندي المصري خاصة والعربي عامة ولكن الأمر يتعلق بالقيادة والعقيدة العسكرية. دور العسكر حماية أمن الوطن وليس بيع الخبز والمعكرونه وآثاث المنازل والوقوف في أكشاك بيع التذاكر.

إشترك في قائمتنا البريدية