وأخيرا تكلم الجنرال

حجم الخط
0

يعد الجنرال التونسي رشيد عمار من أكفأ وأخطر قادة الجيوش في شمال افريقيا، وربما المنطقة العربية عموما. واليوم يقضي آخر ساعاته كمسؤول أول على رأس هرم الجيش التونسي، أي كرئيس لهيئة الأركان العامة للجيوش الثلاثة: البرية والبحرية والجوية.
ويعرف اغلب الشعب التونسي أن خطورة الرجل تنبع من كونه ‘رئيس الطباخين’ للقرارات الأمنية والعسكرية الكبرى والحاسمة إلى الآن في تونس. كما أنه الرجل الذي جمع بين يديه دفتي القيادة الأمنية والعسكرية، أثناء الأيام الحاسمة للثورة التونسية وبعدها. وهو الذي أحدث موقفه الإيجابي والمتطور من الثورة وعدم استيلائه على السلطة كل ذلك الإعجاب، حول العالم بمدنية الانتقال السياسي في تونس.
لكن الغموض الذي حف بالأيام الصعبة لسقوط طاغية قرطاج، ولحظات الفراغ السوداء التي اعقبت فراره إلى المملكة العربية السعودية، وحول ما كان يحدث فيها حقيقة، جعلت الجميع يطرح أكثر من سؤال، حول حقيقة ما كان يجري، ولكن في زخم اللغط وخطابات التأويلات المفرطة التي افرزها واقع حرية التعــــبير الجديد لسيناريوهات الأحداث الغريبة التي قادت البلاد والعباد في الثورة، فضل الجنرال رشيد عمار الصمت، وتجنب أي شكل من أشكال الظهور الإعلامي. وهو أمر لا يزيده غرابة سوى رفض الرجل المحنك، أي شكل من أشكال الإغراء السياسي الذي ارسلته له الحكومات المتعاقبة لتولي مناصب وزارية.
والبارحة فقط اسقط هذا الرجل القناع عن نفسه، وظهر في احد أشهر برامج التلفزة التونسية ‘الخاصة’ ومكث لأكثر من ثلاث ساعات يتحدث عن جميع الأمور التي تجنب الخوض فيها سابقا. فكيف بدا؟ وما أهم ما جاء على لسانه؟
بداية بدا الجنرال في زيه العسكري، مليئا بالثقة، وجلب معه صورة إعلامية جيدة، يبدو أنه تم إعدادها بطريقة دقيقة. تكلم الرجل بكل هدوء، وبلغة سليمة، وبمفردات وإيقاع صوتي ذكر المخيال التونسي برجال الدولة أصحاب الكاريزما الحقيقيين. حلل الجنرال عمار الوضع الأمني للدولة، خاصة المسألة الإرهابية، وقدم مقاربة جديدة للأمر، حينما ذكر أن امر جبال الشعانبي والجماعات الأصولية المتشددة التي رابطت بها، يتعلق بتمرد وليس بعمليات إرهابية معزولة عن بعضها البعض. وبيّن أن مشروع هذه الجماعات من وراء حمل السلاح في وجه الدولة ليس مجرد إضعافها، بل القضاء عليها وتبديل طبيعة الحكم من مدني إلى نظام اصولي متشدد. وكشف عن يقينه بارتباطها مباشرة بـ’القاعدة’. ووصف استراتيجية التصدي لها عبر بناء شبكة من الاستعلامات المحكمة، التي تشمل جميع العناصر المعنية بالأمن في الدولة.
وأمام الاتهامات والانتقادات التي تم توجيهها لأداء الجيش وللجنرال شخصيا في هذه الأحداث الأخيرة، رد رئيس هيئة الأركان بلباقة وحنكة خطابية مفاجئة، فبينما ضربت بعض اجاباته في الجماليات الإنشائية، عزف بعضها الآخر على الأوتار الوجدانية للناس، فأخرج الجنرال بذلك نفسه والمؤسسة العسكرية من جميع أشكال الإدانة والتشكيك. ولم يكن هذا الموقف الإعلامي بديهيا سهلا.
إذ أن طبيعة الأسئلة بدت صريحة وحادة أحيانا، كما أن المذيع استعان في الظاهر في مواجهة الجنرال بصحافي قديم ومثقف معروف، يحظى باحترام شريحة واسعة من الشعب التونسي، هو الأستاذ صلاح الدين الجورشي، لكن لم ينفع ذلك أمام قوة الحضور واللباقة والاستعداد التي ظهر بها الجنرال.
ولعل أخطر ما صرح به الجنرال رشيد عمار البارحة كان في واقعة رفضه لاقتراح تسلمه السلطة مباشرة وفي قلب وزارة الداخلية يوم 15 كانون الثاني/يناير لملء الفراغ في سدة الرئاسة. رفض برره الجنرال بجملة سوف يعيدها له التاريخ لسنوات طويلة، هي ‘عقيدتى تأبى علي ذلك، وقد درست هذا الأمر لطلبتي من العسكريين’ و’ارفض أن ينخرط الجيش في هذا المسلك الذي إذا حدث لا يمكن الرجوع فيه’ و’لابد من احترام الدستور وطريقة الانتقال التي ينص عليها’. وسواء كان هذا التبرير صادقا أم هو لمجرد الدعاية وإضاءة صورته في وثائق التاريخ، فإن الثابت أن الرجل كان الأقوى في تلك الظروف، وكان الطريق أمامه لقصر قرطاج مفتوحا على مصراعيه، باعتباره القائد الأوحد للمؤسسة العسكرية.
وفي نفس المستوى من الخطورة، صرح الجنرال رشيد عمار أثناء إجابة عن سؤال يتعلق بالاتصالات الخارجية مع القوى الكبرى إبان الثورة، قائلا: لم أتواصل مع أي مسؤول كبير من الخارج، إلا مع صديقي رئيس هيئة الأركان للجيوش الفرنسية الذي سألني ما إذا كنا بحاجة إلى مساعدة ما. ويواصل الجنرال قائلا: فأجبته، باعتبار قدرتكم على الرؤية أفضل منا (القوة التقنية في التجسس) فإنني أريدكم أن تعلموننا بما يحدث على حدودنا الشرقية الطويلة (مع ليبيا). وفي نفس السياق، أكد الجنرال أن القذافي أعد بالفعل 15 ألف مرتزق كانوا يتأهبون لدخول تونس وإشعالها، لولا ان الجيش التونسي استعدّ جيدا للأمر، خاصة بضمانه للانتقال السياسي، حسب المواد الدستورية وليس بالاستيلاء على السلطة.
ومن الطريف أن المذيع الذي حاور الجنرال البارحة، معروف جدا بكونه من فلول نظام المخلوع بن علي، كان يصر على تسمية الثورة بــ’الانقلاب’ وحاول مرارا دفع الجنرال دفعا الى نطق هذه العبارة وتبنيها. ومع ذلك، وسواء كانت عبارة الانقلاب توصيفا سياسيا اكثر منها تعبيرا عن أحداث فعلية، فإنها تتنكر تماما لتضحيات ملايين الناس من الثائرين، وبالتالي فهي في الغالب باطل يراد به باطل. ولذلك كان الجنرال ذكيا ومنتبها، وأصر على تسمية الثورة بـ’الثورة’، وكان هذا مما يُحسب له في حسناته في هذا الظهور.
استمر الحوار من دون توقف، وأخذ الجنرال حصة الأسد من الحديث، وسحر الناس. وانتقل بالحديث الى مواضيع مختلفة، خاصة تلك التى تتعلق بملابسات الأحداث الكبرى التي وقعت، وغلفها الغموض الشديد إلى اليوم، فأتى على موضوع القناصة، ثم موضوع تسليم البغدادي المحمودي، وأخيرا على حادثة اغتيال الشهيد شكري بلعيد. وفيها جميعا، كان الجنرال يسوق نفسه رجل الحكمة والعقل، وبُعد النظر والحياد الذي يفرضه عليه منصبه العسكري. ومن طرائف هذا اللقاء، أن الجنرال كان في أكثر من مرة يمسك بلباسه العسكري، ليؤكد أن له الكثير مما يريد مصارحة الشعب التونسي به، ولكن ‘كسوته العسكرية’ تفرض عليه جدرانا من الصمت، وحالما يتقاعد سوف يتحرر منها، ويبوح بأسراره. كما كان الجنرال في كل مرة يسأل عن الوقت، ويحجز لنفسه كلمة الختام، مما شدنا الى ما يمكن أن تتضمنه هذه الكلمة. وبالفعل فاجأ الجميع بإعلانه طلبه الإعفاء من الخدمة عبر مطلب كتابي في الغرض وجهه الأسبوع الفارط الى رئاسة الجمهورية، وأكده في مقابلة مع رئيس الدولة (المؤقت) القائد الأعلى للقوات المسلحة بالأمس.
عموما، يمكن لمن تابع هذا البرنامج الخروج بالاستنتاجات التالية:
ـ إن ظهور الجنرال الإعلامي كان محسوبا بدقة، سواء في إطاره الزماني أو المكاني، وليس في هذا الأمر أي مصادفة أو حتى رغبة شخصية من الجنرال.
ـ وفي رأينا كان الغرض الأساسي من هذا الظهور، هو تبرئة ذمة الرجل، أو إخلاء مسؤوليته أمام الرأي العام، خاصة فيما يتعلق بما سوف يأتي في قادم الأيام. وكأن الرجل أراد ان يوصل الرسالة التالية: إلى الآن فقط أنا كنت المسؤول الأمني الأول، وبعد الآن لا تذكروني بشيء.
ـ من المحتمل بقوة أن يكون الجنرال قد أراد أن يوصل للناس انزعاجه وعدم تحمله لتدخل بعض الأطراف السياسية، خاصة الترويكا الحاكمة في شأن القرار العسكري، ومشروع السيطرة على المؤسسة العسكرية. ومما يؤيد هذا الأمر أن هذا الانسحاب جاء بعد أشهر قليلة على موقف مشابه في الاستقالة كان وزير الدفاع ‘المستقل’ الدكتور عبد الكريم الزبيدي قد قدمه تحت ضغط شديد برره بعدم تحمله للمزيد.
وأخيرا تظل بعض الأسئلة الجوهرية، مثيرة للقلق وللحيرة، حول هذا الظهور والقرار المفاجئ بالاستقالة منها مثلا: لو أن للجنرال حرصا مطلقا على إنجاح الثورة وبلوغ بر الأمان بها (كما يدعي دائما وكما سبق له أن تعهد أمام ثوار القصبة)، ما ضره أن ينتظر حتى موعد الانتخابات القادمة، وتأمينها، وتأمين انتقال السلطة إلى جهة قارة وليست مؤقتة؟ هل يئس الجنرال من إمكان انتقال سلمي قادم للسلطة في تونس، وفضل الانسحاب قبل اشتعال الفتيل؟ أم هل كان هذا القرار (غير المناسب إطلاقا في توقيته) تكتيكا داخليا في المؤسسة العسكرية؟ لأنه من الصعوبة تصديق أن رجلا محنكا وذا دهاء قد يخرج من دون أن يرتب الأمور جيدا في المؤسسة التي ضحى كثيرا من أجل بنائها؟
ورغم جميع هذه الأسئلة سوف تذكرك الكثير من الوثائق التاريخية سيادة الجنرال. وسواء كان لك أكثر مما كان عليك، فإن الأغلب أنك لم تكن مجرد جندي في جيش وطني عظيم، بل كنت رجل دولة حقيقيا ونادرا.

‘ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية