الموصل: المعركة وما بعدها

استمرت البروباغاندا عالية الصوت حول معركة الموصل ما يقرب من عشرة أشهر، تبارت فيها ثلاثة أطراف رئيسية: الولايات المتحدة الأمريكية؛ الحكومة المركزية العراقية، وحكومة إقليم كردستان. في ظل غياب شبه تام لأية قوة سنية ذات تأثير حقيقي، أو على الأقل صوت مسموع في ظل المعادلة السياسية القائمة. وقد كشفت المواقف المعلنة للأطراف الثلاثة عن انعدام الاستراتيجية التي يمكن الاتفاق عليها لترتيبات ما بعد تنظيم الدولة/ داعش.
منذ سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على الموصل في 9 حزيران/يونيو 2014، لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية، ان تنتج رؤية واضحة لإدارة المواجهة مع هذا التنظيم، رؤية من شأنها ان تهيئ لمرحلة ما بعد التنظيم. ورغم اعترافها بالبعد السياسي الذي يقف خلف وجود تنظيم الدولة/ داعش، انحازت الولايات المتحدة إلى المقاربة العسكرية، وكان الخطأ الاستراتيجي الأول هو الفصل بين هاتين المرحلتين، أي العمل على هزيمة التنظيم عسكريا من خلال المعادلات السياسية/ العسكرية المختلة القائمة في العراق اليوم، ثم محاولة العمل لاحقا على تصحيح هذه الاختلالات، تحديدا فيما يتعلق بالمشكلة السنية. هكذا وجدنا الأمريكيين يتنازلون سريعا عن فكرة الحرس الوطني التي كانت فكرتهم في الأصل، أي التنازل عن فكرة مشاركة المجتمع المحلي السني في استعادة مناطقه الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة/ داعش، والقبول بوجهة نظر حيدر العبادي، بوصفه الشخص الذي يحتكر عمليا القرار العسكري والأمني، والتي تمثل وجهة نظر الطرف الشيعي المهيمن، بالاكتفاء ببنادق محلية للإيجار يحملها حلفاء رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ممن أطلقنا عليهم حينها عبارة «سنة المالكي»! لكي يكونوا مجرد «غطاء سياسي» لاستخدامه في إطار الدعاية للمشاركة السنية في هذه المواجهة، والاعتماد كليا على القوات العسكرية والامنية ذات البنية الطائفية المقبولة شيعيا، وعلى الميليشيات العاملة تحت مسمى الحشد الشعبي، الموثوق بها شيعيا أيضا، من أجل انجاز هذه المهمة بدعم أمريكي! لذلك قبل الأمريكيون بان يكونوا غطاء جويا للمليشيات في معركة «آمرلي» في محافظة صلاح الدين في آب/ أغسطس 2014؟، في أول اختبار حقيقي لهذه الاستراتيجية! وعلى الرغم من الاعتراض الأمريكي اللاحق على مشاركة هذه المليشيات في معركة تكريت حصرا في آذار/ مارس 2015، إلا أنها قبلت بالخدعة الحكومية، بسبب الحاجة للدعم الجوي، بالشرط الأمريكي في عملية الاقتحام فقط، لكنها عادت وسمحت لهذه الميليشيات باستباحة المدينة مباشرة، في ظل صمت أمريكي! وشهدنا بعد ذلك دعما أمريكيا آخر صريح للمليشيات في معركة بيجي.
وقد تكرر الموقف الأمريكي برفض مشاركة الميليشيات في معارك الانبار، تحديدا في الرمادي وهيت والرطبة، إلا انهم تواطؤا بشكل صريح مع مشاركة هذه المليشيات نفسها في معركة الكرمة والصقلاوية والفلوجة! ومن ثم ليس ثمة ضمانات بان يصمد الرفض الأمريكي لمشاركة هذه الميليشيات في معركة الموصل، لاسيما مع عدم وجود العدد الكافي من القوات العسكرية والامنية التي يمكن للحكومة العراقية تحشيدها في هذه المعركة.
أما بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية الخاصة بمرحلة ما بعد تنظيم الدولة/ داعش، فهي تركز، كما لخصها مسؤول أمريكي التقيته في اجتماع رسمي قبل أيام، على تأمين عودة النازحين، وإعادة الإعمار، والعمل على توفير الامن في هذه المناطق بما يضمن عدم عودة داعش اليها! لكن الغريب في الامر ان الأمريكيين لا يفكرون كثيرا بالصراعات الحقيقية التي تحف معركة الموصل، تحديدا فيما يتعلق بصراع النفوذ والهيمنة؛ والنموذج الاقرب كان محافظة ديالى التي تحولت في معظمها إلى اقطاعية لميليشيا بدر وصاحبها هادي العامري، مع سيطرة قوات البيشمركة التابعة لحزب الاتحاد الكردستاني على مناطق خانقين وجلولاء! أو محافظة صلاح الدين التي تحولت إلى إقطاعية لميليشيات متعددة يمثلها أبو مهدي المهندس، أو في عمليات التغيير الديمغرافي المغطاة سياسيا التي حصلت وتحصل في مناطق جرف الصخر وسليمان بك ومناطق جنوب سامراء؛ او فيما يتعلق ايضا بالشروط القسرية التي فرضت رسميا على النازحين للسماح بعودتهم؛ كما في مدينة يثرب في محافظة صلاح الدين، أو في محافظة الأنبار؛ أو فيما يتعلق بالصراع في ادارة هذه المناطق وهو صراع يستمد مقدماته وديمومته من التدخل الحكومي المباشر في إدارة هذه المحافظات وهو تجاوز صريح على الحكومات المحلية المنتخبة، كما في قضية اختيار رئيس الوقف السني المدعوم من السلطة في بغداد على حساب مجلس المحافظة! وهذه كلها مؤشرات على ان أوضاع ما بعد داعش ستكون أسوأ بكثير من الاوضاع التي سبقت انتاج ظاهرة داعش، وستكون مقدمة لإعادة انتاج التطرف نفسه.
في معركة الموصل يواجه الأمريكيون معضلة إضافية، تتمثل في حضور الطرف الكردي في المعادلة، مع طرف آخر يتغاضى عنه الأمريكيون عمدا، هو حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يسيطر على مناطق واسعة شمال وغرب الموصل، والذي يخوض هو الآخر صراع نفود على هذه المناطق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني! قوات البيشمركة المقاتلة على جبهات الموصل حصلت من الأمريكيين على إمدادات سلاح، ودعم لوجستي، وبضعة مئات من الجنود، فضلا عن الدعم الجوي، والهدف الوحيد المعلن والمتفق عليه هو طرد تنظيم الدولة/ داعش من الموصل، أما الصراع الحتمي اللاحق على النفوذ والأرض، فواضح ان الأمريكيين غير معنيين به ولا يجدون له، هم ايضا، حلولا، وحين تتحدث معهم حول كل ذلك، ستستمع إلى الإجابات نفسها التي لا توصلك إلى شيء!
الحكومة المركزية العراقية لا تجد في معركة الموصل اختلافا عن المعارك التي سبقتها، وهي تعتمد الاستراتيجية القائمة على الاعتماد على القوات العسكرية والامنية ذات البنية الطائفية نفسها، مع الإصرار على مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي في المعركة، مع اعتماد بضعة مئات من المقاتلين المحليين تحت مسمى «الحشد العشائري» مع تسليحهم الخفيف والمتوسط، والذي لا يمكن مقارنته بأي حال من الاحوال مع تسليح المليشيات! هؤلاء يتم استخدامهم أيضا كبندقية للإيجار كغطاء للحديث عن مشاركة سنية في المعارك، من دون أي أفق سياسي يترتب على مشاركتهم في استعادة مناطقهم. والحكومة المركزية تعتمد أيضا على تحييد أي دور للحكومات المحلية المنتخبة في القرار السياسي أو العسكري المتعلق بمحافظاتهم، سواء المتعلق بحرب داعش، أو الخاص بترتيبات ما بعد داعش! والمثال الأهم كان في تجاهل قرار مجلس محافظة الانبار ونينوى المتعلق بمنع مشاركة الميليشيات، أي ان استراتيجية الامر الواقع المفروض بالقوة، والتي تمثل رؤية إحادية للشيعي المهيمن، هي الحاكمة في النهاية. وهو ما تؤكده مؤشرات عديدة لعل أحدثها قانون حظر البعث، وإفراغ قانون العفو العام من محتواه، ومحاولة فرض قانون مساءلة وعدالة جديد أكثر انتقامية من القانون القائم.
كرديا، نحن أمام حديث صريح عن إعادة رسم الحدود الإدارية بين الإقليم والمحافظات المتاخمة له بالدم، وأن المناطق المتنازع عليها التي تستعيدها البيشمركة لن يتم الانسحاب منها مطلقا، بل ستضم رسميا إلى إقليم كردستان. تحقق هذا الأمر عمليا في ديالى وصلاح الدين، ويتم تحقيقه تدريجيا في محافظة كركوك، وينتظر أن تستكمل الحلقات الناقصة في محافظة نينوى، بعد السيطرة على مناطق مخمور وزمار وربيعة وسنجار وبعض مناطق سهل نينوى. بل ان البعض بدأ يتحدث علنا عن تقسيم مدينة الموصل نفسها، بحيث يكون نهر دجلة المار بالمدينة الحدود الجديدة!
في ظل هذه التقاطعات، لن تكون معركة الموصل وما بعدها سوى حلقة أخرى من حلقات تدوير الأزمة المستمر في العراق منذ عام 2003. ولن تكون سوى مؤشر على غياب أي استراتيجية، دولية او محلية، لتصحيح الوضع القائم، تحديدا فيما يتعلق بعلاقات القوة المختلة التي أنتجت النظام السياسي القائم، والذي أنتج بدوره المشكلة السنية. وتكريس هذا الوضع بعد الموصل سينتج مرة اخرى جيلا ثالثا من القاعدة سيكون أكثر تطرفا وعنفا من داعش نفسها.

٭ كاتب عراقي

الموصل: المعركة وما بعدها

يحيى الكبيسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بعد أن فشل الحكم الشيعي للعراق تدخل الأمريكان لنجدتهم من خسارتهم المخزية أمام داعش
    والسؤال هو : من هو الحاكم الفعلي للعراق هل هم الأمريكان أم الإيرانيين أم الإثتان معاً ؟
    الشعب العراقي أصبح ينتخب الطائفية على الوطنية ولهذا فالعراق من خراب لخراب !!!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية