إن سياسة صياغة القوانين، ووضع ترسيماتها النظرية في كافة الحقول المعرفية، هي أرقى مرحلة يمكن أن يبلغها وعي تاريخي واجتماعي ما.
ذلك أن أهلية هذه السياسة تنزه هذا الوعي عن آفة التواجد القسري داخل الخانة نفسها التي يلتزم بها وعي معطوب بالامتثال إلى سلطها والعمل بها، باعتبار أن الوعي المعطوب يلجأ، وعلى امتداد محطات غير قليلة من تاريخه، إلى تبني قوانين مستعارة من مدونات الآخرين، من دون أن يكون بالضرورة طرفا مباشرا، أو غير مباشر في تقعيدها، ومن دون أن يمتلك الجرأة على المجاهرة بكسله المعرفي، الذي حال بينه وبين الاستنارة بضوء العقل، من أجل التعرف على القوانين المساعدة على قراءة التفاعلات والتعالقات القائمة بين مكونات نسيج يخص إيقاعا معينا من إيقاعاتها الاجتماعية، الثقافية، أو الحضارية.
إن منهجية وضع القوانين، وليس استنساخها من شاشة الآخر، تتحقق على ضوء توافر كفاية الارتقاء بحيثيات المعيش، إلى مستوى التمثل والتجريد، اللذين يسمحان باستخلاص الأسس الترميزية، المساهمة في تفعيل الحياة التواصلية لهذه المجتمعات، على أرضية ثقافية توافقية مشروطة بحدها العقلاني.
هنا تحديدا، يتحول الواقع المعيش/النص، إلى تجربة تتشكل من مادتين متباينتين ومتكاملتين في آن، تتمثل أولاهما في حركية الاستهلاك الجسدي، الثقافي والروحي لجماع العناصر الموضوعة رهن إشارتها، أو التي تكون مطالبة بتملكها، فيما تتمثل المادة الثانية في انتقال المادة الأولى، وعلى ضوء مسارات استهلاكها التفاعلية، من مستوى كونها موضوعا للاستهلاك، إلى مستوى تحولها إلى عتبة، تفضي إلى متسع إعادةِ تكوينِ ما سبق معايشته، عبر إعادة بنائه نظريا و مفهوميا، في صيغة ما يمكن تشبيهه بالقانون، الذي يمكن الاستئناس به في حالات أخرى قد تكون متشابهة، من دون أن تكون بالضرورة متطابقة، باعتبار أن التطابق، يندرج ضمن منهجية قطع الطرق على كل اختلاف محتمل.
وبقدر ما تتميز به هذه القوانين من أهمية، مستمدة من كونها الإطار المفاهيمي الذي تندرج فيه خصوصية لحظة تاريخية ما، موسومة بتألقها في القبض على المنطق الداخلي الذي تشتغل به أشياء الواقع، بقدر ما تتحول في أحايين كثيرة، إلى بؤرٍ لِتفريخ وتوليد سوء فهم منهاجي ومعياري، تنعكس سلبياته على الآلية التي تتفاعل بها الذات مع محيطها العام، أو الخاص، كما تنعكس سلبا على لحظة انتقالها، إلى زمن التمثل والتجريد، المولد للقوانين المستقبلية، حينما تتحول إلى سلطة اختزالية، ذات طبيعة بروكوستية، معتمَدَةٍ كأداة ثابتة ومطلقة، لتأطير كل ما يُعتقد أنه قريب الشبه بالسياق الذي انبثقت عنه هذه القوانين، من دون مراعاة الفوارق الدقيقة القائمة بين خصوصيتها الذاتية، وبين شَبهٍ مبطن بغير قليلٍ من الاختلاف والمغايرة. ذلك أن سلطة الكوني، تلقي بظلالها الثقيلة والداكنة، على كل لحظة إشكالية، يكون الكائن فيها معنيا بالبحث عن أجوبة مقْنِعة لما تطرحه الضرورة من أسئلة، قد تكون ذات طبيعة تقنية، علمية أو ثقافية. وهو الإسقاط المؤثر في إحداث شرخ مهول بين الشيء وبين ما يدل عليه، داخل المنظومة الشاملة، لمبدأ السبب والعلية، التي تحكم قبضتها على رغبة الكائن، في تمثله لمسارات التعرف وحدوده. ولعل الشرخ القائم في هذا المقام بين الشيء ودلالته، هو الشرخ ذاته القائم بين الشيء ككل، وبين إواليات التعرف عليه، بما هي إواليات فهم وتأويل، والمؤدي لا محالة في حالة تحققه، إلى تلك القطائع القاسية والفظة، التي تضاعف من عنف الإحساس والوعي، برهاب الاغتراب الفردي والجماعي، سواء كان منتميا إلى مادية المعيش، أو إلى معنوية المجرد، بفعل التقهقر التام للعلل الفعلية والقوانين الضمنية الثاوية في حركية الشيء وفي محيطه، على حساب هيمنة الجاهزية المركزية، التي تتحول بتأثير من قوتها التداولية، إلى مرجعية مستبدة ومدمرة، لا تسمح لفعالية الذاتي، بأي شكل من أشكال الحضور.
إن التداعيات المأساوية لهذا الاستبداد المفاهيمي، تدعونا للتأكيد على خطورة المزالق، التي يمكن أن تقع فيها مقاربات، تَعْمى عن رؤية ما يمكن أن يكون سببا أساسيا من أسباب بلورة حالة التماهي، أو التنافي. وبالتالي فإن المعايير المعتمدة في التملك المعرفي، ليس لها أن تكون متعالية ومنفصلة عن موضوعها، خاصة بالنسبة للمقاربات التي تستند في مقارناتها الثقافية والحضارية، إلى منطق المُفاضَلَةِ والتحيز الآلي لتبني الحلول المركزية. وهي رؤية تؤدي حتما إلى إقصاء شعوب وأمم عن دائرة الفعل الحضاري، وبدعم من الإسقاطات المسبقة للرؤية المركزية للعالم، علما بأن كل فضاء اجتماعي وحضاري، يمتلك رؤيته الخاصة به في اجتراح سبيل ما، من سُبل التفكير والتعبير. وهي رؤية لا تخلو من العدوانية ومن نزوعها المتعالي، لسحق طرف ما من أطراف المقارنة، الذي يكون محددا سلفا، بفعل انحياز ثقافي عقدي أو عرقي، تمليه ضراوة حرب حضارية أو جغرافية، قائمة بين سلطة مركز ما، وبين خطاب هامش مختلف. إن المقارنة تكون مقبولة وموضوعية إلى حد ما، حينما توظف في تقييم/مقاربة بنيتين تنتميان إلى الخصوصية نفسها، وإلى النسق نفسه، حيث تكون المقارنة جد مشروعة بفعل الحضور المشترك لحد موضوعي ومنطقي من حدود التشابه والتماثل والتطابق، حيث يتعلق الأمر بمحاولة التعرف على الفوارق الدلالية، خاصة في عمقها الزمني، الذي تتقاطع فيه أو تفترق، حدود هاتين البنيتين، من منطلق معرفة الشروط الموضوعية والذاتية، التي أدت إلى هذه الاختلافات والتباينات، في أفق تأويل دلالاتها، وبالتالي التعرف على القوانين المتحكمة فيها، التي يمكن أن تستنبط منها المقولات المتضمنة لهوية هاتين البنيتين أو غيرهما. لكن أن تنجز المقارنة بين بنيتين متضادتين، على مستوى الظاهر، كما على مستوى الباطن، فإن الأمر سيكون ساعتئذ، مدعاة للتساؤل، حيث نحن بصدد البحث عن أسرار عدوانيةٍ مبيتةٍ، أو الإشفاق على جهل معرفيّ مُطبقٍ، باعتبار أن حدود الاختلاف، حينما تسفر عن تباعدها، لن يكون ثمة أبدا، أيُّ مجال للمقارنة، لأن دور المقارنة هنا، يتمثل في الحسم باستحالتها، ولا جدواها. وهذا الحسم، يستند إلى تعذر العثور على شرعية العناصر، التي يمكن أن تكون موضوعا للمقارنة. إن اللون الأبيض لن يكون موضوع مقارنة باللون الأسود، كما أن الأحمر، لا يمكن أن يكون موضوع مقارنة باللون الرمادي، بسبب بداهة الفوارق الهائلة القائمة بين خيمياء اللونين، وبين جوهريهما. في حين، تتجسد جمالية المقارنة الموضوعية والعقلانية، لحظة فناء الحدود الفاصلة بين العناصر المقارنَة، وهو ما يلهب حماس المقاربة، وينشط ديناميتها، كما يضفي عليها الكثير من الجاذبية، بل يحولها إلى ضرورة معرفية وتقنية، باعتبارها المجال الذي سيمدنا بآليات البحث عن سبل خروجنا من جرف التطابق، ومن سجنه. إذ بقوة المقارنة العقلانية والموضوعية، والمتجردة من أي مركزية متعالية، نستطيع أن نهتدي إلى تلك الفوارق اللامرئية، التي قد تؤدي إلى الإلقاء بالكون في هوة زمن أحادي يفتقر إلى الحد الأدنى من حركيته، لأن العجز عن معرفة الفوارق الدقيقة، والعميقة الممتدة بين بنية حضارية وأخرى، يضع العالم في كفة تماهٍ مهيمن ومسيطر، لنموذج نهائي. هذا التطابق الإلزامي، يؤدي إلى ممارسة اقتطاعات قاسية، من رحابة الكون. وهو الاقتطاع الذي تندفن معه مساحات شاسعة من الأسئلة الشائكة والإشكاليات الفكرية والنظرية. إن أوهام التطابق، تلغي الحق في الإعلان عن خصوصية الذوات، وخصوصية الكينونة الواقعة تحت سلطة النموذج. وكما هو معلوم، فإن منطق المقارنات القائمة على أكذوبة هذا التطابق ذي المسحة الكونية، هي السلاح الذي يلجأ إليه ذوو العقول الصغيرة، في تأكيد تواضع كفاياتهم في الفهم والتفسير والتأويل، خاصة أن لعبة المقارنة في هذا السياق، تبدو غير مكلِّفة ثقافيا ومعرفيا، بدليل أن الأعمى الفعلي وليس الرمزي، سيكون هو أيضا، مؤهلا لإنجاز هذه المقارنة الآثمة، بين أقصى طرفي التناقض والتضاد، حيث لا حرج في مقارنة الجبل بالبحر، على غرار مقارنة الرؤية الشعرية في العصر الجاهلي، بالوعي الفلسفي لدى رواد الفلسفة اليونانية، وهو الوضع الذي يقتضي من الباحث امتلاك طاقة فكرية ونظرية جبارة ونزيهة، ومتخلصة من مركزية الرؤية، من أجل دراسة خصوصية كل طرف على حدة، بعيدا عن مكر، وبؤس المقارنة، التي أدت إلى تورط الكثير من الباحثين والمؤرخين والفلاسفة، في مقارنة مغلوطة، تمد مسافة شاسعة بين هوية مصابة بـ»لوثتها الحسية والانفعالية»، مقابل هوية تحظى بكرامات «العقل والفكر». في حين أن تأويل القليل مما سبق أن انْقالَ شعرا، يظل بحاجة إلى قوة تأويلية لأكثر من مدونة فلسفية، وأكثر من مرجعية فكرية، وتلك هي المشكلة.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني