هل يمكن أن تكون سعادتنا نحن العرب ضربا من الرفاه الفكري؟ حتى ونحن لا نطلبها، وإنّما نختبرها نظريّا لا غير؟ أيمكنُ ونحن نرى القضيّة الفلسطينيّة وقرينتها السوريّة ـ على عدالتهما ـ تتعقّدان يوما بعد يوم، ناهيك عن الشأن العراقي وقرينه اليمني، وقضايانا نحن عرب الشمال الأفريقي التي تراوح مكانها: ليبيا والبوليزاريو خاصّة.
ولكن ليس معنى ذلك أن نلوذ فلسفيّا بالنّظريّات والأطروحات التي ما انفكّت تؤصّل لخطاب في التّشاؤم تعتبره تمثّلا صائبا لقدر الإنسان المحتوم؛ على نحو ما نلفى لدى فيلسوف مثل شوبنهاورـ كما جاء في مقدّمة أستاذ الفلسفة التونسي المعز الوهيبي، لكتاب أندريه كونت سبونفيل «السعادة يأسا». وسبونفيل يشير في ثنايا كتابه، إلى أنّ انتسابه إلى حضارة الغرب ومجتمعاتها «المترفّهة» ممّا ييسّر عليه أن يعالج مسألة السّعادة.
أمّا نحن فقد لا نملك في زمننا هذا سوى النوستالجيا، هذا الحنين إلى ماض لم يكن في كلّ حقبه ذهبيّا، كما يقع في وهْم كثير منّا. صحيح أنّه كان لنا أسلاف كتبوا مغتبطين في مسألة السّعادة وفي سبل تحصيلها. ولقد طعّموا العربيّة بروح جديدة وأغنوها بمفاهيم كانت هي نفسها؛ قبل أن تكون محمولة على دلالات السّعادة والغبطة؛ مفاهيمَ مغتبطة، فيها ما فيها من ماء اللغة وطيبِه، يَردُه وينهل منه، كلّ من عرف لطائف العربيّة، وما تجريه مجرى الاستعارة والمجاز؛ حتّى لكأنّ شيئا منها ومن طعمها، يعلق باللّسان بعد نطقها. واللغة تُتذوّق وتُشمّ وتُرى وتُحسّ مثلما هي تُسمع. ولعلّها لا تزال تتّسع لهذه الظّاهرة أو تلك، لكن شريطة أن نعرف منبتها الأصليّ في المدوّنة التي تمتُّ إليها بصلة من الصّلات، أو في النّصّ الذي تنتسب إليه؛ فليس تجنّيا أن نصلها وهي المفاهيم القديمة، بظاهرة مستحدثة كما أنّه لا ضير في أن نستدعي إلى مفهوم جديد ظاهرة قديمة؛ لنرى إليها من خلاله. نقول هذا ونحن نقرأ اليوم نصوصا أدبيّة نَحارُ في تصنيفها وتجنيسها، حتى إذا أعيانا أمرها، خلصنا إلى أنّها من أمر تهجين الأجناس الفنّيّة أو الأدبيّة.
ربّما لا ضير أيضا في تهجين المفاهيم، لكن شريطة مراعاة قواعد التّهجين حتّى لا يكون المنتَج مَسْخا. ولذلك نبّهنا إلى معرفة المنبت الأصليّ، أو المنابت بعبارة أدقّ. وهل مناهج التّفكير الفلسفيّ المعاصر ومقارباته من جينيالوجيا وفينومينولوجيا وأركيولوجيا وتفكيكيّة وغيرها.. إلاّ رحلة إلى المنابت الأولى التي درجت بها النصوص والمفاهيم ونشأت؟ نعم كان لنا أسلاف برعوا في التّهجين؛ فإذا به على أيديهم إدراك واستدراك، تأصيل وإعادة تأصيل.
وعلى ما في النوستالجيا وهي ضمادٌ (أو لَصقة بعبارتنا اليوم) لجروح الروح وندوبها، فإنّ ما ابتلي به عرب الرّاهن التّاريخيّ وما ساموا به أنفسهم بأنفسهم، قبل أعدائهم؛ ممّا يصرفنا عن طلب السعادة أو توجيه أقلامنا ناحيتها. للسعادة حدود، لعلّ أظهرها ضمان السّلم والأمن والطّمأنينة، وتدبّر شؤون الجماعة بقدر
معقول من الدّيمقراطيّة، ونحن لم نوفّر بعدُ الحدّ الأدنى من هذا الضّمان، على اختلاف مجتمعاتنا. فهل السعادة مطلب مشروع لبعض البشر دون الآخرين؟ أم هل هي تجري مجرى التملّك أم مجرى الوجود؟
لا نحبّ أن نقطع برأي في مسألة كهذه قد تكون أعلق بالفرد منها بالجماعة؛ وهناك أفراد كثيرون سعداء، أو يتهيّأ لهم ذلك. على أنّ هؤلاء مهما يكنْ نصيبهم من السعادة، ليسوا بمنجاة من التّحوّلات التي طرأت على مجمل القيم التي كان الفكر البشريّ ولا يزال يجريها مجرى الوجود، إمّا لرمزيّتها المجرّدة، أو لانتسابها إلى مجال الغائيّة. ونقدّر أنّها اليوم متعيّنة في ظلّ تنامي التّدبير الرّأسمالي للاقتصاد وللمجتمع؛ وهي تُرى وتُلمس، سواء في معيشنا أو ما يحفّنا من وسائل الاتّصال المسموعة والمرئيّة. ونحن نشاطر صاحب المقدّمة، مقدّمة كتاب سبونفيل، في أنّ ما نقوله؛ لا يعني الانتقال من سجّل مثاليّ إلى سجلّ مادّيّ؛ على نحو ما قد يتوهّم بعض بني قومنا من ذوي الإدراك الديني السّاذج، وهم يعيشون التحوّلات التّاريخيّة «العجيبة»، وإنّما نعني بالأساس التّحوّل من مستوى تنتسب إليه قيم هي ضروب وجود؛ قد تكون السّعادة من بينها، إلى مستوى تستحيل فيه هذه القيم أشياء عينيّة قابلة حتّى للتّعميم؛ وقد تكون السّعادة من بينها. ومع ذلك نتساءل ما إذا كان يجوز لنا ـ حتى لا نصادر حقّ هؤلاء من مثاليّين أو سلفيّين ـ أن نحصر مقاربة في السعادة؛ في الانتقال من سجلّ التّعالي؛ حيث السّعادة حبيسة ما يسمّيه زملاؤنا من أهل الفلسفة «الإرجاء الميتافيزيقيّ» أو اللاهوتيّ، إلى سجلّ المحايثة؛ حيث السّعادة حبيسة أنماط سلوك وضروب عيش يجري تسويقها بتسخير آليّات كثيرة من الدّعاية والإشهار في حضارة اليوم.
لعلّ المطلوب دائما ـ وهو ما ننساه ـ هو أن نفحص بنية ذواتنا؛ عسى أن نتبيّن ما إذا كان الأمر معقودا على ذاتيّة فرديّة أم على ذاتيّة جمعيّة. وهذا يعني أن نفتح الخطاب الفكري على أفضية علوم النّفس وعلوم الاجتماع، وبشكل أخصّ على الفضاء الأنثروبولوجيّ. وهذه ليست مهمّة منهجيّة فحسب، بل هي مهمّة قِيميّة كذلك. فهذه العلوم، خاصّة الأنثروبولوجيّ منها، تدفعنا إلى أن نقايس أنفسنا، نحن العرب، بغيرنا من الأمم التي تستأنف اليوم التّأسيس المعرفيّ للسّعادة أو تتولّى التّرويج لها اقتصاديّا. لِمَ نقصّر في حقّ أنفسنا؟ لِمَ لا نفتح هذا الخطاب من دون وجل أو خوف، على مصراعيه، إذا كان له مصراع. بل لعلّ المنشود أن يكون صورة من بيت أبي الشمقمق:
فأنتَ إذا أردتَ دخلتَ بيتي / عليّ مسلّما من دونِ بـــــابِ لأنّي لم أجدْ مصراعَ بابٍ/ يكونُ من السحابِ إلى الترابِ
وينبغي ألاّ ننسى هذه «النّحن» التي ما ننفك ّنطلقها هنا وهناك من دون أن نسائلها عن محتواها كما لو أنّها كلّ متجانس أو على الأقلّ وحدة لكثرة متآلفة! ونحن في البلاد العربيّة عرب وأمازيغ وأكراد وتركمان وآشوريّون… فإذا لم تكن كذلك فهل يمكن أن نقول عندئذ إنّ السّعادة يمكن أن تكون مطلبا ملحّا لبعضنا ومطلبا مرجأ لبعضنا الآخر؟ ومع ذلك فإنّ نشارك بعضنا بعضا في الانتساب إلى هذه «النّحن»؛ شريطة أن نتوافق ونتّفق على منظومة من القيم مثل العدالة والحريّة وحقّ الاختلاف، بصرف النظر عن العِرق والدين والطائفة. إنّنا نقول في الحالتين بعضـ(نا)، على درايتنا بهذه (نا) تجمعنا في كلّ متجانس، فيما نحن دول وأقطار، وجنسيّات تنتسب إليها، وهويّات وذوات تُحدّ من منظور تاريخي، أو قانوني، أو بسيكولوجي.
وبعضنا خليط من براغماتيّة متوحّشة وإحيائيّة دينيّة، وبعضنا مستنير يرشده العقل إلى ضرورة تنسيب الأحكام؛ حتى إن لم يهتد بعدُ إلى المعادلة الصّعبة بين النّقل والعق. وبعضنا عروبيّ أمّيّ تشطّ به أهواء الانتساب إلى «رسْم» من أمّته «دَرَسَ» وبعضنا عروبيّ يتأرجح بين لائيكيّة تغري بمكاسب الحداثة وبين شراكة دينيّة يراها موحّدة لصوت الأمّة.. وبعضنا عروبيّ يرى في التّكتّلات القوميّة مدخلا للتّكتّلات الاقتصاديّة القادرة على التّصدّي لخطر الاستقطاب العولميّ، قافزا على واقع اقتصاديّ يشتّت أقطار أمّته إربا إربا. وبعضنا ـ على قلّتهم فهم في طور الانقراض ـ ماركسيّ ساذج لم يدرك من الماركسيّة غير القدرة على سدّ الفراغ العَقدِي؛ بعد أن فقدت العقيدة السّماويّة تأثيرها فيه. ناهيك عن ماركسيّ يتخبّط بين أدبيّات العقيدة والانحياز للطّبقة الشّغيلة وبين الثّقافة التي يشيعها الخطاب الليبرالي المتغنّي بالدّيمقراطيّة؛ فيمدّ يده إلى أعداء الأمس البعيد (أتباع الدّين) إذا كان تقديره أنّ استهداف السّلطة في أسسها هو الأهمّ، وإلى أعداء الغد القريب (البورجوازيّة ) إذا كان تقديره أنّ الانخراط في لعبة الدّيمقراطيّة يغنيه عن كثير من المعارك.
ولْنكنْ ما نكون، فالسّعادة لم تكفّ قطّ، عن أن تكون الشّأن الانساني الأهمّ؛ وكلّ امرئ يسعى إلى أن يكون سعيدا؛ بحيث تلوح السّعادة المحفّز لكلّ أفعال البشر، ما جرى منها مجرى عمليّا وما جرى منها مجرى نظريّا، أو في المجرييْن معًا وإنْ بتفاوت، بل إنّ في الإقبال على الانتحار ـ على ما يقدّره باسكال ـ مَفعُولاً من مفاعيل السّعادة.. أي بالنسبة إلى المنتحِر، لكن أن نعيّن السّعادة من حيث هي الخير الأسمى، فأمر يستدعي التريّث؛ فهذا توجّه اسمانيّ لا نخاله يخفى، وليس حصرا لمفهوم السّعادة فعليّا. وتعريف السعادة بالسّلب كأنْ نقول هي ليست الألم وليست الشّقاء وليست التّعاسة وليست غير ذلك ممّا هي ليست إيّاه، إنّما هو إجراء أوّليّ، لا أكثر ولا أقلّ. هل علينا إذن أن نستنبت مفهوم السّعادة من عين ما ليست هي إيّاه؟ الحقّ لا أدري.. أو لنستفتي السعداء منّا.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي