التأريخ، بمعناه العلميّ الصارم- لا ذاك الأيديولوجي المعتمد على الأساطير والبروبوغاندا- إنما يقوم على أساس استنطاق الوثائق التاريخية من نصوص وآثار ومخلفات، من ثمّ محاولة تكوين تصوّر عن الأشخاص والأحداث من خلال تقاطع هذه المواد. لكن هذه القراءات- مهما كانت حياديتها المزعومة- فإنها تتلوّن فيما يبدو بثقافة الجيل الذي يقرأها على نحو مغاير دائماً لقراءة جيل آخر.
أي كليوبترا؟ ألف صورة وصورة
هذا على الأقل ما تطرحه المؤرخة البريطانيّة فينيسا كولنريدج في برنامجها الوثائقي الجديد على قناة بي بي سي الرابعة (عرض الشهر الحالي) الذي يستعرض في ستين دقيقة كيف أن رؤيتنا لكليوبترا- آخر سلالة الفراعنة حكام مصر القدماء، الشخصية المرأة الأشهر في التاريخ القديم- قد تغيرت وتحولت بتبدل الأزمان والمراحل التاريخية، من بروبوغاندا الأعداء الرّومان (حيث الصورة الشديدة السلبيّة)، مروراً بمسرحية شكسبير (حيث الصورة الشديدة الإنسانيّة) وإنتهاء بصورتها في أفلام هوليوود المعاصرة (الصورة الشديدة الجاذبيّة). كولنريدج من خلال استعراض وثائق ومقاطع من نصوص وأفلام درامية مختلفة عن كليوبترا، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن صورة شخصية عامة ما في مرحلة تاريخية وسرديّة معيّنة، تكاد تتناقض أحياناً مع صورة ذات الشخصية في مرحلة تاريخية مختلفة وإطار سردّية مختلفة، وذلك اعتماداً على الأساطير المتداولة والكليشهات السائدة والأجندات السياسية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا بشأن الصّورة؟ هل يمكن أن تغّير الأفلام الوثائقية أو حتى التسجيليّة المحضة طريقة كتابتنا للتاريخ؟ هل لو توفرت لدينا مادة فيلمية مباشرة من أيام كليوبترا، هل كانت ستضمن لنا سرديّة عابرة للبروبوغاندا والكليشهات فتتحول الصورة عندها إلى سيدة الوثائق التاريخية؟
استعادة بن غوريون من مقبرة الأرشيفات
لفت انتباهي الإعلان مؤخراً عن اكتشاف فيلم تسجيلي لمقابلة نادرة مطولة مع أول رئيس وزراء لدولة الكيان الإسرائيلي، ديڤيد بنغوريون. المقابلة الوثائقية الشخصية والمطولة (ست ساعات) كانت قد صّورت قبل خمسين عاماً تقريباً، ولم تُذع مطلقاً من قبل.
كان بن غوريون عند تسجيل المقابلة في الثانية والثمانين من العمر، بعد تقاعده وتركه العمل السياسي منذ خمس سنوات منتقلا للعيش في جنوب فلسطين المحتلة في كيبوتس اشتراكي. تحدث بن غوريون في المقابلة مع صحافي من اختياره عن ذكرياته حول مرحلة قيام الدولة العبريّة، التحديات الأمنية الوجودية التي تواجهها تلك الدولة، والمثال الأعلى (الأسطوري) الذي كان يأمل الجيل العبراني المؤسس تحقيقه من خلال هذه الدّولة، بالإضافة، بالطبع، إلى أمور شخصية واهتمامات خاصة به.
الأشرطة التي سجّلت عليها المقابلة حُفظت دون كبير اهتمام في ارشيف ستيڤين سبيلبيرغ للأفلام اليهودية في القدس المحتلة وبدون سجل صوتي، غير أن شريط السجل الصوتي للمقابلة كان مفقوداً. وهكذا لمّا اكتشف العمل- بالصدفة تقريباً- من قبل العاملين على إنتاج عمل وثائقي عن بن غوريون، تعيّن البحث عن السجل الصوتي للمقابلة لستة أشهر، قبل العثور عليه في الارشيف الخاص ببن غوريون في النقب المحتل.
أهمية هذا الشريط – من الناحية التأريخيّة المحضة – أنه يضع الجمهور في مواجهة مباشرة وجهاً لوجه مع الرجل الذي قاد حرب ١٩٤٨ وكان زعيم الكيان الجديد لفترة طويلة في مرحلة التأسيس. ولابدّ أن استدعاء بن غوريون من قبره، والاستماع إليه في مقابلة وثائقية مطولة مثل هذه ستساعد في فهم أفضل للرجل كشخص، ولأفكاره وللمرحلة التي يمثّل. سَيُضم هذا الفيلم الوثائقي- المقابلة إلى مادة العمل الأساسية لأي مؤرخ يحاول كتابة تاريخ المنطقة بغض النظر عن مرجعياته النظريّة واستنتاجاته.
إذن هل يمكن القول ان الصورة – إن توفرت – قد تتأهل لتصبح المرجعية الأعلى في أدوات التأريخ، وأننا سنكون محظوظين في العصر الحديث بامتلاكنا الصورة بوصفها فوق البروبوغاندا وعابرة للسرديات المتناقضة؟
عُمران الحلبي يقول لنا إن الصورة تقول الشيء وعكسه معاً…
جميعنا فجع بصورة عمران- إبن مدينة حلب الحزينة. هذا الطفل البريء الذي جلس على مقعد برتقالي في سيارة إسعاف، وعليه آثار غبار كثيف وجروح.
في فيلم الفجيعة القصير، جلس الصبي صامتاً في حالة صدمة تامة، يتأملنا أكثر مما نتأمله، فأبكى العشرات، وعلى رأسهم مذيعة الـ سي إن إن، التي انهمرت دموعها على الهواء مباشرة وهي تقدّم عمران للعالم.
عمران صار رمزاً لحرب قاسية، ومدينة تعيسة، يدفع سكانها ثمن صراع دولي تشارك فيه أحلاف وطائرات متطورة وتكنولوجيات حديثة.
انتشرت صورة عمران بسرعة البرق عبر وسائل الإعلام العالمية – جميعها تقريباً- إذ قلما تجد صحيفة أو مجلة صدرت خلال الأيام الماضية إلا وعمران على صفحاتها صامتاً يتحدث إلى العالم بصمته ذاك.
لكن أطرافاً أخرى، ومنها التلفزيون الصيني، تقول إن مشهد جلوس عمران في سيارة الإسعاف عمل مفتعل، ونوع من أنواع البروبوغاندا الإعلامية التي يحسن الغرب استعمالها دائماً لتحقيق أهدافه السياسية.
وهكذا فإن طرفاً يرى عمران بوصفه صورة الضحيّة – الرمز، بينما يراه الطرف الثاني سلاحاً موظفاً للقتل وأداة نزاع.
عندي فإن صورة عمران- بكل تأويلاتها – تذكير لكل واحد منا بالموت الصاخب العبثي الذي تعيشه سوريا كل يوم، والذي لا شك يسقط فيه أطفال مثل عمران في كل لحظة وكأنهم ياسمين دمشقي يذبح على جدار الفزع،عمران ياسمينة أخرى وليست أخيرة تزهق ثمنا لصراع لا أفق له.
لكن، ومن دون أدنى شك، فالصورة في إطار العمل التأريخي خسرت قيمتها بالنتيجة، وفشلت بأن تتبوأ مكانة الوثيقة التاريخية الأهم كأداة للتأريخ العلمي الموثوق، إذ من الواضح أن الصورة يمكن أن تقول الشيء ونقيضه في الوقت ذاته بالنسبة للمؤرخ الذي سيقرأها بعد فترة من الحدث.
أقول لنفسي كم كان التأريخ سيصبح أثرى وأصدق لو لم يسرق تجار الأيديولوجيات أعمق منتجات البشر في العصر الحديث: الصورة.
الحقيقة هي الخاسرة دائما.
ااحترامي وتقديري لكل ما جاء في مقالك اليوم
ولكن الصورة تشدني وتشتت ذهني اثناء القرأءة
**
بالرغم من قساوة المشهد والألم البالغ
الذي اصابني بالحزن وكذلك العالم بشكل عام
الا انني اراه الرصاصة الاخيرة
التي كانت موجهة لسماسرة الحرب السورية
لعلهم يستوعبون درس عمران لهم
لتتوقف الحرب حتى يعيش عمران وأمثاله بسلام .
ومع ذلك أختى ندى يقال أن الحقيقة تظهر أولا وأخير أي مهما طال الزمن وهي لا تموت أبدا وطبعا عامل الزمن هنا يكون طويلا وعندها يكون من الصعوبة أن نفهم الحقيقة نفسها لأن مرور الزمن قد يجعلنا نعيش في عصر أخر يختلف تماما عن العصر الذي حدثت فيه الأمور. وأخيرا حبذا إذا استطعت الحصول على مقابلة بن غوريون هذه أن تحديثنا عنها في مقالات قادمة
* للاسف نعيش في عالم منافق ومخادع
ويكيل بمكيالين ..؟؟؟
*كان الله في عون الشعب السوري
وكل المظلومين .
سلام