تقوم إسرائيل بالتدخل في المشهد الفلسطيني لدرجة تصل إلى إعادة تشكيل القوى السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية، وتستخدم في ذلك جملة من الأدوات المهمة أبرزها وأكثرها فعالية: الاعتقال والاغتيال والأموال، وهذا ما يمكن أن يتيح لنا فهم لماذا اغتال الإسرائيليون الشهيد ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، ولماذا يتشبثون بإبقاء الأسير مروان البرغوثي معتقلاً، وكيف ولماذا يحجبون أموال الجمارك والضرائب عن السلطة الفلسطينية بين الحين والآخر.
لا تستخدم إسرائيل هذه الأدوات للانتقام من الفلسطينيين فحسب، فمسألة الانتقام هدف سطحي وآني وليس بالغ الأهمية، وإنما يتعلق الأمر في أن إسرائيل تريد تغييب قادة وإبراز آخرين، وتريد أن تتدخل في شكل الحياة السياسية والنضالية الفلسطينية، فعندما قامت باغتيال كل من عرفات وياسين كانت تمهد للانقسام الفلسطيني، من خلال تغييب شخصيات «الإجماع الوطني»، وعندما ترفض إطلاق سراح البرغوثي وجملة من مناضلي حركة فتح فإنها تريد إبعاد تيار معين عن قيادة الحركة التي تقود السلطة الفلسطينية، أو على الأقل تحييد تأثير هذا التيار على قرار الحركة، وهكذا تفعل إسرائيل دوماً، وهكذا يمكن أن نفهم ـ ولو جزئياً- أبعاد ومضامين السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني.
إذن لا يغيب عن ذهن أحد أنَّ إسرائيل تتدخل في الحياة السياسية الفلسطينية، وتعيد تشكيلها عبر أدوات عدة، وهي متورطة بصورة مباشرة في العديد من الأزمات التي يعيشها الفلسطينيون، سواء أزمة الانقسام التي مر عليها عشر سنوات، أو تعطيل الانتخابات أو عرقلة عمل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية أو غير ذلك من أزمات أوصلت الفلسطينيين إلى الحالة التي يعيشونها اليوم، وهي حالة من الجمود على كل المستويات لم يسبق أن مر بها الشعبُ الفلسطيني في تاريخه.. عشرُ سنوات عجاف لم نحقق خلالها شيئاً.
وفي إطار التدخل الإسرائيلي بالحياة السياسية الفلسطينية، فإن ثمة مشروعا اسرائيليا استراتيجيا تنشغل به تل أبيب ودوائرها الأمنية يقوم على تحويل حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية إلى أحزاب سياسية.. أحزاب تتنافس على السلطة وتعمل في إطارها، وبالتالي لا تعود تُفكر أو تخطط أو تعمل من أجل هدف تحرير الأرض والإنسان الفلسطيني، بقدر ما أنها تريد أن تتداول «السلطة» داخل «السلطة الفلسطينية» وتقبل تبعاً لذلك بالأمر الواقع، أي الاحتلال الاسرائيلي، ومن ثم التعايش معه والقبول به كآخر موجود على الأرض ولا يعطل الحياة عليها.
المشروع الاستراتيجي الاسرائيلي لتدجين قوى المقاومة وتحويلها إلى أحزاب سياسية ليس جديداً، فقد بدأ عام 1994 عندما قررت إسرائيل أن تقدم «السلطة الفلسطينية» كعكة تغري بها منظمة التحرير وفصائلها، ثم تدريجياً بدأت فصائل المقاومة تتحول إلى العمل السياسي لتسيير شؤون السلطة وتسيير حياة الناس، وفرض النظام العام وحكم القانون الجديد على المناطق (أ) التي كانت مساحات مجهرية لا يمكن مشاهدتها على الخريطة.
في الانتخابات المتكررة التي شارك فيها كلُ الفلسطينيين طوال العشرين عاماً الماضية وعبر العديد من الأدوات التي استخدمتها اسرائيل، كان يتم جر الفصائل من مربع المقاومة إلى مربع السياسة، وتدريجياً تحولت حركة فتح إلى «حزب حاكم» في فلسطين بعد أن ظلت طوال عقود حركة النضال الوطني الأولى التي تؤرق الإسرائيليين، وبعدها بنحو 12 عاماً تورطت حركة حماس هي الأخرى بالانتخابات والمشاركة في العملية السياسية، فتحركت من مربع المقاومة إلى مربع السياسة، خاصة مع غياب قادتها التاريخيين بفعل سياسات الاعتقال والاغتيال، وخشية الحركة من أن تصل إلى مرحلة الـ«لا مقاومة ولا سياسة».
خلاصة القول؛ فإن أخطر ما يواجه فصائل المقاومة الفلسطينية هو أن تتحول إلى أحزاب سياسية تتنافس على الحكم في إطار السلطة الفلسطينية، وتنسى –أو تتناسى- مشروعها الوطني القائم على ضرورة تحرير الأراضي الفلسطينية وإقامة دولة مدنية حديثة قابلة للحياة والاستمرار وتستطيع تقديم الحماية والرعاية لمواطنيها الفلسطينيين، وهو مشروع لا يمكن تحقيقه إلا إذا تم التعامل مع «السلطة الفلسطينية» على أنها مجرد مرحلة، وأن التنافس على هذه السلطة ليس أولوية، فضلاً عن ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني فوراً لأن وحدة الشعب هي أحد أشكال المقاومة السلمية للاحتلال، وهي أهم وصفة لإفشال المشروع الإسرائيلي.
وبينما يتأهب الفلسطينيون لانتخابات محلية (بلدية) في أكتوبر المقبل، فإن الواجب دوماً على الفصائل الفلسطينية أن تتذكر بأنها ليست أحزاب سياسية تريد المشاركة في السلطة التي هي أصلاً مجرد مرحلة، وإنما واجبات هذه الفصائل أكبر من ذلك بكثير.
٭ كاتب فلسطيني
محمد عايش