عن التطويع السلطوي للقانون: تجريم التظاهر السلمي في مصر

بين صيف 2013 واليوم، تمكنت السلطوية الجديدة في مصر من تكبيل الفضاء العام ومحاصرته بالقيود وفرض الخوف مجددا حقيقة كبرى لبلد مأزوم.
يحكم جنرالات السلطوية الجديدة بعد فترة اتسمت بالحرية النسبية أعقبت ثورة 2011، وشجعت المواطن على الانخراط بفاعلية في إدارة شؤون البلاد عبر وسائل الحراك السلمي وصناديق الانتخابات، واستفادت منها منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التي اكتسبت شيئا من الحيوية. يحكمون في ظروف أزمة معيشية مستحكمة تسببوا في حدوثها، ولا يملكون لها حلولا تتجاوز الترويج لمقولات «إنجازاتنا تفوق الخيال» التي لم تعد تطمئن الكثير من المصريات والمصريين، ولا يكفون هم عن الاعتياش عليها باستحواذهم على مصادر الثروة وباستثماراتهم الواسعة ونشاطهم الاقتصادي غير المراقب.
لذلك، لا يتوقف الجنرالات عن توظيف أدوات القمع المباشر المصممة لإخافة المواطن من مغبة التعبير الحر عن الرأي والعمل المعارض السلمي وتهجيره بعيدا عن الفضاء العام، وللقضاء على استقلالية منظمات المجتمع المدني وتهميش الأحزاب السياسية غير المسيطر عليها أمنيا واستخباراتيا. كما أنهم يواصلون تطويع الأدوات القانونية والقضائية لتعقب وتصفية المعارضين الفعليين أو المحتملين.
وواقع الأمر أن السجل القمعي لجنرالات السلطوية الجديدة بجرائمه المريعة من القتل الجماعي في رابعة والقتل المتكرر خارج القانون إلى التعذيب والاختفاء القسري توثقه بموضوعية تقارير عديدة لمنظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية. أما تفاصيل تطويع الأدوات القانونية والقضائية وتداعياته الكارثية لجهة إفقاد الناس القليل المتبقي من ثقتهم في مفهوم العدل حيادية المؤسسات العامة، فلم تحصل على قدر معقول من الشرح والتحليل لا محليا ولا عالميا. قد يتعلق هذا الأمر بالطبيعة الفنية للأدوات القانونية والقضائية، وقد يرتبط بالتعاقب السريع لجرائم الجنرالات الذين لا يمر يوم في حكمهم دون مظالم أو انتهاكات للحقوق والحريات. إلا أن الإحاطة الواعية بأدوات السلطوية الجديدة تظل مرهونة بشرح وتحليل النصوص القانونية التي أدخلها أو عدلها الجنرالات منذ صيف 2013 وبفهم خلفيات وأهداف تطويعهم للمحاكم، تماما كما يستحيل البحث عن سبل لاستعادة مسار تحول ديمقراطي دون تفكير منظم في كيفية تفكيك البنية القانونية والقضائية للسلطوية.
في هذا السياق، يستحق قانون «تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية» الذي أصدره في 24 تشرين الثاني / نوفمبر 2013 الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور (قانون رقم 107 لسنة 2013) والمعروف محليا تحت مسمى «قانون التظاهر» اهتماما جادا. ليس فقط لأن هذا القانون اللعين يقدم المسوغات الأساسية لسلب حرية عدد كبير من المصريات والمصريين من الشباب والطلاب والعمال ومن المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين ومن غيرهم، بل لأنه منذ تمريره يصنع وضعية «المواطن المهجر والمجتمع المطارد والدولة المجرمة» التي يطبقها الجنرالات ويحافظون على وجودها دون كلل.
على الرغم من أن «قانون التظاهر» يقر في مادته الثامنة حق المواطن في «تنظيم الاجتماعات وتسيير المواكب والتظاهرات بالإخطار» الكتابي المسبق ـ ينبغي أن يسبق الإخطار الكتابي حدوث الاجتماع أو الموكب أو التظاهرة بثلاثة أيام كحد أدنى وخمسة عشر يوما كحد أقصى، وأن يوجه الإخطار إلى قسم أو مركز الشرطة الذي يقع بدائرته النشاط المعني، إلا أنه يعود في مادته العاشرة ليلغي عملا حق المواطن في التجمع والتظاهر السلميين ويفرغ من المضمون الحق في التعبير الحر والعلني عن الرأي دون تهديد أو خوف من تعقب. تمنح المادة العاشرة الأجهزة الأمنية سلطة مطلقة لإلغاء وتأجيل وتغيير مكان وتعديل مسار النشاط (الاجتماع أو الموكب أو التظاهرة) استنادا إلى حصولها هي (أي ذات الأجهزة الأمنية) على «معلومات جدية أو دلائل» عن وجود ما يهدد الأمن والسلم. وتلك صياغة خطيرة تجعل من الأجهزة الأمنية الخصم والحكم في الوقت نفسه، وتطلق يدها في التعسف دون رقيب أو حسيب أو إطار موضوعي للتقييم. كما أن سلطة الأمنيين هنا لا يرد عليها سوى القيد الشكلي محدود الجدوى المرتبط بما تنص عليه المادة العاشرة أيضا من جواز «تظلم مقدمي الإخطار» من قرارات المنع أو الإرجاء «أمام قاضي الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية» المختصة، وهو ما يفرض على المواطن صاحب الحق الاكتفاء بخانات رد الفعل.
كذلك يطلق القانون في مادته الرابعة عشرة سلطة الأجهزة الأمنية، ممثلة في وزير الداخلية ومديري الأمن الذين يلزمون بشيء من التنسيق مع المحافظين «كالوكلاء المحليين» لرأس السلطة التنفيذية، في سياق آخر بالغ الخطورة. للأمنيين تحديد «حرم آمن» أمام المرافق العامة بكافة أنواعها (العسكرية والمدنية والإدارية والخدمية) يحظر اقتراب الناس منه.
وكنتيجة متوقعة لنص كهذا في بلد يديره الجنرالات، توسعت الأجهزة الأمنية في توظيف «الحرم الآمن» للمنع العملي للمسيرات والتظاهرات السلمية التي يريد منظموها والمشاركون بها التوجه إما إلى مقار المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية المسؤولة عن صناعة القرار العام الذي أبدا لا يعدم جماعات المعارضين ومجموعات المتضررين أو إلى مقار المؤسسات الرسمية كأقسام الشرطة ودواوين المحافظات والمجالس المحلية التي يحتك بها الناس يوميا في شؤونهم الحياتية وتلحق بضعافهم ومهمشيهم المعاملة الأشد سوءا، ثم ينص القانون على إنزال طيف من العقوبات المالية والعقوبات سالبة للحرية بالمخالفين لأحكامه.
وأخطر ما في تلك العقوبات يتمثل في حظر فضفاض تحمله المادة السابعة ويجمع بين المنع المقبول لتورط منظمي الاجتماعات والمسيرات والتظاهرات والمشاركين فيها في الإخلال بالأمن العام والنظام العام أو في قطع الطرق والمواصلات أو في الاعتداء على الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، وبين المنع المفرغ لحق المواطن في التجمع والتظاهر السلميين من المضمون بالنص على تجريم تورط المنظمين والمشاركين في الدعوة إلى تعطيل الإنتاج أو تعطيله أو تعطيل مصالح المواطنين أو الحيلولة دون ممارستهم لحقوقهم وأعمالهم. فإذا كانت محظورات الفئة الأولى تقع في حدود ما يتوقع من قانون للتظاهر النص على تجريمه، فإن محظورات الفئة الثانية تلغي عملا الحق المستقر في المواثيق الدولية والمنصوص عليه في الدستور المصري (دستور 2014) في الإضراب الشرعي عن العمل وفي الاعتصام في مواقع العمل العامة والخاصة وفي التظاهر السلمي في الميادين الرئيسية والتي انطلق من إحداها قطار ثورة 2011 (ميدان التحرير).
وينهي «قانون التظاهر» نصوص الخوف والتعسف وإلغاء حقوق المواطن التي يقرها بمواده من الحادية عشرة إلى الثالثة عشرة التي تعطي للأجهزة الأمنية صلاحية استخدام الهروات وطلقات الخرطوش المطاطي وطلقات الخرطوش غير المطاطي لفض الاجتماعات والمسيرات والتظاهرات التي ترى هي بها (مجددا الأجهزة الأمنية كخصم وحكم) خروجا على الطابع السلمي. من جهة لا يتضمن القانون تعريفا دقيقا لمفهوم «الخروج على الطابع السلمي»، أو تعيينا قاطعا لمظاهر ذلك الخروج. من جهة أخرى، ليس لتقنين «الفض بالقوة» غير أن يرتب توسع الأجهزة الأمنية في بلد يحكمه الجنرالات ويقمع به المعارضون ويتعقب به المواطن الحر في توظيف أدوات العنف الرسمي وفي تجاهل وسائل الفض الأخرى (المنصوص عليها في ذات المواد في سياق تدرجية الفض السلمي إلى الفض بالقوة). وفي قتل المواطنة شيماء الصباغ في 25 كانون الثاني / يناير 2014 (ذكرى الثورة التي انقلب الجنرالات على مطلبها الديمقراطي) أثناء مسيرة سلمية صامتة (بالشموع) دليلا بينا على التداعيات الدموية لتقنين فض الاجتماعات والمسيرات والتظاهرات السلمية بالقوة.

٭ كاتب وأكاديمي مصري

عن التطويع السلطوي للقانون: تجريم التظاهر السلمي في مصر

عمرو حمزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بالله عليك يا أستاذ عمرو لا تحرق قلوبنا على ما جرى فالذي إنكسر يصعب إصلاحه
    أتمنى عليك كرماً وفضلاً منك أن تخرج علينا بآراء جديدة تعيد وحدة المصريين من جديد وخاصة بين الإخوان والآخرين
    الإخوان مصريون وطنيون ولا يمكن أن يكونوا غير ذلك ولهذا يجب عدم التشكيك بوطنيتهم وحبهم لوطنهم مصر التي ضحوا من أجلها بالكثير
    لقد إنكشف زيف كل ما كان يقال عن الإخوان وها هم أشرف الناس والدليل أنه لا توجد قضية فساد واحدة بحقهم رغم فساد القضاء !
    لست من الإخوان لكني متأكد من أن قلوبهم ستكون متسامحة مع الجميع والأفضل منهم من بادئهم بالسلام والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول حسن:

    تلك تعتبر من الإجراء التي تؤكد هشاشة الإنقلاب وبذلك يتعاظم سقوطه كل يوم يمر على احتجاز مصر عند من ليست لهم الثقة في أن يستمر أو يسقط. بحيث كل ليلة كل واحد منهم على أتم استعداد للهرب دون رجعة لذلك تراهم يتحسسون أرجلهم بقوانين صارمة ويتجسسون على كل متحرك وثابت يحسبون كل حديث أو كلام لا يخص غيرهم. الإنقلابيون يعيشون الخوف بل هم في دوامة رعب تعصف بهم على مدار الساعة وفي غفلة منهم يأتيهم الخبر اليقين من حيث لم يقرؤوا له حساب وذلك لعمى بصيرتهم وعدم تقديرهم لمدى ظلمهم الذي يولد ما به ينتحرون ذاتيا فيقوم مكانهم الحق الذي يعتقد بعض ضعاف النفوس أنه قد ضاع أو قُضي عليه ولكنه، الحق، ينتصر في النهاية لم ظنوا أن أبواب العدل قد سُدت في وجوههم. ولا واعظ لمن لم يتعظ بما في ثنايا التاريخ.

  3. يقول حسن إسما عيل - ألمانيا - ميونيخ:

    أنا في تصورى، المشكلة في هذه المناخات والبيئات “الاستبدادية/ الدكتاتورية/ التسلطية” :غالباً ما تتميز (على مستوى التفكير والاستراتيجية والعقلية، وعلى مستوى النظرة إلى المجتمع) بـ:

    1- المنطق “الشمولي”؛ بمعنى “الهيمنة والسيطرة المطلقة” مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى خَنْق ووأد أية مساحات حركة حُرة (ومن ثم : إلى بذر بذرة العنف المسلح الشيطانية؛ لمضادة هذا الجو الشيطاني؛ جو الخنق والوأد والهيمنة المطلقة)، وإلى شيوع منطق السلبية، وإلى شيوع منطق الوصولية والتملق والنفاق .. إلخ

    2- ومنطق “الفرصة والغنيمة والانقضاض”؛ منطق “الآن والآن فقط” .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى شيوع منطق الميكافيللية الانتهازية، وإلى شيوع منطق الضربات القاضية .. إلخ.

    3- والعقلية الصِّفرية؛ عقلية “إما – أو”؛ عقلية الرابح أو الخاسر، المنتصر أو المهزوم، الحليف أو العدو؛ إذ “التسلطية” نمطُ قتلٍ (معنوي و/ أو مادي) لا غير .. مما يؤدي – ضمن ما يؤدي- إلى انعدام رؤية المساحات الطيفية والرمادية، وإلى شيوع منطق الصراع والصرع والإفناء، وإلى انسداد المخارج .. إلخ.

    4- وحَصْر القيم العليا (مثل : الكرامة، العدالة، الإيمان، العزة، الوطنية .. إلخ)، بلسان المقال و/ أو بلسان الحال، في كيانات محددة وأشخاص بأعينهم (هي الكيانات والشخصيات التي يقوم على أكتافها “الاستبداد/ الدكتاتورية/ التسلط”) ..مما يَنتُج عنه : النظرات “الاستعلائية” للذات، والنظرات “الاستحقارية” للآخَر ..

    5- (النظرة إلى المجتمع/ الأمة/ الشعب/ الجماهير) نظرةً قائمةً على “الحذر” و”التوجس” و”الريبة”، وبالتالي تصبح “ثقة” هذه “االتسلطات” في مجتمعاتها ضعيفةً للغاية (مما يُغَذِّي ويُزِيد الرغبة في “الهيمنة والسيطرة المطلقة”).

    6-التعامل مع المجتمع من أفق “الأبوية السلبية”؛ باعتبارها “الراعية والحامية” له؛ وذلك باعتباره “قاصراً” لم يَبلُغ بعدُ سنَّ الرشد.

    7-المُعارَضة – في ظل كل ما سبق بيانه- : مخالِفةٌ للأوامر، وكاسرةٌ لها .. وبالتالي : خائنةٌ وعميلةٌ .. وبالتالي : لا يوجد معارَضَة ولا يُسمَح بوجودها، وإن سُمح ففي إطار كونها مُكملات/ إكسسوار/ طيور زينة مُلائِمَة أو مُزَيِّنة للقفص الحديدي.

إشترك في قائمتنا البريدية