معركة الموصل: وإشكالية المناطق المتنازع عليها

أعاد الحديث حول معركة الموصل، مرة اخرى، إلى الواجهة، موضوع المناطق المتنازع عليها، مع سعي الأطراف المتصارعة جميعها، للإستفادة القصوى من لحظة تنظيم الدولة/ داعش، وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة على الأرض، ومحاولة فرض أمر واقع جديد، مع وجود تواطؤ أمريكي بيّن، وصمت دولي غريب!
بدأت مشكلة ما أطلق عليه «المناطق المتنازع عليها» رسميا مع قانون إدارة الدولة الصادر في حزيران/يونيو 2004. فقد تحدثت المادة 58/ أ عن تدابير محددة لمعالجة «تغيير الوضع السكاني لمناطق معينة من ضمنها كركوك»، الذي تسبب به نظام البعث، فيما تحدثت المادة 58/ ب عن التلاعب الذي قام به النظام نفسه «بالحدود الإدارية وغيرها بغية تحقيق أهداف سياسية»، وقررت المادة أيضا أنه في حال عدم التمكن من معالجة هذه التغييرات محليا؛ ضرورة تعيين «محكم محايد لغرض دراسة الموضوع وتقديم التوصيات»؛ وفي حال عدم الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن يمكن الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة «تعيين شخصية دولية مرموقة للقيام بالتحكيم المطلوب». أما المادة 58/ ب فقد نصت على تأجيل التسوية «للأراضي المتنازع عليها» إلى حين استكمال الإجراءات المتقدمة المتعلقة بتطبيع الأوضاع، واجراء «احصاء سكاني عادل وشفاف»، وأخيرا الأخذ بنظر الاعتبار إرادة سكان تلك الأراضي عبر الاستفتاء. وأكدت المادة على أن تتم هذه التسوية بشكل يتفق مع مبادئ العدالة.
وقد أعيد اعتماد هذه المادة في الدستور العراقي لعام 2005، من خلال المادة 140 التي أكدت على أن تتولى السلطات التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، بكل فقراتها في مدة أقصاها نهاية شهر كانون الأول 2007.
وكما هو واضح لم يكن ثمة تحديد للمناطق المتنازع عليها، بل إن تقرير المبعوث الخاص للأمم المتحدة في العراق حول «الحدود الداخلية المتنازع عليها» الصادر عام 2009، حدد المناطق المتنازع عليها حصرا بخمس عشرة منطقة في محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين، وأشار الى عدم توصيف الحدود الداخلية للمحافظات.
المشكلة الأساسية التي أنتجها قانون إدارة الدولة ثم بعد ذلك الدستور العراقي، والتي اعتمدتها الأمم المتحدة أيضا، هي محاولة لتسويق فكرة ان هذه التغييرات الإدارية قد تمت بناء على دوافع سياسية، ومن ثم لا بد من إعادة رسم هذه الحدود بطريقة مناسبة. ولو سلمنا جدلا بأن النظام العراقي السابق قد قام بهذه التغييرات لدوافع وأغراض سياسية، فكان من الأولى إصدار تشريع يقضي بالغاء جميع التغييرات في الحدود الإدارية للمحافظات بين 17 تموز/يوليو 1968 و9 نيسان/ابريل 2003. إذ لا يمكن قبول هذه الانتقائية في توصيف حدود معينة بأنها حدود رسمت لدوافع وأغراض سياسية، وتوصيف حدود أخرى بانها إدارية بحتة. وهو ما حدث فعلا. أما التعامل مع مسألة المناطق المتنازع عليها بوصفها دعوات تاريخية أو جغرافية، فهو يبقيها في إطار الدعوات الانتقائية ذات الدوافع السياسية.
لقد خضع تأويل المادة الدستورية عمليا لعلاقات القوة، وإرادة الفاعلين السياسيين، ولم يكن مجرد محاولة لإنفاذها بشكل يتفق مع مبادئ العدالة كما نصت على ذلك المادة الدستورية نفسها! ولعل التأويل المفرط كان في تأويل المادة الدستورية الذي يتنافى مع التحديد الزمني الصريح الوارد فيها، فالمادة استندت إلى أن ثمة عمليات تغيير للحدود الإدارية، قام بها النظام السابق لأهداف وغايات سياسية، وهذا يعني أن المناطق المشمولة بتعبير «المناطق المتنازع عليها» هي حصرا المناطق التي حصل فيها مثل هذا التغيير بداية من 17 تموز/ يوليو 1968، ومن ثم لا يمكن أن تشمل مناطق أخرى لم يجر فيها مثل هذا التغيير الاداري. ولكننا وجدنا ان هذا التأويل يصبح أمرا واقعا، تعاملت معه الأمم المتحدة نفسها، عندما تضمن تقريرها مناطق جغرافية لم يحدث فيها أي تغيير في عهد «النظام السابق»!
المثال الصارخ على هذا التأويل المفرط لعبارة «المناطق المتنازع عليها» والمرتبط اساسا بعلاقات القوة، وقدرة الفاعل السياسي على فرض تأويله، حتى وإن كان مخالفا بشكل صريح للنص الدستوري! هو ذلك المتعلق بمنطقة «النخيب» في محافظة الأنبار. فمن الناحية الإدارية كانت النخيب قرية، ثم اصبحت ناحية تتبع محافظة الانبار منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921. ولم يتغير هذا الوضع إلا في العام 1975 عندما صدر قرار بضم ناحية النخيب إلى محافظة كربلاء، ثم صدور قرار لاحق في العام 1979، يعيد الحاق النخيب بمحافظة الانبار. ومن ثم لا يمكن افتراض ان ثمة «غايات سياسية» في القرارين! لكن تأويل الفاعل السياسي ذهب إلى أن النخيب منطقة متنازع عليها، وأنها يجب ان تعود لمحافظة كربلاء، لأن القرار الأول قرار إداري بحت، بينما القرار الثاني له «غايات سياسية»! ومن يعود إلى موقع لجنة تنفيذ المادة 140 التابعة لرئاسة الوزراء، سيجد ان النخيب تأتي على رأس قائمة المناطق المتنازع عليها!
في الموصل التأويل الكردي لعبارة المناطق المتنازع عليها يشمل أقضية مخمور والشيخان وسنجار وتلعفر وتلكيف، ويشمل نواحي بعشيقة وقرقوش وأسكي كلك التابعة لقضاء الحمدانية. أي ما مجموعه خمسة أقضية من مجموع تسعة أقضية تتشكل منها محافظة نينوى، فضلا عن ثلاث نواحي من قضاء سادس هو قضاء الحمدانية، أي ما يزيد عن نصف مساحة المحافظة. وهذه المناطق جميعا كانت جزءا من محافظة الموصل/ نينوى منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، ولم تكن يوما جزءا من أية محافظة في إقليم كردستان، وبالتالي فالتأويل المفرط الناتج عن علاقات القوة وحده هو من جعلها مناطق متنازع عليها، وليس المادة الدستورية! هذه المناطق تخضع عمليا لسيطرة قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان، على الرغم من أنها ما زالت من الناحية الدستورية والقانونية والإدارية تابعة لمحافظة نينوى. و ثمة محاولة معلنة للإفادة من ظروف المواجهة العسكرية مع تنظيم الدولة لتكريس الوضع القائم من جهة، ومحاولة فرض صيغة اتفاق يتجاوز حتى التأويلات الخاصة بالمادة الدستورية المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، خاصة وان هذه المناطق غنية بالموارد الطبيعية، وعلى رأسها النفط!
لازلنا نُصر بأنه لا يمكن مطلقا الفصل بين آليات مواجهة داعش، وبين ترتيبات ما بعد داعش، وأنه لا بد من اتفاق الحد الأدنى بين الفرقاء جميعا على أليات مواجهة داعش، وإشراك الجميع، تحديدا المجتمعات المحلية في هذه المواجهة، لأنها الأستراتيجية الوحيدة القادرة على هزيمة داعش من جهة، وعلى تجنب إعادة انتاج المقدمات نفسها التي صنعت ظاهرة داعش. ولكن من الواضح أن السياسات القائمة، بما فيها محاولات فرض أمر واقع في المناطق المتنازع عليها، تؤكد أن الجميع لم يع درس داعش بعد!

٭ كاتب عراقي

معركة الموصل: وإشكالية المناطق المتنازع عليها

يحيى الكبيسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بعد الخلاص من داعش عسكرياً سيتم الخلاص من المناطق المتنازع عليها أيضاً عسكرياً – الرابح ستكون إيران
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية