النماذج الأدبية وغياب الرؤية

حجم الخط
2

تتوفر النماذج المتعالية أو المتفوقة في كافة الآداب والثّقافات على الرغم من الاستحواذ الغربي القائم على مبدأ المركزية عبر حصر هذه النماذج في عدد من اللغات والثقافات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أعمال شكسبير وغوته وفولتير وتولستوي ودانتي وغيرهم، ولكن هذا لا يحجب حقيقة مفادها بأن معظم اللغات والثقافات في العالم، تنطوي على نماذجها الخاصة، والمتفوقة، بالتّجاور مع التّقدير الذاتي المبالغ فيه في بعض الأحيان، الذي يمكن أن يؤدي إلى مردود سلبي.
في الثقافة العربية ثمة نماذج متعالية يتقدمها الموروث الأدبي العربي الذي يبدو شديد التّقدير والتميز نظراً للذاكرة المسكونة بسّردية تاريخية متعالية، في حين أن الثّقافة العربية المعاصرة – في أفضل حالاتها- ربما تحتوي على بعض هذه النماذج التي تحتمل في بعض الأحيان رؤى أصيلة، في حين أنه ثمة الكثير من النماذج لا تنطوي إلا على قيم مجتلبة من فضاءات أخرى، فالثّقافة العربية تعاني في ظل عدم اتضاح الرؤية، واختلاط المرجعية الأخلاقية كما الأيديولوجية، علاوة على إشكالية تتصل بالجانب التّقني، ومع أن ثمة رفضاً صريحاً لهذا التّصنيف كونه شديد التّعلق بمنظور التّقليدية النقدية، غير أنه يبدو صادقاً، خاصة إذا ما مارسنا نوعاً من الموضوعية من ناحية التّقدير لذواتنا الثقافية التي ما زالت عالقة في تقاطعات الماضي والمستقبل.
إن الإشكاليتين اللتين تتصلان بالنّتاج الأدبي العربي، تتحددان بالقلق أو الخلل التقني، علاوة على افتقاد الرؤية، والأخيرة علامة على تميز أدب أمة أو الذّات الجمعية في ظل السّياقات كافة.
إن مناقشتي ربما تتسم بالغموض من حيث المسارعة في ربطها بثنائية الشّكل والمضمون، لكونها تتداخل بين القيم التي تنطوي عليها المضامين العميقة، والتشكيل الفني، ولكن المقاربة لا تتسم بهذا القدر من الاختزال القائم على النهج الثنائي، إنما هنالك اتصال بالتكوين العميق لفهم الذات في الصّوغ الأدبي، فمنذ قديم الزمان كان الباعث على التأمل في المستويات التقنية لحرفة الأدب نهجاً دشنه فلاسفة اليونان، وعلى رأسهم أرسطو وأفلاطون، ومن ثم اتّسعت الجوانب الباحثة في التقنين التقني للإنتاج الأدبي، في حين كان هنالك ثبات على الرؤية التي تستند إلى فهم الأدب، واتصاله مع الذّات الإنسانية وحيرتها، فضلاً عما يحيط بها من غموض بهدف تحديد التّفسيرات الغامضة لهذا العالم، في ظل شيوع تفسيراتٍ محددة من منظور أنثروبولوجي، أو نفسي واجتماعي وغير ذلك من التفسيرات التي اتصلت بالبيئة الحاضنة للأدب، وفعل تشكله، وهكذا تبدت عوالم معاصرة قادها نورثوب فراي، وشتراوس، وفرويد، وغولدمان، ولوكاتش، وتوردوف بالإشارة إلى اختلاف تكوينها المرجعي وآلياتها، التي تعدّ شديدة الحضور والتأثير، غير أن المعنى الأهم أن النص الأدبي – في لحظة تكونه ونشوئه- ينطوي على تفعيل، وبعبارة أخرى ينبغي أن يقترن العامل التقني بالرؤية التي تبدو حاضرة في التصنيف المرجعي القائم على الأفكار، أو الأيديولوجيا، كما الرسالة والمقصديات، وهنا تتبدى إشكالية الثقافة العربية أو النتاج الأدبي العربي المعاصر من حيث سعة الفراغات بين تشييد الرؤية، واختبار الآلية التي تصاغ فيها النصوص الأدبية، ومع أن ثمة تجاوزاً واضحاً للنسق المعياري الذي اتسمت به النظرة النقدية العربية قديماً، غير أن ثمة قلقاً في كيفية فهم التّعالق بين التقني والرؤيوي، وبوجه خاص في تشييد النص الأدبي أو القطعة الأدبية، وهذا أشدّ ما يتضح بالكتابات المعاصرة، وتحديداً من حيث تحوّلات الكتابة العربية التي تتصف بالغموض، أو القلق من ناحية توصيف الرؤية، والقدرة على اختبارها، كما التمكن من التقنية الكتابية، وآلية عملها، وهذا ينشأ من عدم القدرة على تبني توجه معين، أو واضح المعالم.
لا ريب في أن الآلية، وتوفر الملامح التقنية والمعرفية لن يكون كافياً لخلق عمل أدبي ناجح، أضف إلى ذلك التّشويش في إنتاج رؤية خاصة تختزل مستويات ثقافة تختص بأمة معينة، فهذا لن يكون أمراً سهل المنال، فالمتأمل في النتاج العربي المعاصر على اختلاف تنوع أجناسه، سيلحظ أن ثمة قلقاً في تكوين الرؤية التي يرتجيها المبدع في نصوصه، فالعالم على مستوى الأيديولوجيات مختلط، والقيم المنتشرة الشّائعة لا تشجع على الابتعاد في تكريس النمط الإنساني، أو إيجاد مساحة من التّأمل العميق في الإشكاليات الثقافية المعاصرة، فالوصاية على الفكر، وجهوزية الطرح باتا ملمحاً واضحاً في المشهد المجتمعي، فالتيارات الدّاعية إلى طرح الأسئلة الشائكة تبدو في حالة خوف وترقب، علاوة على نتاجات مشبوهة، ومُسيسة ضمن مفارقة واضحة للقيم الإنسانية الشّمولية العليا.
إن البحث عن نتاج أدبي بهدف رسم تحديد المقصد التاريخي لحقبة زمنية معينة ضمن مشاريع سردية كبرى كان مبرراً قديماً، غير أن الإيقاع المعاصر يتطلب مقاربة أخرى، ربما أكثر عصرية، وتقدماً، فالرؤية العميقة لقضايا إنسانية مستمرة الطرح، تبقى نتاجاً أشد حيوية واستمرارية، كما أنتج من قبل المتنبي، وشكسبير وغوته وديستوفسكي وغيرهم حيث كانوا ممثلين لثقافتهم، غير أن الرؤى التي انطلقوا منها كانت إنسانية، بل دائمة القبول والتحول، ومع ذلك فإنها لم تعدم أيضاً الاعتماد على جانب متطور من الإدراك التقني للعالم الأدبي، والصوغ الخاص للغة والعناصر الفنية، فقد كانت أبعد ما تكون عن الارتجال، والتلفيق الفني الذي أصبح سمة للنتاجات الأدبية العربية المعاصرة، بالتّضافر مع تراجع المعطي القيمي القائم على الرّؤية. ينبغي للأدب أن يكون مشغولاً بما هو حقيقي، أي ذلك الأفق الذي أحاله رولان بارت إلى اللغة التي تتعالى على تشكيلها التجريدي المحض، وأي محاولة لاستلاب اللغة، ودفعها إلى احتمال مقولات فارغة لن ينتج نصاً أدبياً خالداً. لقد وضع غير مُصنف يناقش الأدب بوصفه مفهوما معقداً، وشائك الدلالة، وهذا تجلى في أوضح صوره في الكتابات التي شاعت في العصر الحديث حيث تمكن الغرب من تكريس رؤيته الخاصة بالأدب، وما ينطوي عليه من تعدد مفاهيمي، وقيم إجرائية حيث انشغل تيري إيغلتون، وسارتر، وتودروف وغيرهم بهذا المسلك. إن البحث عن الخصائص التقنية والرؤيوية للأدب ينبغي أن يتموضع في سياق ثقافي متعدد، ومنفتح حيث يتحول الأدب إلى نسق جدلي متصاعد، وغير سكوني، في حين أن مفاهيم الأدب في الذّاكرة العربية المعاصرة تبدو أقرب إلى نتاج دعائي، ترويحي، أو موجهات أيديولوجية، بالتّجاور مع النزعات الذاتية ذات الدّاء الشوفيني لدى بعض منتجي الأدب، فالاعتقاد بأن بضعة كتب كفيلة بأن تكرس بعض الأدباء بوصفهم عرابي الثقافة ما هو إلا نتاج أو انعكاس لمنظومة العقدة العربية التي كرستها أنظمة الحكم، والسّلطات، فظهر الأدب الديكتاتوري الذي يعتقد بأنه الأحق بالوجود، فلا اعتراف بالقيم التّجاورية التي أشار لها كمال أبو ديب إلى بعض جمالياتها، والتي يمكن أن نعثر عليها في عالم قابل للاختلاف، والتنوع، فالأدب والثقافة أصبحا نتاجاً عصابياً لعالم مسكون بالتراتب الهرمي للذاوت الفردية أو الجمعية، كما أن معيارية أدب ما، وهيمنته تحولت إلى هاجس، بالإضافة إلى نزعات تدعو إلى تفوق الأقاليم والقطاعات في جنس أدبي ما، في حين أن الإنسان وحيرته، يتواريان خلف ركام اللغة الباردة التي لا تمثل إلا صوتاً يفتقد للرؤية العميقة.
لا شك في أن الثقافة العربية لم تتطور من الداخل، فالخضوع والاستلاب للآخر هو منطقها الوحيد، كما هي الموسيقى العربية على سبيل المثال التي كانت من حيث التطور نتاجاً تغريبيا خالصاً؛ ولهذا فقد باتت قيم التطور على المستوى التقني رهينة تحولات النموذج الغربي المتعالي، كما نشهدها في نماذج الرواية الواقعية، والرومانسية والتجريبية والجديدة، وسائر موجات التمثّلات الغربية التي تحدث أثراً في ما يتعلق بالجانب التقني، غير أنها تمتلك رؤيتها الخاصة، وهنا نستجيب لمفارقة تطور التقنية، أو جمودها، وغياب الرؤيوي، ومع أن العالم العربي زاخر بكافة الإشكاليات الثقافية والإنسانية إلا أنه ما زال يفتقد للمساحة الكافية للتنفس في ضوء إدراك ثقته في نفسه، ولعل هذا يفسر في بعض جوانبه لغياب مناخ الحرية والعدالة الأدبية، ولكن هذا لا يمكن أن يصدق، فاحتجاجات باريس في الستينيات، وساحة تيانانمن في الصين أتت لتنفض الغبار عن العقول الخائفة، ومع أن العالم العربي حالياً في حراك ثوري، غير أنه لم ينتج أفكاراً أو رؤية.. هنالك فقط الرؤية المنجزة، مع محاولة اتباع النهج التطبيقي، ولكن لا وجود فعل تأمل وبحث، ويعلل ذلك بنزعة الخوف من الابتكار، ومحدودية الخيال، بالإضافة إلى ما يفتقده الأدب العالق بين تطور تقني محدود، وغياب الرؤية تبعاً لكونه خاضعاً لمنطق الاستهلاك الشائع في عوالم ما بعد الحداثة، فالأدب على الرّغم من أنه لم يتجاوز إشكالية الوجود إلا أنه ما زال مرتهناً للمواضعات والاشتراطات المفاهيميّة، وقدرتنا على التوصل لمتعالية الأدب، وهو ما يعدّ ضرباً من المستحيل، غير أن هذا المستحيل يعدّ الإغواء الأكثر جمالاً، وغرابة.
كاتب فلسطيني أردني

النماذج الأدبية وغياب الرؤية

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامية العطعوط:

    مقال مهم جداً … نابض بالحيوية ودقة وترابط التحليل..

  2. يقول محمد من تونس:

    هذا المقال شديد التعقيد و التداخل بحيث أنني قرأته فلم أخرج بأفكار واضحة… لغته المعقدة توحي بأنه مترجم و ليس أصليا في معظمه…

إشترك في قائمتنا البريدية