فتحت الستائر، دخل ضوء بهر عتمة غرفتي وعيني.
قالت آمرةً ساخرة : قومي من تحت الردم.
قلت: اتركيني مابدي.
قالت: بلا ولا حجة، الفيلم بجنن، وكلو عن دمشق..
خف رفضي. سحبتني صديقتي سحباً مثل عنزة حرون إلى العرض.
* * *
الجهة الداعية أعلنت بوضوح وبلا مواربة انحيازها لألم الناس. ولأن عنوان الفيلم يدغدغ مشاعر المغترب، المنكوب، ويذكر بطعم الحليب الأول للحنين. جاء السوريون من كل الأطياف والمواقف على حد سواء لحضوره، بعضهم يحمل علماً بنجمتين، وآخرون حملوا أعلام النجمات الثلات.
* * *
كل الوجوه قريبة من القلب. كأنني أعرفهم من زمان. تأخرت صديقتي وهي تتنقل بينهم لتوزع بروشورات الفيلم. وقفت وحيدة، أطلق مغناطيس سمعي ليلتقط اللهجات الحبيبة. شو.. وماشي الحال.. وكيفكن.. ويسلموا دياتك.. وأهلين وسهلين..
لهجات صافية، مخزونة في ذاكرتي، جعلتني أشعر بأمان الغريب وسط جموع لا أعرفهم.
* * * *
عريفة الحفل أدمعت وهي تطلب من الجميع الوقوف على أرواح شهداء سوريا.. ساد صمت سادر، بدا كأنه ممتزج بصور الدم الحار الذي يلطخ الشاشات، صمت بامتداد عمرٍ كاملٍ، لا يقطعه سوى نكزات صوتية منبعثة من بعض الهواتف المحمولة.
* * *
1980في المدرسة قالت مدربة الفتوة القاسية، ، كانت أول دقيقة صامتة أقفها مستغربة عن معنى القيام بذلك. أصواتٌ ماتزال تهمس في ذاكرتي الرخوة، نتكركر ونضحك وننكز بعضنا.
قالت رفيقتي من بين أسنانها: شوفي شعراتها مثل الجنفيصة..
قالت أخرى وهي تشد ذراعيها باستقامة على جانبي جسدها:
الله يخفي حسها بلا ميكروفون وبخشتلي طبلة أذني!!
* * *
1980 : قالت مدرسة اللغة العربية ، اكتب موضوعا تعبر فيه عن المعاني الوطنية العظيمة، السامية والعميقة، مستشهداً بما تحفظه من خطاب القائد في حفلة تخريج المظليين.
حفظناه بصما، يقول بصوته المشروخ:
‘يجب أن تراقبوا بدقة كل نشاط رجعي مشبوه ، يجب أن تراقبوا بحذر ويقظة كل نشاط عميل مشبوه ، ويجب أن تتابعوا كل مظاهر التآمر الرجعي للقضاء عليه ولتحطيمه في الوقت المناسب ، وفي اللحظة المناسبة ، ويجب أن تبحثوا عن العملاء في كل مكان ، في كل زاوية ، وأن تجتثوهم حيثما وجدوا وأن لا ترحموهم ، قل شأنهم أو كبر’.
ومن يومها اختفت الثقة بين جيل كامل. صار الكل يمشي متلفتاً، خائفاً الحيط الحيط ويارب السترة وانتشرت مقولة في فمي ماء.. وبدأ مشوار طويل من الاستخبار، فخاف الأخ من أخيه، والصديق من الرفيق، ومن آذان الحيطان. انحنت الظهور ونامت أرواح الناس في سبات طويـــــــل.
دقيقة الصمت امتدت أربعين عاماً.
* * *
1981 في الجامعة قبل بدء الحفل السنوي وقفنا :
مال رفيقٌ هامساً: حمير ركبوا مظلات وهبطوا فوق كلية الطب..!!
خفت منه.. لا يمكن الوثوق بأحد. لا نعرف من يكتب التقارير. كيف يرمى لك الطعم لتعض على الشص المعقوف. وتطبق عليك أسنان الفخ.
تشاغلت عنه بصمت بعدّ ثواني الدقيقة الثقيلة ريثما ينتهي هذا الهدوء القاتل.
* * *
1994 قال بحزن: مررت أمام المدرسة وتفاجأت أنهم غيروا إسمها!!
قال بغضب: أجيال مرت على هذه المدرسة، خرّجت أجيالاً من المتفوقين. أصبحوا من أهم النخب المثقفة. مات منهم كثر ولم يسمع بهم أحد.. وبقي إسم المدرسة معهد الحرية.
طلعت عيناي في تحصيل العلم والشهادات، وسجلت بإسمي براءتا اختراع. ألفت عشرة كتب علمية. ولم أحظ بمقابلة تلفزيونية.
اعتقلت بتهمة حث الطلاب على قراءة كتب خارج المنهاج. خرجت مكسوراً ومهزوزاً ومريضاً.
قال بحنق: لا أفهم كيف يصبح الشهيد هو كل من مات بحادث سير على طريق المطار، والقتيل هو كل من قال غير ذلك؟!
قال : سنغادر هذه المزرعة التي تسمى بلاداً.
* * *
2000
– منشان موعدنا اليوم لا تجوا
– ليش
– مثل ماعم قلك
– فهميني شو صار
– مات الكبير
– أي كبير؟؟
– أكبر واحد
– مافهمت عليكي
– إي افتحي التلفزيون طالع مروان شيخو بتعرفي.
وبخمس دقائق من تصفيق مجلس الشعب. تم تغيير الدستور. نُصّب ابنه رئيساً، باستفتاء شعبي شكلي، ماتت أحلام الناس، ومددت عقوبة الصمت لعشر سنوات.
* * *
2011 بن علي هرب.. معش تخافوا من حد. الشعب التونسي حر.
كان الرجل يصرخ في الليل هائماً في شوارع تونس الخالية. وسادت قبل أن نقفز من ذهولنا ونهنئ بعضنا، كأن الفرحة فرحتنا. ثلاثةٌ وعشرون يوماً فقط.. بثلاثةٍ وعشرين يوماً يمكن أن يسقط رئيس عربي. وتقتلع جذور كرسيه الضاربة في أقبية السجون والمتطاولة حتى على هلالات المساجد!!
بدأت الأحلام الحلوة تلحّ عليّ، وتجثم على صدري مثل الكوابيس تماماً. ماذا لو؟! كان الخوف غصناً بشعبتين يثبتني من رأسي مثل ثعبان صغير، فلا أقوى على الحركة. هل من الممكن؟؟ أتلوى ولا أنام.
* * *
2011 البيان رقم واحد. ويرتجف القلب. أسمعها بأذني وأشاهد بأم عيني تلك اللحظة التاريخية. كيف تمكن شعب خلال ثمانية عشر يوماً من إسقاط حاكم بعد ثلاثين عاماً من القهر المصري. كنت قد قرأت منذ شهرين كتاب ‘مصر مش أمي.. دي مرات أبويا’، ليس لدينا في سوريا كتاب مماثل. لا نجروء حتى على المزاح في مصائب حياتنا اليومية. ليس لدينا رواية واحدة في الأسواق عما عانيناه طيلة حكم الأبد. استهديت إلى رواية القوقعة، ياه كيف كنا نحيا برفقة الصمت، ولم نسمع هذا الصراخ المرعب. لا يمكن أن تكون سوريا مثل مصر وتونس وليبيا. لكنه الأمل..
* * *
الجيش والشعب إيد واحدة. هتف الناس واستجاب العسكر. ليتني مصرية.. لا لا أنا سورية. جيشنا معتر. أراهم في الطريق كالحي الثياب معفري الوجوه. لا أحد يوافق على الخدمة العسكرية. نصف شباب البلد تغربوا ليدفعوا البدل ويتهربوا منها. ومن خدموها وشموا بتلك الانكسارات التي لا تنسى.
لا لخدمة الوطن ولا من أجل الشرف العسكري. الهدف، كسر أية فكرة قبل تخلقها بداخل الإنسان، أنّ له الحق بأن يقول لا. نفذ ثم اعترض.. ثم ازحف عارياً. وتتسع دائرة القطيع.
ولك يا… بدك تنسى المدنية، اعتز بنفسك يا حيوان. ظل أخي يتندر بالكثير من هذه الجمل كذكرى تهكمية سوداء من صفوف الجيش (أبو شحاطة).
* * *
2011 فتاة بيضاء محجبة بنظارة شمسية كبيرة، عند مقهى النوفرة بجوار الجامع الأموي، تهتف الشعب يريد إسقاط النظام يهجم عليها رجلان.. تصرخ.. وينقطع التصوير.. بدأت الثورة.. وانشعر زجاج الصمت، صدى الصراخ المكظوم في أقبية وزارة ‘الحب’، هكذا أسماها جورج أورويل، كيف لم أقرأ روايته ‘1984’، أكان يسجل ما يحدث في سوريا حين كتبها عام 48.
دخل السوريون جميعا الغرفة 101. هناك حيث كل مواطن يعاقب في وزارة الحب، بأن يعيش مع أشنع مخاوفه.
* * *
2011 حمزة الخطيب، أيقونة في معبد الذاكرة السورية، طفل في الثالثة عشرة من عمره خردق جسده بمثقب الحائط، وقطع عضوه الذكري، لأنه تبول على صورة القائد، نزعت حنجرة شاعر غنى لرحيل الأخ الأكبر، كسرت أصابع فنان لأنها رسمت حقيقة الأخ الأكبر، فيزداد نزول الناس إلى الشارع، يحمل شاب وسيم في داريا الورد والماء ليوزعها على الجند والأمن، فيخطف ويعود إلى أهله مبقور البطن. قال أحد المفكرين العرب، إنها ليست ثورة إنها ملحمة، يخرج الناس للرقص والغناء، فيقتلون، فيعاودون الخروج لدفن قتلاهم رقصا وغناء فيقتلون.
لكنها رقصة الموج الهادر، شعب يموت راقصا إنها معجزة كل القرون كان الخوف مازال مشروخاً في الشام. يخيم صامتا في حلب.
* * *
2012عام المجازر. خاض الجيش السوري المعارك المؤجلة منذ أربعين عاما، مع فقراء سوريا. ورويدا بدأت جغرافيا البلد التي لم نكن نحفظ منها إلا أسماء المصايف، تندرز بالقلب وتوشم في الذاكرة، خريطة سوريا مرسومة بالدم. مدنٌ وأحياء تجبر التاريخ أن يلوي رقبته، ويتوقف عن الصمت. تنهض كرم الزيتون، الخالدية، بابا عمرو، باب سباع، الرستن، تفتناز، الحولة، زملكا، التريمسة، حي القدم، كفر سوسة، داريا، الأكرمية، الذيابية، الجورة، حلفايا، دير بعلبة.
الشاشة ملطخة..
* * *
2012 فاز الإخوان المسلمون بالوصول إلى سدة الحكم في تونس ومصر بانتخابات حرة ونزيهة. فشل المثقفون والمتنورون والعلمانيون والمعتدلون والشعب الذي تنادى للثورة وقام بها وسقط منه الشهداء في ميدان التحرير، في تشكيل كتلة مضادة. الورد الذي تفتح في جناين مصر.. بدأ بالذبول سريعاً.
لكن الصمت خرج للأبد، عادت الجموع التي عرفت مكان السر، إلى ميدان التحرير.
* * *
2012 : مفتي المملكة يحرّم الوقوف على أرواح الشهداء، لأنها ليست من الزمن الإسلامي، بل بدعة من توقيت وساعات الغرب الكافر وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الجنة امتلأت بشهداء سوريا، طفلة مقطوعة الرأس، رضّع يردمون تحت الركام، شباب يقصفون مثل السنابل قبل أوان الحصاد.
حضرة المفتي.. هلا خرست قليلاً تقول لافتات كفرنبل.
* * *
2013 حزب الله يريد أن يدافع عن مقام السيدة زينب.
مقامنا وفي عقر شامنا؟؟ الذي بناه أهلنا؟؟ صلوا على سجاده وتمسحوا بقضبانه؟؟
حزب الله، في طور التفكك، الثورة تقلب الإنسان رأسا على عقب، تغيره بجوهره، تكشف له حقائق دائمغة كان يزورها، وعقائد متعفنة كان يستطيبها، مثل عفن الشنكليش. بلد الشنكليش. كل شيء شنكليش. قالها رفيق طفولتي، وأغلق الباب على نفسه .. لينتهي في مذبحة الاكتئاب.
صوت الرجل الذي فقد ستة من أبنائه في القصير لا يصل إلى الضاحية الجنوبية: مبارح رجالك وحرمك ونسوانك كانت نايمة عنا بالبيوت يا حسن. نفتح أحلى بيت وأحلى فرشة نعطيهم. نعشيهم ونترك الأولاد بدون عشا.
* * *
2013 قالت صديقتي: خلصت دقيقة الصمت حاج تبكي فرجيتي علينا العالم.
قلت لها: وخلص الفيلم.
خرجت من الصالة. وبدأ العرض.
كاتبة من سورية
غاية الثورة كانت نبيلة ووسيلتها تحولت لكثير من الخبث …وابتعدت عن طهارة واخلاق الثوار لتصبح ثورة “ناتو”
آخ كيف يواصل بعض السوريين الطريق التي اختاروها منذ سنتين دون مراجعة أنفسهم. في حروب كالحرب الضروس القائمة في سورية ليس هناك من رابح. الجميع يخسر وخاصة أهالي المناطق المعدمة التي يتم تدميرها في جميع أنحاء سورية. تحاوروا قبل أن تمر عشر سنوات أخرى (لا سمح الله) من قتل الأخ لأخية والأب لولده وندرك أن الأمور ليست بخير. الجميع عاشوا مع بعضهم منذ آلاف السنين وسيعيشون مع بعضهم آلافا أخرى من السنوات. وليس هناك أي طريق آخر.
:( قالت صديقتي: خلصت دقيقة الصمت حاج تبكي ..فرجيتي علينا العالم