هوية الفن التشكيلي بالمغرب: من المعطى إلى البناء

حجم الخط
0

ورد في مجلة ماريان (Marianne) شهر يونيو2012 عدد رقم 790، في ملف ‘ثقافة وفن’، مقال تحت عنوان الانفجار الأكبر لسوق الفن، تطرق فيه كاتباه ماكسيم روفر (Maxime Rovere) وفانسان إيجيه (Vincent Huguet) إلى تقييم الدورة 43 من الملتقى التشكيلي السنوي لمدينة بازل السويسرية آرت بازل.
ما شدني في هذا التقريرهو ثلاث عتبات:
الأولى هي أن الحصيلة المالية المستخلصة من هذه الدورة تجاوزت بشكل ملفت مدا خيل سابقاتها من الدورات. بهذا خلص الكاتبان إلى أن سوق الفن لا تعترف بالأزمة الراهنة الخانقة التي تعرفها جل دول العالم.
والثانية هي صعود قيمة الفنانين المنحدرين من الدول التي تشكل التكتل الاقتصادي الجديد: البرازيل، روسيا، الهند والصين. ( BRIC)
يقول الكاتبان: ‘إنه إذا كان يبدو أن لا شيء يتبدل ظاهريا ، ففي الواقع كل شيء يتحول وبسرعة مذهلة، وجيو- سياسة سوق الفن تعيش الانفجار الأكبر بشكل حقيقي…’ وشدني أكثر في هذه المقاربة حين يضيفان’ … وليس لأن من يتحكم في أسواق نيويورك وبازل هم متاجرون كبار قادمون من دول (BRIC) ، فقط وإنما لأن هناك أقطاب فنية أخذت تسحب من الدول الغربية الهيمنة التي طالما تحكمت فيها منذ عهد النهضة في هذا المجال…’ إلى أن يضيفا: ‘هناك شبكات جديدة آخذة في الصعود وبقوة خاصة في آسيا وفي الإمارات العربية’.
ولكي يبرهن الكاتبان على عمق التحول، تابعا الحديث بين استفهام وإقرار:’ هل تعرفون من هما، زونغ داكيان ) Zhang Daqian 1899-1983)، وكي بايشي) Qi Baishi 1864-1957)؟ بالتأكيد أن هاذين الاسمين لا يعنيان لكم شيئا إلا أن قيمة الواحد منهما قد تجاوزت بكثير قيمة بيكاسو المالية.’ كما تطرقا إلى أن في لائحة الفنانين العشر الأغلى في العالم اليوم يوجد بينهم ستة فنانين صينيين.
والثالثة هي في ما يتعلق بتقييم الكاتبين للحركة الفنية في كل من الإمارات العربية وقطر وما تعرفه من حركة نزوح لكل من العارضين الأوروبيين والبينالات العالمية.. مما جعل منهما قبلة للفنانين وتجار الفن في الآن. إلى أن يدرجا قولا، متاخما للسخرية، للسيدة آنطونيا كارفر Antonia Carver مديرة ضبي- آرت: ‘حصل التطور الاقتصادي هنا في غياب مطلق لأي اعتراف ثقافي أو دبلوماسي. إنه نموذج التطور الما بعد- حداثي بمعنى ما’!
نصل في عملية تركيبية لهذه المعطيات الثلاث، إلى أن عملية البناء ؛ فكرية، إبداعية، رياضية…لا تستقيم إلا بحصانة مالية تُشيّد وبحصانة عصبية تُنمّط وفي الأخير بحصانة ثقافية تُسوّغ. وبمزج كل هذه المركبات يحصل القبول تم التسجيل في نادي العالمية مع ما يلي ذلك..
سيتساءل القارئ عن غايتي من هذا العرض، بما أن المسألة هي خالص مسألة لوبيات وتجارة الفن لا غير، وأن لا علاقة لهذا بالفعل الفني في ذاته؟
كل النقاشات التي دارت وتدور بين الفنانين التشكيليين المغاربة الجادين والمعنيين بالمجال الغيورين، وعلى مختلف المراحل الزمنية من عمر الفن التشكيلي المغربي، تتمحور حول إشكالية الخصوصية المغربية، الذات المغربية.. أي في ما يجمله سؤال الهوية، وهو السؤال العلة للوقوف عند المقال الوارد أعلاه.
في تأمل بسيط لثنائية : الهوية = المغرب، نجد أنها أكثر تعقيدا وتركيبا مما يتبادر إلى الدهن .
أولى التقابلات التي ينبغي الفصل فيها هي:
أ نقول الهوية المغربية في الفن التشكيلي أم نقول الهوية التشكيلية بالمغرب؟
إذا سلمنا بقول: الهوية المغربية في الفن التشكيلي، ألا يعني هذا المقتضيات التالية:
الأول هو أن الهوية المغربية مسلم بها، محددة المعالم، واضحة المراسم وبينة التقاسيم، ولم يبق سوى البحث لها عن حيز فضائي حيث الفعل التشكيلي.
الثاني هو أن هذه الهوية المغربية متوفرة سلفا بمقاييس ومقاسات ومقادير محددة، وبمقدار إقحامها في الأثر التشكيلي تقاس درجة انتمائه إليها وانتمائها إليه.
تم لنتأمل الوجود الثقافي لبلدنا، وهو وجود لا ندحة، يتأسس عما هو جغرافي، ديني، سياسي، عرقي… نلاحظ إذن، درجة تنوع العناصر.
ينتمي المغرب إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ينتمي إذن، إلى ما يعرف بمهد الحضارات. حضارات بالضرورة عبرت إليه وعبر منها، بما في ذلك العبور من اختلاف، تناقض وتكامل، أفقيا وعموديا.
إذن عن أية صورة للهوية المغربية نتحدث؟
عن العربية الإسلامية وفي هذا الشرط سنوضع في مشترك يمتد من المحيط إلى الخليج .
عن الإفريقية وفي هذا الشرط سنخترق الجغرافي عبورا إلى الزمني إلى الأصل الإنساني وتطوره .
عن الأمازيغي وفي هذا الشرط نوضع في المشرك المغاربي.
عن المتوسطي وفي هذا الشرط سنجد أنفسنا في مشترك / مسبح الحضارات بما فيه من تقاطعات من الحد إلى الحد.
بالطبع تأتينا مكونات الهوية من تراكمات الماضي ولا نلبث نضيف إليها أو نشذبها حسب مُلزمات الحاضر، وبدون كثير تخطيط نسهم في ما ستكون عليه في مستقبلنا.. من هنا وإذا ما أردنا الحديث عن هويتنا المغربية فيجب الإقرار بأنها شيء من كل تلك الشروط المذكورة ، وهذا يعني أيضا أنه لا ينبغي البحث عنها عنوة ولا اقتياد مظاهرها قسرا لننعث بالوفاء لها. فهي بالضرورة موجودة في إبداعنا مهما اختلفت درجت وعينا بها ونحن نصرف الفعل الإبداعي..
من هنا، أصل إلى الصيغة الثانية: الهوية التشكيلية بالمغرب. وإذ يبدو أن شرط الانتماء هو شرط معطى وكل كلام عنه هو كلام منه، وكل إبداع فيه هو إبداع منه.. وإذن، فالإبداع بشرط الانتماء إلى، هو إبداع بمشترك ما، وبالتالي، هو إبداع يخدم هوية المشترك..
من هذه الزاوية، أفضل أن يكون شرط الصدق الفني هو الأجدر بالعناية من أجل تأسيس هوية تشكيلية بالمغرب. والصدق الفني هو الصدق الإبداعي والصدق المؤسساتي، والصدق لا يستقيم بدون رؤية اشتغال واضحة ومؤسسة مستحلبة من الرغبة في بناء تلك الهوية /الذات.
يجرنا هذا الكلام إلى السؤال التالي: هل من وصفة تسهل علينا القبض على هوية تشكيلية بالمغرب؟
نعلم عبر تاريخ الفن أن تيارات ومدارس وحركات فنية لم يكن لها أن تنجح وتستمر إلا بقاعدة ذات فاعلين: الفاعل الأول يتمثل في فنان أو مجموعة فنانين أحرقوا مراكب العبور. والفاعل الثاني يتمثل في من يقدم على أداء ثمن الحرق لبناء المراكب الجديدة والمغايرة طبعا.
فإذا كان، ولا بد، على الفنان في لحظة ما أن يجرؤ على حرق مراكب العبور، وجب على أناس الفن والمؤسسات المعنية، متى ما حدث ذلك، أن تجرؤ على تأدية الثمن. أما إذا تأخر موعد الحرق عن أداء الثمن، فإننا سنجتر سؤال الهوية، كما نفعل، إلى يومنا هذا. ومتى تأخرت عملية الأداء عن موعد الحرق، سينتحر الفنان ويظل الفراغ سيد المجال، مما يؤخر مشروع الإبحار إلى أجل غير مسمى.
أجل، بهذا المعنى نتكلم عن الصدق؛ الصدق في عملية الحرق بالنسبة للفنان والصدق في عملية الأداء بالنسبة للمؤسسات والأشخاص الذاتيين والصدق في عملية الإبحار في موعدها في صفتها وهيأتها.
أما عن مياسم العروبي، الإسلامي، الإفريقي، الأمازيغي، والمتوسطي .. وما تحويه هذه من أخرى فرعية؛ مسيحية، رومانية، يونانية، فرعونية، شيعية… فهي مجرد تعلّات يختار الفنان أي منها وله كامل الحرية ولا يخشى في ذلك لومة لائم، ومن خلالها له أن يتناول ما شاء من التيمات والموضوعات. غير أنه لا ينبغي له وهو يختار ميسما ما، أن يعتقد الاكتفاء به والاقتصار عليه دون ما سواه، فتلاقحها غائر وتناسجها محكم وانتشارها موصول… بل أجازف بالقول ان من انتمي إلى القارة الإفريقية وإلى حوض البحر الأبيض المتوسط، أسس العالم بالضرورة.
طيب، إلى هذا الحد يبدو الأمر في غاية البساطة.. يبدو، فقط يبدو.
يشتغل فنان تشكيلي ما على تيمة ما بتقنية ما وفي ضوء ما؛ أمازيغي، عروبي… ينجز معارض وتظاهرات .. ينفق ما شاء من الوقت والتفكير والإبداع .. يحضر الزوار يناقشونه الموضوع .. يقتني منه بعض المهتمون بعض أعماله.. تم .. تم لا شيء.. فجأة، يجد الفنان نفسه يقف وجها لوجه أمام الصمت لولا ندى صداقاته القريبة.. لا بد إذن، من وسائط أخرى غير وسائطه الخاصة؛ إنها المؤسسات، من تلك العاملة في القطاع الخاص إلى الأخرى القادمة من دواليب الدولة.
وهكذا، يصير الأمر غير بسيط بالمرة.
يعلم المهتمون بالحقل التشكيلي من فنانين وتجار ومصنفين… أن هناك تجارب كثيرا هامة مرت بهكذا صيغة ولم ينتبه لها أحد. فما هو الحل إذن؟
في التقرير المذكور أعلاه يقول كاتباه: ‘يوجد في دولة الصين شريحة قليلة من الأغنياء تبلغ ثروتها 271 مليار دولار وتستثمر بشكل مكثف في بناء المؤسسات التي تعنى بالفن التشكيلي، بلغ عددها حوالى 400 مؤسسة مختصة رأت النور خلال السنة المنصرمة…’
إلى أن يقولا: ‘إن العارض الإيراني كوروش نوري استطاع بيع قطعة فنية لم تتجاوز قيمتها 25000 دولار لفنان إيراني لا زال مغمورا، بثمن 1,2 مليون دولار..’
من بين الحصانات السابقة الذكر والضرورية لأي بناء، نقف في هذين المقطعين على حصانتين: الحصانة المالية والحصانة العصبية. من هنا، يستقيم القول انه ومهما بلغت درجة إبداعية الفنان ومهما علا كعبه لا يمكن له أن يسير الطريق كاملة منذ البحث إلى الانجاز إلى الترويج والتداول فالتصنيف عالميا، وهو وحيدا.
في البدء كان الفنان (الرسام) يملك حقيقة ما يبدع، يملك سر الفكرة ، سر الخلطة اللونية وسر الرسالة. ليس فوق قوله قول ولا فوق يقينه يقين. ثم حدث أن تعقدت الحياة بالاختلافات العقدية والإيديولوجية فطغت المصلحة التأويلية وتخندقت الرؤية فصار الوضع يستدعي مؤوّلين ومقوّلين. ولضرورة ما، تنازل الفنان عن بعض الثغور. هكذا، أصبح المشهد يقوم على ثنائية الفنان (المبدع) والعمل الإبداعي (المؤوَّل) بينهما وسيط مؤوِّل يتحكم في سر الفنان وفي سلطة التأويل. ثم حدث أن تعقدت الحياة أكثر وازداد إيقاعها وبرزت قيمة الربح المالي، فكان أن تشكل جهاز خاص أصبح فيه كل من الفنان والعمل الفني والمؤوِّل أيضا، سرا من أسراره الخاصة.. إلى درجة صار معها هذا الجهاز هو مالك قدر الفنان ومصير العمل الفني ومجاري التأويل: إنه عالم الفن، الجهاز الذي يحيي ويميت.
هنا، يتوجب حضور الدولة بكل ثقلها عبر مؤسسات مختصة قوية وحرة.. من هنا، تتأتى فطنة الفرد المستهلك، لما يدور في المجال… وعبر أروقة وتظاهرات مبنية على معايير الجدية والجدة.. وفي الأخير عبر برامج عملية وتواصلية تثقيفية.
بهذا الاسترسال البسيط نخلص إلى ما يلي:
الفنان التشكيلي وحده لا يبني هوية تشكيلية لقصوره.
الجهاز المتحكم في الترويج للفن التشكيلي لوحده لا يبني لطغيان نزعة الربح لديه.
الدولة وحدها لن تبني في غياب الأول والثاني.
لا بد، من فنان يبدع ومن جهاز يروج ومن دولة توجه، تقوي، أي لا بد لنا من حركة وطنية تشكيلية.
هكذا، ففي الأخير يبدو جليا أن تنشئة/ تأطير/ إقامة هوية ما؛ تشكيلية، موسيقية، رياضية، علمية… تكون للدولة أول الإرادة وآخرها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية