تعمدت الصين أن توجه إهانة للرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ اللحظة الأولى لهبوط طائرته على مدرج مطار شياوشان، لم تجد الطائرة الرئاسية الاستقبال اللائق، واضطر الرئيس للنزول من السلم الخلفي لطائرته بعد أن أهملت السلطات الصينية تجهيز الدرج المخصص لاستقبال الرؤساء المشاركين، وتلقى الرئيس الأمريكي إهانة أخرى من نظيره الفلبيني الذي نعته بوصف بذيء، الأمر الذي أدى إلى إلغاء لقاء مرتقب بين الرئيسين.
بات واضحاً أن الرئيس الأمريكي الذي استساغ أن يتلقى الإهانات تباعاً، لم يجد الفرصة لممارسة هيبته المفقودة إلا على بعض الرؤساء والمسؤولين العرب، ويبدو أن أحداً لم يعد يؤمن بأن أوراق اللعب جميعها بحوزة الأمريكيين سوى بعض الأنظمة العربية، ويبدو أن أطرافاً كثيرة لا تستطيع أن تعرف الأطراف التي انتزعت الأوراق من اليد الأمريكية الثقيلة، وبينما يتوقع البعض ورقة في موسكو وأخرى في أنقرة، فإن ما يمكن قوله بأن رحلة البحث عن أوراق القوة والنفوذ ضلت طريقها بالكامل، أو أن العقلية السياسية العربية لم تستطع أن تعمل على تحديث ثقافتها في التوازنات الدولية، وبقيت مرتهنة لعصور مضت وعفى عليها الزمن.
الصينيون يصعدون، الأمر لا يتوقف على العوامل الاقتصادية وحدها، ومع أن الدول الإفريقية تستسلم الواحدة تلو الأخرى لمدارات الهيمنة الصينية، مع أن الصينيين ليسوا الطرف المناسب الذي يمكن أن يعتبر شريكاً في التنمية الاقتصادية، إلا أنهم على الأقل الطرف الذي لديه الاستعداد للذهاب إلى آخر الدنيا من أجل تحقيق مصالحه، وبعد أن دخلت أنغولا إلى الحظيرة الصينية بعد صراعات حول النفوذ التجاري وتدخل الأوروبيين الذين يصرون على مزيد من الإصلاح على مستوى الشفافية وشروط المنافسة في البلد الأفريقي الحافل بالثروات المعدنية، فإن الصين اليوم تبدو الطرف الأقوى على الساحة الأفريقية، باستثناء خسارة محدودة في رواندا التي قامت بإنهاء عقود الشركات الصينية بطريقة عقابية وجماعية.
العرب يبدون في غير حاجة للصينيين على المستوى الاقتصادي، وبالفعل فإن الشروط الصينية تبدو مهينة لأي دولة تستقبل الاستثمارات المقبلة من الشرق الآسيوي، فالشركات الصينية تأتي ومعها جميع الوظائف الثانوية اللازمة بمن في ذلك العاملون في مجال طهي الأطعمة، عدا بالطبع عن الأدوية والمواد الغذائية بمعنى أنهم يشكلون مستعمرات خاصة داخل الدول الأفريقية، ولكن ذلك لا يمثل فارقاً مهماً لدى القيادات الأفريقية التي تستطيع أن تحصل من الصينيين على مشاريع بنية تحتية بتكلفة وجودة معقولتين، وهو الأمر الذي يعزز من منجزاتهم التي يجري تقديمها لشعوبهم، أما المشاريع التجارية والزراعية فيجري استقطابها من تركيا وإسرائيل.
مشاريع البنية التحتية في الدول العربية يمكن تنفيذها من خلال شركات محلية تمتلك الإمكانيات اللازمة، وبعض هذه الشركات تنافس في افريقيا وآسيا الوسطى، ولذلك لا يبدو الإغراء الاقتصادي قائماً للتقدم بالعلاقات العربية الصينية، وأي استقدام للشركات الصينية سيشبه إلى حد بعيد دفع الإتاوات للصينيين في حالة التفكير في الأمر بصورة مجردة، ولكن الدول العربية تدفع الإتاوة بأشكال مختلفة للأوروبيين، فتتقدم لشراء منتجات الأسلحة الفرنسية التي تفشل باريس في تسويقها، ويغذون سوق العقارات في بريطانيا بمليارات الدولارات سنوياً، وفي النهاية يتحصلون على فتات سياسي لا يمكن أن يقابل الثمن الذي تدفعه الدول العربية الثرية أو الفقيرة على السواء.
الأمريكيون المنسحبون من المعادلة العالمية يقدمون رهاناتهم في هذه المرحلة على طهران، ويحاولون استعادتها بوصفها شرطياً للمنطقة التي تتجاوز الخليج العربي لتمتد تجاه بحر العرب والمحيط الهندي من ناحية، وآسيا الوسطى من ناحية أخرى، وإذا كان العرب غير قادرين على تخطي مرحلة السادات ونظرية أوراق اللعبة المتواجدة حصرياً مع الأمريكيين، فإن الأمريكيين أنفسهم يعيشون عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية ويسكنون في منطقة من التردد والتهميش الذاتي التي تدفعهم إلى تحقيق خسائر متواصلة على المستوى العالمي. هل يمكن أن يعزى ذلك لشخصية الرئيس أوباما الضعيفة؟
تلعب شخصية الرئيس دوراً مهماً في التراجع الأمريكي، ولكن من السذاجة أن تعتبر السبب الوحيد لحالة التراجع الأمريكية التي وصلت لذروتها على مدرج مطار شياوشان، فالحقيقية أن الأمريكيين فشلوا في إدارة مشروع العولمة وفق شروطهم، وأن ما حققوه خلال سنوات من تعميم للنموذج الأمريكي بوصفه الحلم النموذجي لأي دولة خلال السبعينيات والثمانينيات، جرى استنفاده خلال مرحلة العولمة التي تبعت انهيار المنظومة الشيوعية، فأمركة العالم أتت بنتائج عكسية صعدت بالنزعات المحلية للواجهة من جديد، وأصبحت فكرة عداء الولايات المتحدة أحد الطرق الذهبية للصعود السياسي في مختلف أنحاء العالم، فالأفريقيون المترامون على الأعتاب الصينية ليسوا وحدهم، فأمريكا اللاتينية انعطفت تجاه اليسار، والأوروبيون يستعيدون ذاكرتهم القومية، أما الآسيويون فيتقدمون وإن يكن ببطء ولكن بثبات، بينما يفترض أن يحدث الفراغ في حد ذاته فرصة للتخفف من الالتزامات الكلاسيكية وفسحة من الحرية، إلا أن الفراغ الذي يكرسه الانسحاب الأمريكي يضع على العرب أثقالاً تتمثل في صدمة الحرية التي أمامهم، بعد أن تتابعت مؤشرات التخلي الأمريكي، وواقع الحال يتمثل في أن الدول العربية لا تقوم على وجود إدارات تستطيع التفاعل مع المستجدات، ولكن في استقرار أنظمة تعتبر أن خياراتها المحلية والدولية بمثابة الأركان التي سيؤدي تغييرها إلى هزات تلحق بالنظام ككل، فالنظام لا يمثل حالة مرنة، ولكنه مجموعة من التدبيرات التي لا تمتلك القدرة على الاستجابة، والأنظمة غير الديمقراطية وذات النزعة الاستبدادية تعايش أزمة مركبة تتمثل في أن قرارات التغيير في روافع النظام عادة ما تجري بناء على تقديرات شخصية يمكن أن تكون مجرد انجذاب لحملات تسويقية من دول تبحث عن تصريف منتجاتها على مختلف أنواعها.
الصين الغائبة عن المشهد العربي تحتاج موقفاً تفاوضياً مختلفاً، فالصينيون يريدون الحصول على فرص تستوعب عمالتهم ومنتجاتهم، والدول العربية تريد استثمارات توفر فرص عمل محلية، وفوق ذلك يحتاجون إلى معرفة متقدمة عن الذي تمتلكه الصين، وللانتقال إلى مرحلة أخرى من العلاقات تصبح العلاقات التجارية القائمة على المعاملة التفضيلية هي المخرج الوحيد لمنح الصين مزايا اقتصادية يمكن ترجمتها لمساندة سياسية، وهذه العلاقات التجارية تحتاج بالطبع لجيل مختلف من السياسيين في المنطقة العربية من غير المرتهنين للنمط الأمريكي والمسكونين بالأفكارالقديمة حول الهيمنة الأمريكية المطلقة، ويمكن أن إعداد جيل جديد يستطيع أن يتوجه لآسيا وأن يتواصل مع دولها ومؤسساتها سيحتاج إلى وقت طويل، ولكن البداية اليوم هي الموعد المناسب، أما الموعد الأفضل للتوجه إلى الشرق فكان قبل سنوات طويلة، وكل وقت تقضيه المجموعة العربية في الحظيرة الأمريكية هو خسارة مؤكدة حتى لو لم تتحقق في المدى القصير فإنها ستبقى مرشحة للتزايد والتضخم في المدى البعيد.
*كاتب أردني
سامح المحاريق
لدى الصين إستثمارات بأمريكا بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية وهذا دليل على ثقة الصينيين بالنظام الإقتصادي الأمريكي
ولا حول ولا قوة الا بالله
أخي سامح، سياسيو العرب اليوم بقية تراث التبعية الغربية،وليس في واردهم قراءة ما بعد الحرب الباردة،والمشهد شاهد على حجم الفشل
والإنكسار ،فهل ترقص الأغنام مع الذئاب ؟!.