ميادين مصر الغاضبة

حجم الخط
0

ما كانت السنة الوحيدة التي مرت على انتخاب مرسي رئيسا لمصر كافيةً ليتربع على العرش. لم تمكنه هذه المدة القصيرة من تلمس مقعده الوثير في نشوة المنتصر ديمقراطيا، ولعله لم يجلس عليه إلا متبرما حزينا. كان التوقع المباشر في مثل هذا السياق التاريخي والسياسي النادر في حياة الأمم والدول، هو إقامة الأفراح بمناسبة ذكرى انتصار الشعب المصري العظيم على دكتاتوره وعلى تجربة انتخابية نوعية. لكن ما رأيناه سحب ذاك التوقع، كان يوما مشهودا للغضب. ومن الشطط القول إن الأعداد الضخمة التي غصت بها الساحات والميادين العامة في أكثر من مدينة مصرية يوم الأحد 30 حزيران/يونيو 2013 مطالبةً بإسقاط حكم الإخوان، إنما كانت كذلك لأنها انتفخت بالأزلام وقابضي الثمن والتهبت حماسا بغطاء خارجي. قد يكون في هذا شيءٌ من الحقيقة. لكنها ليست كل الحقيقة. ومن هنا وجب قراءة الحدث بهدوء واتزان. وهذه معطيات نسوقها، فلعلها تسهم في تحليل الواقع المصري وتفكيك بعضٍ من غموضه. ولعلها تفسر، في قراءة مقارنة، بعض ما يقع في تونس.
ـ في مصر، كان ثمة باستمرار من يمثل الإسلام الرسمي والشعبي. وهو الأزهر وشبكة المؤسسات والهيئات الدائرة في فلكه. ولا جهة استطاعت أن تطيح بهذا التمثيل وبهذه الرمزية.
ـ لم يتبع نظام مبارك (ومن خلفه مؤسسة العسكر، رغم بشاعة سيرته، سياسة استئصال للإسلام في تمظهراته وتعبيراته الكثيرة، بما في ذلك جماعة الإخوان. فقد كان يوجد على الدوام سلوكٌ متدين ومساحات تضيق حينا وتتسع حينا للدعاة والجمعيات ذات المقاصد الدينية.
ـ لم تكن النخب المصرية بحكم سلطان الأزهر من جهة، وبحكم تكوينها الإيديولوجي الثري والمتنوع من جهة ثانية في عداء صريح مع الإسلام ومع ضمير المجتمع الديني.
وهذا يقود إلى استنتاج أول وهو أن الإخوان لم يستطيعوا، وهم يرغبون حسب أدبياتهم منذ التأسيس، أن يكونوا في وجدان الشعب المصري تمثيلا احتكاريا للإسلام وحماة له. ولم يكن الشعار البراق الملغز ‘الإسلام هو الحل’ قادرا على أن يوفر لهم من السند أكثر مما يوفره أي شعار حزبي للأنصار والأتباع، ولذلك لم يجد معارضوهم عنتا في إبقائهم جماعة سياسية ذات مرجعية دينية، كما لم يجدوا عسرا في اجتذاب جموع من الناس وإن كانوا شديدي التدين إلى صفوفهم أو إلى منطقة الحياد.
ولما كانت أحداث مصر غير معزولة عن سياقها ‘الربيعي’ العربي وعن المآزق التي تمر بها تجارب الحكم ‘الإسلامي’ المفاجئة كثرت المقارنات. وقد وجدنا أغلبها انطباعية لا يزكيها سبب من تاريخ أو نحوه. وكانت سمة التهافت على استصدار الأحكام التجميعية بين هذه التجارب هي الغالبة، لذلك ركزنا عليها.
إن المتهافتين على فرضية القياس أو المطابقة بين ما يجري في بلديّ الربيع الأكثر شدا للأنظار، مصر وتونس، سواء من الفـــــريق السعيد بالأيام ‘السود’ التي يمر بها الإخوان، عساها أن تسري إلى ‘نهضة’ تونس، أو الفريق المتـــألم لمعاناة الإخـــوان المتوجس خيـــفة من أن يلحق بـ’النهضة’ ما تــــغرق فيه ‘الجــــماعة’ مـــن أذى لا نراهم يجرون قانون المطابقة على وجهه السليم.
إن مقدمات الوقائع وسياقاتها التاريخية والسياسية والثقافية للتجربتين كلتيهما، لا توفر لذاك التهافت ما يستقيم به تفسيرا موضوعيا ومعقولا للوضعين الإخواني والنهضوي. وهذه معطيات أخرى نوردها ونبني عليها موقفنا التحليلي، طمست دولة بورقيبة على نحو إستراتيجي وبنجاح هائل ‘الزيتونة’ معلما دينيا وقلعة من قلاع الصمود المتقدمة ضد المسار ‘التمديني الحداثي’ المستنسخ إكراها من المنوال الفرنسي، وترك ذلك فراغا في الأرض والضمير. وسلك نظام بن علي البوليسي سياسة استئصالية عرفت بسياسة ‘تجفيف المنابع’. ورفع شعارات للتغطية السياسية والتعويض الإيديولوجي من قبيل التنوير والعقلنة والحداثة ومحاربة الإرهاب. وكان مسنودا بحاشية باعت العقل واشترت البطن، وهذا ما أحدث جروحا غائرة في وجدان الناس الجمعي.
كما نشأت النخبة المعلمنة في تونس على التطرف الشديد في مواقفها وخطاباتها. وكانت مهوسة هوسا مرضيا بابتداع نسق ‘حضاري’ بديل تستعيض به عن التاريخ والقيم والثقافة العربية الإسلامية. وكانت نزاعة إلى إظهار ضيقها من الانتساب إلى الإسلام وإلى إعلان سخريتها من كل ما يمت بصلة إلى العادات والتقاليد وشبكة القيم الاجتماعية.
وهذا ما يقودنا إلى استنتاج ثان، وهو أن ‘حركة الاتجاه الإسلامي، ومن بعد النهضة كانت تتراءى في أعين قطاعات واسعة من الناس كأنها جاءت ثأرا للإسلام الملغى وانتصارا لضمير الشعب المجروح، ولذلك وجدت رواجا واسعا خارج معاقل الانتماء الحزبي ‘النهضوي’. وتقبلها جمهور عريض من بسطاء القوم ومن طوائف من المثقفين المعتدلين تقبلا حسنا. وسرى اعتقاد جمعي لدى المقهورين بأنها تمثل الإسلام. وتشكل بهذا الاعتقاد أملٌ في مستقبل يتصالح مع هويته ويعيد للمساحات الجرداء في أفئدة الناس نضارتها المفقودة.
وبناء على ما سبق نقول إن النخب المصرية متآزرةً مع جمهور عريض تستطيع إسقاط حكم الإخوان اليوم أو غدا. أما في تونس، فالنخبة المقطوعة عن الناس المولعة بتدمير ذاتيتهم وروحيتهم لا أمل لها في أن تجد على الأرض مستقرا تهنأ فيه، فوق أن تكون قادرة على إسقاط حكم النهضة، فالنهضة موضوعيا باقية في الحكم هي والمتحالفون معها الآن وغدا وإلى أمد غير منظور.
ولا شك في أن هذا محزن. وهو يلقي بظلال كثيفة من الكآبة على جغرافيةٍ سياسية وحزبية تتأهب لتدشين مقطع تاريخي نوعي عنوانه الرئيس: الديمقراطية. هو محزن لا لأن النهضة في الحكم، ولكن لأنها ستبقى فيه، وهذا يربك فلسفة التداول.
إسقاط حكم الإخوان ممكن نظريا وكم تمنينا أن يكون في موعده الانتخابي، وسقوطهم جزء من الفعل الديمقراطي، لأن المنافسة بين الطرفين مدارها على القضايا الاجتماعية والاختيارات السياسية. أما إسقاط حكم النهضة ففي حكم الممتنع، لا لأن النهضة تملك من أدوات البطش ما به تستبد فتبقى، وإنما لأن المعارضة محشورة في نخبة غير شعبية من ناحية، ولأن المعركة بين الطرفين مدارها على الهوية من ناحية ثانية. ومن يربح معركة الهوية يربح معركة الكراسي. وكم تمنينا ألا تكون المعركة في تونس معركةً من أجل الهوية. وكم تمنينا أن تنشأ في تونس نخبة تمتد الجسور بينها وبين شعبها وإن كانت معلمنة. لذلك قد لا نبالغ إن رأينا أن إسقاط حكم الإخوان مفيد للديمقراطية الوليدة في مصر، وأن بقاء النهضة في الحكم وهي ستبقى، مضر بالديمقراطية الوليدة في تونس.

‘ كاتب واستاذ جامعي تونسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية