الغرب يضرب «الديمقراطية الليبرالية»

حجم الخط
1

هل يمكن اعتبار الديمقراطية في شكلها الغربي ذروة عطاء الفكر السياسي البشري كما قال فرانسيس فوكوياما قبل ربع قرن؟ وهل يمكن القول بان التجربة البشرية وصلت بذلك إلى ما يمكن اعتباره «نهاية التاريخ»؟ يصعب تقديم اجابة حاسمة لهذا التساؤل. فقد جاءت نظرة الرجل في ذروة التطورات السياسية التي حدثت آنذاك وادت لانتهاء الحرب الباردة. فقد خرج السوفيات من افغانستان، وتفككت منظومة الاتحاد السوفياتي، ودخل العالم فترة هيمنة القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، وبدا وكأن التجربة الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية قد حسمت السجال الفكري السياسي لصالحها بدون منازع.
ولكن اعقب ذلك اكبر حرب الكترونية مدمرة حين استهدف التحالف الذي قادته الولايات المتحدة القوات العراقية لاخراجها من الكويت. تلك الحرب وضعت نهاية لحماس المفكرين الغربيين الذين ادرك بعضهم انهم تسرعوا عندما أعلنوا انتصار نظامهم السياسي بشكل حاسم. وحتى فوكوياما نفسه غير موقفه في غضون فترة بسيطة عندما رأى الطغيان الأمريكي متجسدا في مقولات الرئيس جورج بوش (الوالد) وسياساته. فلم ير الرجل في ما سمي آنذاك «النظام العالمي الجديد» تجسيدا للمشروع الديمقراطي من قريب او بعيد، بل رأى فيه نزعة نحو الهيمنة المطلقة والتسلط وتقديم المصالح على المبادئ وتجاهل الدعوات الدولية لوقف الحروب ومنع انتشار السلاح.
كان اولئك المفكرون يطمحون في هيمنة الديمقراطية الليبرالية على العالم بقيادة الولايات المتحدة التي كانت تتزعم ما يسمى «العالم الحر». حقبة السنوات العشر اللاحقة (التي شملت فترة رئاسة بيل كلينتون) لم تكن مشجعة لذوي النزعات الليبرالية الذين لم يجدوا انتشارا حقيقيا للمشروع الديمقراطي الا بشكل محدود في الكيانات الجديدة التي نجمت عن تفكك الاتحاد السوفياتي. ولم تكن تجاب تلك الدول مشجعة كثيرا. ولم تؤد الحرب الانجلو أمريكية في الكويت لحالة استقرار اقليمي او دولي، خصوصا ان المؤسسة الانكلو ـ أمريكية لم تتخذ قرار ترويج الديمقراطية في الدول «الصديقة» لتلك المؤسسة. في بداية الحقبة جاءت قمة فيينا في 1993 لتوفر دفعة لرواد المشروع الديمقراطي، لأنها اضفت على المشروع الحقوقي سمة دولية تتجاوز الحدود الاقليمية خصوصا في مجال حماية المدافعين عن حقوق الانسان. غير ان ذلك الحماس لم يستمرطويلا. فمع خروج ظاهرة الإرهاب من رحم التطورات السياسية التي احدثتها الحرب الاولى على العراق، بدأت الامور تتجه بمسارات متناقضة تماما مع طموحات منظري الديمقراطية الليبرالية، وجاءت حوادث 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية، لتؤدي لنتائج مختلفة تماما. فقد اصبح العالم الغربي مهووسا بظاهرة الإرهاب والتصدي لها، واصبح مرتهنا لاوضاع اقتصادية تزداد سوءا نتيجة تراجع اسعار النفط وانخفاض مبيعات السلاح. ولكن الاهم من ذلك جانبان: ان ظاهرة جورج بوش الابن كانت انقلابا على المبادئ الديمقراطية والحقوقية التي جسدتها اطروحات فوكوياما. وبدلا من الاصرار على المشروع الغربي ذي الدعامتين (الديمقراطية وحقوق الانسان) تخلت أمريكا وحليفاتها عن ذلك المشروع برغم تصريحات اولية بعد حوادث 11 سبتمبر توحي بتوجهات غربية للتكفير عن خطايا الادارات الأمريكية المتتالية التي تجاهلت المشروع المذكور. وجاء اعتراف الأمريكيين بممارسة التعذيب مع معتقلي تنظيم القاعدة، والسجون الأمريكية السرية في اكثر من 30 بلدا والرحلات الجوية السرية وخطف الافراد من شوارع بلدانهم، لينهي اي امل في ترويج الديمقراطية وحقوق الانسان.
المشروع الديمقراطي إلى اين؟ يواجه الغربيون تحديات وجودية عديدة، ولكن اهمها يتجسد في مدى قدرتهم على اعادة احياء مشروعهم الديمقراطي الذي ازداد قوة بعد الحرب العالمية الثانية عندما اضيفت له منظومة حقوق الانسان.
اليوم يواجه ذلك المشروع امتحانات صعبة تجسدها ظواهر عديدة: اولها التحالف الغربي مع انظمة الاستبداد والاحتلال في الشرق الاوسط، وهو تحالف يستعصي على التغيير او الاضعاف، خصوصا مع شيخوخة الظاهرة الديمقراطية ورموزها وغياب الاشخاص التاريخيين على رأس الحكم في تلك البلدان. فزعماء مثل جورج بوش او توني بلير او ديفيد كاميرون لا يمكن اعتبارهم قادة تاريخيين، فهم اصغر من المناصب التي تقلدوها، وليست لديهم مشاريع اصلاحية عالمية، كما لم يعرفوا بدورهم في الدفاع عن حقوق المظلومين، وهو شرط اساس للعظمة الشخصية. ثانيها: ان الممارسة السياسية داخل البلدان الغربية لا تجسد روح المشروع الديمقراطي، فالشعوب ليست هي التي تحكم فعلا، بل ينحصر دورها في الادلاء باصواتها في صناديق الانتخاب لاختيار مرشحين مفروضين عليهم من المؤسسة الحاكمة التي هي صاحبة القرارات من الناحية العملية. اما البرلمانات فيظهر يوما بعد آخر هامشيتها في صنع القرارات اليومية، وتنحصر ادوارها في التشريع الذي لا يعرض عليها الا بعد اطلاع المؤسسة الحاكمة عليها واقرارها من قبلها.
الثالثة: ان المؤسسة الحاكمة في تلك البلدان تتشكل من فروع لكل منها دوره، ولا يستطيع اي منها تجاوز الخطوط التي رسمت له. فكما ان السلطات الثلاث جزء اساسي من المؤسسة، فكذلك الاعلام (برغم المبالغة في التشدق بحريته) ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات العمالية. فلكل منها دور محدد، ولكن القرار النافذ هو ما تراه الحكومة.
الرابعة: ان الديمقراطية كمبدأ وعقيدة سياسية يفترض ان يكون لها الحاكمية في صنع القرارات والمواقف، وان نتائج الالتزام بمقتضيات المشروع الديمقراطي يفترض ان يحقق المصالح الوطنية. ولكن الملاحظ ان الديمقراطية فقدت جوهرها وبقيت قشورها.الخامسة: ان الديمقراطية تحولت من مشروع عالمي إلى ممارسة محلية. بمعنى ان الانظمة الغربية قد تكون ملزمة بتنفيذ مقتضيات الديمقراطية داخل حدودها، ولكنها غير ملزمة بترويجها خارج تلك الحدود. واصبح من الراسخ لدى الساسة الغربيين ان بالامكان التعايش مع الاستبداد والتعامل معه وان ترويج المشروع الديمقراطي عالميا ليس ضرورة لانجاحه وتقويته محليا، وبذلك تحول المشروع من قيمة مطلقة إلى مبدأ نسبي يخضع للظروف والامكانات.
لقد كان مفترضا ان يكون المشروع الديمقراطي بديلا للطريقة الميكافيللية في الحكم، وان الغاية لا تبرر الوسيلة، ولكن التجارب الغربية تظهر يوما بعد آخر ان الميكافيللية تحل تدريجيا محل المواقف المبدئية، وان القليل من القادة الغربيين قادر على تقديم المبدأ على المصلحة. وعندما يبرز شخص لديه قدر من المبدئية فسرعان ما يصبح مستهدفا من «المؤسسة» بكافة فروعها خصوصا الاعلام والقضاء، بحثا عن ثغرات في شخصه تستخدم لاسقاطه كما يحدث حاليا مع جيريمي كوربين.
اذا كان للشعب دور في صنع القرار في الغرب «الديمقراطي» فانه لا يتجاوز ان يكون بمثابة «الرأي» و «النصح» وليس الالزام. التقدم في العمر يوفر للشخص تجربة مباشرة في الاوضاع من حوله. فاذا كانت سنوات الشباب قد اقنعته بان الديمقراطية الليبرالية تمثل ذروة الناتج البشري في مجال السياسة والحكم والادارة، فان التجربة تؤكد ان الواقع ليس كذلك، وان القرارات الكبرى لا تخضع للذوق الشعبي، ولا للمبادئ الاخلاقية والقيمية التي تؤمن بها نخب محدودة الوجود والتأثير.
وما الموقف الغربي ازاء ثورات الربيع العربي الا مصداق لمقولات «المصلحة» و «الانتهازية» و «المبادئ النسبية». فقد رفض الغربيون دعم حركات التغيير في اي من البلدان، وانتظر حسم المواجهات الاحتجاجية ليعلن دعمه للانظمة القائمة، وامداد بعضها بالخبرات الأمنية التي تحتاجها لقمع الشعوب الناهضة.
هذا مع علم الغربيين ان تدخلات الغرب ضد قوى الاستقلال والتحرر انما يؤدي لتصاعد ظواهر التطرف والإرهاب، بسب حالات اليأس الكامنة في نفوس الجيل الحاضر من ابناء الامة. الغربيون ليسوا اوفياء لمبادئهم، وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان ومبادئها يتم التعامل معها بنسبية مقززة وانتقائية مؤلمة، وروح مصلحية رخيصة. وبعد ربع قرن على المقولات التاريخية للمفكر الأمريكي، من اصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، يمكن القول ان تلك المقولات قد استنفدت اغراضها وان الغرب انقلب على مبادئه، واصبح عليه دفع ثمن ذلك، خسارة في الارواح، وانتشارا للإرهاب ومجموعاته، واستشراء الفقر في اوساط شعوبه.

٭ كاتب بحريني

الغرب يضرب «الديمقراطية الليبرالية»

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد/المغرب:

    الغرب يسعى لمصالحه الاقتصادية ولوبي صناعة السلاح في الغرب هو المهيمن على حكومات الغرب وكل عام يستفيد الغرب من بيع اسلحة للدول المتخلفة بمآت المليارت من الدولارات وسيتحمل الغرب الهجرات والارهاب طالما ان علاقته بالاستبداد في العالم العربي والاسلامي لها مردود أكثر

إشترك في قائمتنا البريدية