يستعمل الناسُ التّشابيه في كلامهم اليوميّ غير طالبين تحسينا ولا تَطْلِية، وإنّما لحاجة إليه في الكلام وفي التّفكير أصْلا. للتشبيه حكاية أقدم من الحكاية التي رواها البلاغيّون القدامى عربا وحتّى الفلاسفة من قبلهم من أنّه صنعة أدبية وشعريّة بالأساس أدخلها الشعراء ليوضّحوا المعاني ويجمّلوها ويوسّعوا نطاق دلالة الكَلِم.
اعتبر أرسطوالذي إليه يعود أقدم الكلام في الموضوع أنّ الاستعارة أو التشبيه تغيير دلالي يطرأ على معنى الكلمة الأصلي فـ(أسد) في قولنا: (زيْدٌ كالأسد) لم تعد تفيد دلالتها على الحيوان المعروف، بل دلّت على صفة يتحلّى بها البشر وهي الشجاعة والإقدام لكن على وجه السليقة. والبلاغيّون الذين اعتبروا التشبيه والاستعارة في بابين مختلفين أضافوا بالتأكيد إلى هذه الأفكار أشياء أخرى ذات صلة بالتصوير وبلاغته وبتحسين الكلام وتوشيته؛ لكنْ فهم الناس من بعدهم أنّ الكلام من دون تشبيه هو كلام أجرد أو في ثوب هَلْهَلٍ وأنّ التشبيه والاستعارة وغيرهما ليسا من شأن المتكلّم العاديّ ولا من صفات الكلام اليوميّ وأنّه حتى لو وُجِد فيه شيء من التشبيه فلن يكون تشبيها فيه بلاغة، بل رَكَاكَةٌ وبَلاَدَة. ونحن سنبيّن لاحقا وبشيء من الاختصار والتبسيط كيف أنّ الدراسات الغربيّة بداية من ثمانينيات القرن العشرين أرادت أن تثبت عكس ما استقرّ في أذهان النّاس دهورا من هذه الحقائق.
في كتاب «Metaphors we live by» الذي ترجمه عبد المجيد جحفة تحت عنوان «الاستعارات التي نحيا بها» بيّن مؤلّفاه جورج لايكوف أستاذ اللسانيات العرفانية في الجامعات الأمريكية، ومواطنه مارك جنسن أستاذ الفنون في قسم الفلسفة أنّ الاستعارات (والتشابيه بالتالي) لا ترتبط بالقول الرّفيع، بل تتواتر أكثر في الكلام اليوميّ؛ وهي ليست ظاهرة كلام بل آليّة من آليّات تفكيرنا: بمعنى أنّ كلامنا ليس هو الاستعاريّ بل أذهاننا. فنحن حين نرى زيدا بطلا كالأسد فإنّنا ما رأيناه كذلك إلاّ لأنّا أدركنا حقيقة بطولته بشكل نَقَلْنَا فيه معرفتنا ببعض سمات الأسد من أنّ له هذا الضرب من البسالة وصرنا نرى بطلنا بمنظارها. إنّنا ما فعلنا غير أنّنا أسقطنا تجربة بشريّة في البطولة اللافتة والإقدام الشّديد على تجربة حيوانية في الشدّة والقوّة (بقطع النظر عن صدق تلك التجربة فالأسد مثلا ليس شجاعا كما نعتقد).
اليوم تنحو أغلب البحوث في دراسة الاستعارة والتشبيه والكناية هذا المنحى العرفانيّ الذي صارت له فروع معرفيّة وأنصار كُثْر ورافضة ناقدون مُنتجون. واليوم وبعد مُضِيّ ما يقرب من نصف قرن على هذا الانزياح الفكريّ في تاريخ التفكير الكلاسيكيّ في الاستعارة والتشبيه ما تزال الغالبية الساحقة من طلاب علم اللسان في أغلب الجامعات العربية خالية الذهن تماما من هذا المنحى في تناول الظاهرة؛ بل يبدو شقّ منها رافضا أن يعرف عنه شيئا؛ فإن كان رفضه جهلا فذاك أمر، وإنْ كان رفضه خوفا على نظريات البلاغيين العرب، فنحن نطمئنهم: لا خوف عليهم، بلاغيّينا، ولا أنتم تحزنون.
نركّز في ما بقي من هذا العرض على أمثلة تقليدية من التشبيه ندرسها من منظار المذهب التصوريّ أو العرفاني الذي يرى أنّ التشبيه لا هو مُحسِّنٌ للكلام ولا هو مقتصر على الأدبيّ منه ولا هو مقطوع عن طريقة إدراكنا للأكوان التي من حولنا ولا هو منفصل عن بنائها بناءً يراعي هذا الإدراك. وأريد أن أبدأ بسؤال بسيط: مَنْ مِنَ الشّعراء اليوم يشبّه المرأة بالبدر؟ ولماذا لم نعد في محاوراتنا اليومية – وحين نحتاج أن نركّز على جمال نسائيّ فتّان- نفكّر في أن نشبّه امرأة بالقمر؟ ولماذا لا تستسيغ ذائقتي اليوم كلاما فيه ( فلانة بدرٌ) أو(فلانّ بَحر) أو (فلان أسَد)؟ أنا لا أستسيغ هذا لأنني لم أعد أرى الجمال كما يراه أجدادي ولا الكرم كما رأوه ؛ فأنا لست منعزلا عن حياتي اليومية حين يقول العامة اليوم عن فاتنة (هي قنبلة) أو(هي مصيبة) أو(هي كارثة).
ما هو موقفي أنا مدرّس اللّغة العربيّة حين أقدّم في درس عن التشبيه البليغ أمثلة من نوع (فلانة بدر) ويسألني طالب بعفويّة: هل (هي قنبلة) تشبيه من هذا القبيل؟ هل أعتبر مثاله صحيحا وأقول إنّه عاميّ أم أعتبر تشبيهه بليدا رغم علمي أنّه تشبيه بليغ لأنّه في نظري يومي وعامّي والعامّة لا تحسن توشية الكلام ولا صناعة التشابيه؟ أم أعدل عن مثالي إلى مثاله لأنّه قريب من تعبيره ومن تفكيره بل ومن تعبيري اليوميّ وتفكيري؟ اعتقادي أنّ رفض المثال لأنّه عامّي يولّد غربة كئيبة بين الحياة اليومية التي يمكن أن تكون استثمارا جيدا لموادّ التعليم وبعض مقرّرات التعليم (ومنها درس البلاغة الذي نحن بصدده) التي إن لم تتجدّد ولم ترتبط بالمعيش وهنت دعائم التعليم عموما.
هل تساءلنا لماذا انتقلنا من تشبيه المرأة بالبدر إلى تشبيهها بالقنبلة وبالكارثة والمصيبة؟ ولماذا صارت الكارثة جميلة والقنبلة مستحبّة حين تدوّي أصداؤها في الروح بعد مشهد جمال نسائيّ؟ لكلّ شخص أو جماعة ثقافيّة محرّكاتها التي تهزّها. كان الرّاحلون على مطاياهم ليلا يرون البدر وهو صادق الكمال يضيء لهم دروبا موحشة أو خطرة ولا شكّ أنّ في نوره هديا وبهجة، بهجة تجعل البدر يضاف إلى العناصر المحبّبة إلى النّفوس. في لحظة تأمّل عاطفيّ فيّاض يمكن أن يَقْرِن اللّمّاح من الناس رهيف الحسّ، أكان شاعرا أم غير شاعر، بين البدر مكتملا نورا وبهاء وبُعدا ووجه نسائيّ مورّد يضيء النفس حين يُرى أو يُذكر أو حين يُتخيّل. في هذه الحالة يمكن أن يكون للون الوجه الذي يذكره المتذكّر ولترتيب عناصره ولوقعه في النفس بما هو شيء مميّز سمات مشتركة مع البدر المنير، ويمكن أن لا تكون له علاقة؛ فمن الممكن أن ينساق وراء هذا المشهد من يعشق زنجيّة فليست التجربة مع الجمال بمانعة هذا من أن يرى في حبيبته شبها ليس لها بالقمر لأنّ ملكة الخيال يمكن أن تمنحه ما حرمته الطبيعة. ليس الأمر في إسقاط تجربة على أخرى (جمال وجه المرأة على جمال البدر) مرتبطا بشروط إحاليّة تقتضي تناسبا واقعيّا بين الاثنين، بل في الأمر تفاعل حسّي إدراكيّ لا علاقة له بالضرورة بالوقائع ونحن نجد في أمثالنا العامة ما يؤيّد التجربة كقولنا: «القردُ غزالٌ في عيْن أمّه» هم يقصدون من المثل لا عين الأمّ في الواقع والعلم بل في التصوّر والحلم.
في عصر آخر وفي ثقافة أخرى تشدّنا القنابل والمصائب والكوارث أكثر ممّا يشدنا القمر؛ في كون كهذا ما حاجَة الناس إلى تجربتهم مع القمر إن غاب أو حضر؟ وفي عصر تغتال أعصابَنا أخبارُ الحروب المُسْتَعِرة في كلّ مكان وتهزّنا بعنف، لا بدّ أن تتغيّر تجاربنا مع ما يهزّ النفوس. سيكون لما يهزهزنا من الداخل وقع الكارثة والمصيبة والقنبلة حتّى لو كان ما يهزّنا جميلا كوجه حسناء في عين عاشق؛ أمّا وجه مليح في عين عاشقة فلا شكّ أنّ له صورا أخرى أقلّ عنفا أو أكثر.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة
توفيق قريرة
انت على حق يا استاذي الكريم فهكذا وصف علي بن الجهم الذي كان شاعراً ولكن أعرابيا راعيا.
الخليفة المتوكل
أنت كالكلب في حفاظك للود .. وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمتك دلواً .. من كبار الدلاْ كثير الذنوب
أدرك الخليفة أن هذا الشاعر لم ير من العالم سوى الكلاب والحمير والبعير
ولما اسكنه في قصر بين الرصافة والجسر بين الورود وظلال الأشجار والجواري الحسان
جاءه منشدا بعد عدة أشهر ..
في قصيدة من أجمل الشعر العربي
عيون المها بين الرصافة والجسر .. جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن .. سلوت ولكن زدن جمراً على جمر
شكراً للمقال سيدي…نعم البلاغة مفتاح اللغة الفصحى بالنسبة للعربية ؛ بل لا تتمّ المعرفة الصواب والفهم والتأويل والتفسيروالإعراب للغة القرآن والكتاب وللحديث الشريف لنبيّ العجم والعرب ؛ من دون فقه العلوم الثلاثة للبلاغة : البديع / البيان / المعاني.وما ورد ذكره في المقال بشأن التشبيه والاستعارة والكناية فهي من علم البيان.وعلم البيان هوباختصاريفيد كشف المعنى الواحدة بطرق مختلفة المداخل والتناول بالدلالات الحقيقة أوبالدلالات المجازية.أما ما استّجد اليوم من تشبيهات وفذلكات لفظية ( شبابية ) فهذه من لغوالقول الطائش ؛ لا من لغة تميم وهذيل وقريش.والمعوّل عليه في اللسانيات الأصل الأصيل ؛ لا المولدات المراسيل.وأودّ القول إنّ ترجمة عبارة ( الاستعارات التي نحيا بها ) ليست دقيقة بل الصواب( الاستعارات في حياتنا ).لأنّ الترجمة إلى العربية : معنى وصورة حيّة الكلم ؛ لا لفظ بندولي لمجرد الحركة ؛ يمنياً أوشمالاً حول الاسم أوالرقم ؛ والسّلام.
ذكرتني أستاذنا الفاضل بملحة رواها لنا أستاذنا توفيق بكار عن حوار بين سي محمد اليعلاوي و الروائي بشير خريف حول ” الحوار في الرواية ” .. كان سي اليعلاوي صفويا متعصبا للفصاحة العربية ينكر على سي البشير حواره العامي ..قال له الروائي :” لو كان بطلي يخرج لتوة من السجن ، صعلوك يعني و مرت قربه فتاة ، فماذا سيقول لها ؟ ..فدتك نفسي ؟! .سيقول لها ” سم الله على الدرجيّة ( وهي قلة صغيرة من خزف رقيق )!!”سي اليعلاوي :” حاول ان تبحث عن صيغة بينية تقرب المعنى ” أجابه :” لو بقي بطلي يبحث عن صيغتك ، ستمر الفتاة و لا يقول شيئا !!”
هذا قياس عود لنصف القرن الماضي ..فما بالك الآن ..شكرا سيدي على رصانة مناقشتك لرسالة صديقي و اخي محفوظ غزال