هل سيجد التونسيون وقتا للديمقراطية؟

قبل نحو ثلاث سنوات من الآن نقل التلفزيون الرسمي في تونس مشاهد لما وصفها بالوقفة الاحتجاجية التي شارك فيها عشرات المهاجرين في باريس للتعبير عن شجبهم وإدانتهم لزيارة قام بها الدكتور المنصف المرزوقي أيام كان رئيسا للدولة إلى العاصمة الفرنسية لحضور حفل توقيع كتابه الجديد «ابتكار الديمقراطية… دروس التجربة التونسية».
وكان لافتا في تقرير نشرة الاخبار أن مراسلة التلفزيون سألت واحدا من الحاضرين عن مبرر احتجاجه فرد بشيء من الغضب والحماسة «بلادنا تعيش أزمة خانقة وهذا الرجل، يجد الوقت ليكتب الكتب ويأتي ليمارس الدعاية هنا في الغرب. وانا اتساءل لماذا لم ينشر كتابه في دار نشر تونسية إن كان وطنيا بالفعل حتى يشجع الاقتصاد التونسي؟».
وبالفعل فقد وجد آخرون داخل تونس وخارجها، عدا ذلك الرجل المتحمس ومجموعته المحتجة صعوبة في فهم واستيعاب دوافع تلك الزيارة والغرض الاصلي منها. أما السبب فكان مفهوما وواضحا، فعلى خلاف ما اعتاد الناس سماعه في معظم وسائل الإعلام العربية من أن فخامته أو جلالته أو سموه غادر في حفظ الله ورعايته إلى تلك الوجهة أو غيرها تلبية لدعوة رسمية من نظيره لغرض البحث في «القضايا ذات الاهتمام المشترك»، أو انه ببساطة ذهب لقضاء أيام من الراحة والنقاهة بعد المجهود الخارق والاستثنائي الذي بذله في خدمه شعبه، كان الامر مختلفا هذه المرة واختار الرئيس أن يذهب متخففا من بدلته الرسمية ومن قيود البروتوكول للترويج لعمل فكري وادبي تولى كتابته بنفسه ولم يوكل احدا آخر للقيام به باسمه، ولا سخر أجهزة الدولة ومطابعها بعد ذلك لنشره وتوزيعه بالمجان على المريدين والانصار، مثلما كان شائعا في السابق.
أما الالتباس الذي حصل ساعتها فقد لخصه كلام المتظاهر الذي تحدث في نشرة الاخبار حين تساءل بشيء من السخرية والاستغراب عن قدرة المسؤول السامي على الجمع والتوفيق بين متطلبات منصبه الصعب والحساس الذي يستوجب تفرغا وجهدا مضنيا وخارقا وما يتصور الناس أنه ترف وفانتازيا لا تليق إلا بالشعراء والفنانين والنخب التي تعيش على كوكب اخر لا صلة له على الاطلاق بما يدور من حولهم من مشاكل وهموم وهي الكتابة. كانت منطلقات ذلك التفكير تنبع من اعتقاد رسخ في الاذهان وتحول بمرور الوقت إلى ما يشبه القناعة الثابتة بأنه من سابع المستحيلات أن تجتمع اضداد كثيرة مثل التحرر والديمقراطية بجبروت الدولة وهيبتها، أو حب الجاه والسلطة بشغف القراءة والكتابة والتأمل. وربما كانت عقود الاستبداد الطويلة هي التي جعلت الجمهور الواسع يحصر وظيفة الحكم فقط في اصدار الاوامر والتعليمات، ومهمة الحاكم في الزجر والردع واظهار «العين الحمراء « لكل المارقين والمتطاولين على الدولة، وينظر في المقابل لأعمال الفكر والفن والكتابة وكل تلك العوالم الغريبة والبعيدة عن اهتمامات البسطاء والبائسين على انها نوع من التسلية السخيفة التي تحط من هيبة المنصب وقيمة واهمية الواجبات الشاقة والجسيمة الملقاة على عاتق صاحبه وان مكانها أو مجالها الاصلي والطبيعي ليس صالونات القصور الرئاسية المترفة والمضيئة، بل بعض الغرف والمنتديات الضيقة والبسيطة والبعيدة عن رونق السلطة وبهرجها.
لكن الجزء الآخر من حالة سوء الفهم والإرباك التي رافقت تلك الزيارة كان يرجع إلى حد كبير إلى أسلوب الحكم والخصال الفردية والشخصية للرجل الذي حقق واحدا من أكبر احلامه في الوصول إلى أعلى مركز في السلطة شهورا قليلة بعد هروب عدوه اللدود الرئيس المخلوع بن علي. فلم يكن سهلا أو هينا على المنصف المرزوقي أن يغير طباعه وعاداته وينسى بسرعة وبساطة انه كان المدافع الشرس عن الحقوق والحريات، والمعارض الصلب الذي يناضل من أجل زوال الاستبداد والديكتاتورية بفكره وقلمه. وفيما غيرت الدولة قشرتها واستبدلت مظهرها الخارجي القديم ظل هو رغم كل التطورات التي حصلت في تونس وسمحت له بالوصول إلى قصر قرطاج متمردا على تقاليدها وأعرافها، ورافضا حتى ربطة العنق التي قد تذكره بانه ليس سوى عابر سبيل في دولة لم تتخلص بعد من هيمنة بورقيبة على ماضيها ومستقبلها. وربما ساعدت سلطاته المحدودة والرمزية في بعض الاحيان في ترك بعض الفراغ الضروري الذي سمح له بأن يمارس هواية الكتابة العزيزة على قلبه. لكن ما ليس معروفا حتى الان هو ما إذا كان المرزوقي قادرا في وضع آخر يكون فيه متمتعا بسلطات اكبر على الحفاظ على الامرين معا، شغفه بالكتابة واشتغاله بالحكم؟ وهل أنه سيظل على موقفه المتأرجح والغامض بعض الشيء من تجربة بلده في الانتقال الديمقراطي التي يعدها الكثيرون نادرة وفريدة في محيطها الإقليمي؟
لقد قال قبل ايام في لقاء اعلامي عقده بمقر حزبه الجديد إن» الربيع العربي أجهض في دول المنطقة مثلما أجهض في تونس ولكن بأكثر نعومة… وان الاهداف التي قامت من أجلها الثورة وهي تركيز نظام ديمقراطي وتحقيق التنمية لم تتحقق بعد اكثر من خمس سنوات على قيام الثورة التونسية». واضاف أن «تونس ليست بلدا ديمقراطيا وأن دخول المال الفاسد والإعلام الفاسد جعل العملية الديمقراطية مغشوشة والديمقراطية هشة وغير مرتبطة بالواقع الاجتماعي». واذا ما نظرنا إلى مثل تلك الاستنتاجات بعيدا عن كونها ردود فعل غاضبة وانفعالية واعتبرناها تنبع فعلا وبالاساس من مقاربة موضوعية وحقيقية للواقع المحلي فانها سوف تعني بالنهاية أن «الابتكار الديمقراطي» و «دروس التجربة التونسية» التي تحدث عنها الرئيس الاسبق ايام حكمه كانت اشبه بسراب وأوهام لم يعد قادرا على الاستمرار في تصديقها وقبولها بعد أن صدمه اكتشاف لم يخطر على البال، وهو أن الديمقراطية التونسية التي كان يعتز بها ويفاخر لم تكن سوى نسخة مقلدة ومغشوشة مثل معظم البضاعة الصينية التي غزت العالم. والسبب الاول والمباشر الذي جعله يفتح عينيه على تلك الحقيقة المرة ويراها بوضوح بشكلها الطبيعي وبلا مساحيق هو أن تلك النسخة الرديئة لم تسمح له بتحقيق هدف الدخول مرة ثانية إلى قصر قرطاج بعد فشله في الانتخابات في ما منحت خصومه وأعداء الثورة في المقابل مفاتيح السلطة وأعادتهم أكثر قوة ونفوذا من السابق. أليست تلك اشبه بالمقايضة العجيبة والمجنونة التي نناصر فيها الديمقراطية متى كانت توافق أهواءنا ومصالحنا ونلعنها ونهجوها ونكفر بها متى خالفت طموحاتنا واحلامنا الشخصية؟
الأخطر في الموضوع هو أن تلك الرؤية تزيد من توسيع الهوة الشاسعة اصلا بين الناس والديمقراطية وتفاقم من شكوكهم حول الجدوى الحقيقية من وجودها مادامت تعني بنظرهم فقط صراعا حامي الوطيس على مواقع السلطة لا يخصهم ولا يعنيهم في شيء. إنهم يلهثون محبطين ويائسين وراء لقمة عيش يزداد الوصول لها صعوبة وتعقيدا. ومثلما استغرب البعض منهم قبل ثلاث سنوات من الان أن يجد الرئيس وقتا للكتابة فيما بلاده تعيش «أزمة خانقة» سوف يكون من الصعب على السياسيين في تونس ألا يستغربوا بدورهم من عدم وجود أجيال تجد الوقت للوعي بالديمقراطية والاهتمام بها ثم الدفاع عنها، مادام الهم الاكبر للسواد الاعظم من الجمهور صار إشباع البطون أولا واخيرا وبكل السبل والاساليب.
كاتب وصحافي من تونس

هل سيجد التونسيون وقتا للديمقراطية؟

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية