تقول الأسطورة إن العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية الدافئة بدأت مع الرئيس هاري ترومان، الذي راهن على أصوات الناخبين اليهود مقابل عدم وجود كتلة تصويت عربية، بينما كان قرار الاعتراف بإسرائيل عشية إعلان قيامها سنة 1948 أحد القرارات التي كانت موضوعاً للشد والجذب في إدارة ترومان. وواقع الأمر أن نحو عقدين من الزمن احتاجتهما العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية لتوصف بالدافئة، ويدلل على ذلك أن الإسرائيليين كانوا خارج الحظيرة الأمريكية بالمعنى السياسي أثناء حرب السويس 1956، فالحلف الثلاثي على مصر كان خطوة لا تحظى بالقبول الأمريكي، ولا تنسجم مع رؤية واشنطن لمنطقة الشرق الأوسط.
وحسب كتاب دينيس روس «العلاقات الأمريكية الإسرائيلية من ترومان إلى أوباما» فإن إدارة الرئيس جون كينيدي حاولت أن تتخذ موقفاً متوازناً من إسرائيل والعرب، إلا أنها وجدت نفسها عاجزة عن فهم الصراع العربي الداخلي، الذي كانت تحركه الطموحات الناصرية في تنميط الدول العربية وفقاً لنموذجه، وهو الأمر الذي أخفق في تحقيقه حتى ضمن الوحدة الاندماجية مع سوريا. عوامل كثيرة أسهمت في التقارب الأمريكي – الإسرائيلي، في مقدمتها تصاعد الحرب الباردة، وسلوك العرب بوصفهم حلفاء غير موثوقين للأمريكيين بمزاعم دائمة عن تحيز أمريكي لاسرائيل لم يكن أكثر من تعبير عن فشل الدبلوماسية العربية في التواصل الإيجابي مع الأمريكيين، وانتهاج أسلوب تحريضي كان يتسم بالفجاجة والسطحية ضد المصالح الأمريكية، عدا بالطبع عن الأداء المتواضع والشخصي للدبلوماسية العربية، خاصة أن عدداً كبيراً من العاملين في صفوفها كانوا نتاجاً لظروف وحسابات محلية جعلتهم ينطلقون لعواصم القرار بقليل من الخبرة والمعرفة، وعوز شديد في الرؤية والفهم الشمولي.
بالمحصلة أصبحت إسرائيل الحليف الاستراتيجي والثابت للأمريكيين في منتصف الستينيات، وتقدمت واشنطن على باريس وبعض العواصم الأوروبية لتصبح راعياً حصرياً ووحيداً لأمن وسلامة دولة (إسرائيل)، ومع أن الدول العربية، وبصورة منفردة، تسابقت وتهافتت للحصول على نصيب من الحظوة الأمريكية، إلا أن كل دولة وفي غمرة اندفاعها للأحضان الأمريكية، سواء كانت تركض أو تهرول أو حتى تمضي زاحفة، أظهرت عيوباً جوهرية في أنظمتها الداخلية بما يجعلها مرشحة لوضعية (الرعية) بدون أن تكون مؤهلة لمكانة (الحليف)، وبعد الثورة الإيرانية وسقوط أسطورة شرطي الخليج وبحر العرب مع الشاه، أصبحت اسرائيل الحليف الحصري والوحيد للأمريكيين في المنطقة.
لا تركيا ولا إيران يمكنهما إزاحة اسرائيل عن مكانتها، ولا أي دولة عربية أخرى بالطبع، فالأمريكيون يدركون أن عداء قائماً من شعوب غاضبة تجاه سياستها، وتجربة ايران 1979 وأزمة الرهائن في السفارة الأمريكية تؤكد دائماً أن الرهانات الأمريكية على أي دولة عربية يجب أن تبقى محدودة ومحسوبة جيداً، وذلك يفسر بالطبع الموقف الأمريكي الذي تعامل مع الرئيس مبارك باستخفاف وانحاز لثوار التحرير بدون شروط تقريباً، وعلى جميع الأنظمة العربية أن تستحضر عبارة روبرت جيبس المتحدث باسم البيت الأبيض في مطلع فبراير 2011 التي وجهت للرئيس مبارك بكثير من الاقتضاب والحزم «الآن يعني الآن»!
كل هذه المقدمة تأتي لتدلل على أنه ليس من جديد في توقيع اسرائيل اتفاقاً يقضي بالحصول على أكبر معونة عسكرية أمريكية وبواقع 38 مليار دولار، على امتداد عشر سنوات، لتمكين اسرائيل من تحسين قدراتها الجوية الهجومية وتعزيز منظومتها الصاروخية الدفاعية، مع رفع كفاءة عمليات قواتها البرية، وبذلك ستحتفظ اسرائيل باليد الطولى في المنطقة، وهو الأمر الذي يجعلها تطمئن لأي تقارب أمريكي – ايراني محتمل، مع استعدادها لأي نتائج لتسويات أو صراعات جديدة وشيكة في سوريا وعليها. المنحة الأمريكية الكبيرة تمثل حافزا للوبي الصهيوني ليدعم فرص المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في السباق الانتخابي الذي تقترب لحظته الحاسمة في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي سيدفع باحتمالية استمرار فوضى المنطقة لسنوات مقبلة، ولا يعني ذلك أن الفوضى يمكن أن تتراجع مع ترامب في حالة وصوله للرئاسة، ولكن وجوده رئيساً يفتح الباب أمام صفقات مفاجئة وانعطافات هائلة يمكن أن تجعله يحقق الانكفاء الأمريكي الذي يريده تجاه العمل على إعادة هندسة منظومة الإدارة الداخلية الأمريكية، والتفرغ للصراعات الاجتماعية والطبقية في الولايات المتحدة.
الخطوة الأمريكية تأتي بعد سنوات من الاستنزاف الناجح للحلفاء العرب في اقتناء أسلحة أمريكية مهما وصفت بالمتقدمة تبقى في المرتبة الثانية من ناحية القدرات والإمكانيات مقارنة باسرائيل، وهي أسلحة يمكن أن تستفيد منها الدول العربية في صراعات داخلية أو اقليمية، باستثناء أي حرب محتملة مع اسرائيل، وتأتي أيضاً رداً على بعض الصفقات الفرنسية والروسية التي جعلت فكرة التزود بأسلحة غير أمريكية خياراً مقبولاً في المنطقة، ولكن الاستعراضات العسكرية التي شهدتها سوريا ما زالت غير قادرة على أن تحسم توجهات سوق التسلح في المنطقة، وتجنب الأمريكيين والروس معا وضع أسلحتهم المتوفرة حول سوريا في مواجهات مباشرة سيعقد من طبيعة الحكم على الكفاءة الميدانية للأسلحة لدى الطرفين، وتبقى مسألة الخبرة التاريخية حاضرة لمصلحة الأسلحة الأمريكية على المستوى التكنولوجي، الأمر الذي من شأنه أن يحسم حرباً غير طويلة المدى، وهو الأمر المحتمل في حالة أي صراع، مهما كان مستبعداً، بين أي طرف عربي من جهة، واسرائيل من جهة أخرى.
الحروب مع ايران أو تركيا ستكون بطبيعتها حروباً طويلة، تشتمل على جبهات واسعة وممتدة، وتغذية متبادلة للثارات التاريخية، وهو ما يجعل دور السلاح متوازياً مع القدرات البشرية والقتالية للأفراد مع قدرة المؤسسات على تغذية الجبهات بالإمداد اللازم والمحافظة على معنويات العمق السكاني، ولذلك فإن الولايات المتحدة تدرك أن رهانها على اسرائيل يمثل أيضاً خياراً واضحاً ومحدداً وأقل تكلفة قياساً بالبدائل الأخرى المتاحة في هذه المنطقة المعقدة. عملياً، يتبقى عامل الأرض مهماً لدى الأمريكيين، فالسيطرة على منطقة تحتل موقعاً استراتيجياً في العالم، تتطلب القدرة على استغلال الأراضي العربية في عمليات واسعة مستقبلاً، ومنها حرب مع الصين يمكن أن تبقى محتملة على المدى البعيد، ولا تبدي الدول العربية قدرة على الممانعة تجاه تقديم الخدمات المجانية للأمريكيين، ولعلها تواصل بطريقة أو أخرى سباق المسافات الطويلة للارتماء في الحضن الأمريكي.
ما لم يعد مناسباً هو أن يتحدث أي قارئ للأوضاع العربية والإقليمية عن ضرورة الاهتمام بتطوير القدرات الدفاعية الذاتية والاستثمار في البحث العلمي ونقل التكنولوجيا وتصنيعها محلياً على الشاكلة ذاتها التي تمارسها اسرائيل، لأنه في هذه الحالة يستخف بعقول المتلقين الذين يعرفون أنه لا توجد دولة عربية واحدة لديها الإرادة أو القدرة على القيام بذلك، وعلى أقل تقدير فإنه يعيش وهماً ذاتياً عليه أن يتخلص منه قبل أن يتفاقم لمزيد من الانفصام عن الواقع.
كاتب أردني
سامح المحاريق
مقال رائع لكن أفكاره لن تطبق على الواقع لأن زعمائنا قد تعودوا على المسار الأمريكي !
ولا حول ولا قوة الا بالله