مؤامرة بالملابس الرسمية

لمن الحكم في مصر اليوم بالضبط؟ يبدو السؤال حائرا وملغزا أحيانا، ويبدو الرئيس طرفا في المعادلة، وليس ممسكا بكافة أطراف الخيوط، ولا قوة قابضة، ولا محركا وحيدا لماكينات تتصادم كثيرا، وتشتعل حرائق تناقضاتها بصفة شبه يومية.
تأمل ـ من فضلك ـ بعض ما جرى عشية زيارة الرئيس السيسي الأخيرة إلى نيويورك، لا نقصد هنا «فرح العمدة» إياه، ولا نقل إعلاميين وبرلمانيين على طائرة خاصة لرجل أعمال مقرب، ولا حشد رأس الكنيسة لأقباط مهاجرين في استقبال الرئيس، التي بدت في صورة مقايضة بدائية، ساوت رأس الدولة برأس الكنيسة، وعلى طريقة «هات وخد» بتعبير الأنبا يؤانس ضابط ارتباط الكنيسة بجهاز أمني، وقد بدت القصة كلها على قدر من الافتعال، وصورت الدولة المصرية بجلال قدرها، كما لو كانت جماعة مقابل جماعة الإخوان ومظاهراتها الخائبة، ولم يكن من جديد في هذا كله، فقد تواتر مثله في زيارات الرئيس السابقة لنيويورك، التي يحرص على الرحيل إليها كل عام في مناسبة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتصور مقابلاته هناك، كأنها غزوات وفتوحات عظيمة فريدة، وهو ما تكرر هذه المرة أيضا، وأضيفت إليها لقاءات للرئيس مع مرشحي الرئاسة الأمريكية ترامب وهيلاري، وهو ما يعد في نظر الإعلام الرسمي نصرا مبينا، فوق المتابعة المفصلة المملة لجلسات ومقابلات الرئيس، ومع كل لقاء تدق الأجراس، وتزف البشرى، كأننا حصلنا على ميداليات الذهب في دوري رؤساء الدول، مع أن مثل هذه اللقاءات يجريها كل رئيس أو ملك أو أمير أو حتى وزير خارجية يذهب إلى هناك، وقد لا تكون هذه هى القصة التي نود لفت النظر إليها، فقد جرت مفارقة أطرف، كان بطلها هو الإعلام الرسمي نفسه، الذي يصفق لمقابلات ولقاءات الرئيس، وبالتحديد في جريدة «الأهرام»، التي توصف بشبه الرسمية، ففي صباح الأحد 18 سبتمبر 2016، أي قبل ساعات من طيران الرئيس إلى مقابلاته في نيويورك، وعلى صدر الصفحة الأولى للجريدة الحكومية، ومع إحالة لتفاصيل إضافية على الصفحة الثالثة، نشرت «الأهرام» تقريرا عن «خطة القوى الخارجية لفرض حصار على مصر»، وظهر التقرير بدون اسم لمحرر بعينه، وهو ما يوحي بأن جهات «عميقة» جدا هي التي سربته، وهو ما يحدث كثيرا في الصحافة الرسمية والأمنية، ويمثل اتصالا لتقاليد فلكلورية متكررة، ربما لم تعد تلفت النظر، أو تدفع للتوقف عند سطورها وكلماتها الواردة من المطابع السرية، لكن فقرة في التقرير الغامض بدت مدهشة، ومثيرة لألف تساؤل واستفهام عن الذي يجرى في الكواليس، وجاء نصها على النحو التالى بالحرف «تستهدف القوى الخارجية المشار إليها من تحركاتها الحالية والمستقبلية استهلاك جزء من وقت القيادة السياسية في لقاءات دبلوماسية لأسباب بروتوكولية فقط من خلال دفع مسؤولين كبار ورؤساء حكومات ومسؤولين في منظمات الأمم المتحدة ووسائل إعلام دولية وصحافيين كبار إلى طلب مقابلات (مع الرئيس)»، إلى هنا انتهى النص الإعلامي الرسمي اللافت، الذي يصور مقابلات الرئيس مع الصحافيين والمسؤولين الأجانب كمؤامرة خطيرة على مصر، بينما يضع الإعلام الرسمي نفسه لقاءات الرئيس في خانة إحباط المؤامرة، وهو ما يعكس انفصاما مفزعا في الشخصية ذاتها، فوق الإيحاءات المريبة للتقرير العجيب الغامض، الذي بدا كدش بارد يلقى على رأس برنامج مقابلات الرئيس في نيويورك، تقف وراءه جهات رسمية «عميقة»، بمقدورها أن تملي على الصحيفة شبه الرسمية ما تكتبه وتنشره وتبرزه، وبدون الكشف عن مصادر، ولا عن أسماء، اللهم إلا ما قيل في مطلع التقرير عن «معلومات موثقة حصلت عليها الأهرام «.
الواقعة على غرابتها وشذوذها، تكشف خللا ما يجري في كواليس الحكم، فهي ليست رأيا لكاتب ولا لصحافي، ولا وجهة نظر لجريدة رسمية، ليس لها رأي فيما تؤمر بنشره، وعلى صورة تقرير خبري، نشر بلا اسم لمحرر، ربما إمعانا في تأكيد طابعه الرسمي المحض، وصدوره عن جهات أمنية نافذة، بدا صدرها ضيقا حرجا بتحركات ومقابلات الرئيس السيسي، وإلى حد تصوير الانشغال بها كأنها مؤامرة على مصر، أو كأن ذهاب الرئيس إلى نيويورك، وانشغاله بلقاءات سياسية وصحافية وأممية، مما لا ترضى عنه جهات نافذة في الحكم، وهذه هي النقطة الأخطر في القصة كلها، فلا يعقل أن تكون مقابلات الرئيس ـ أي رئيس ـ نوعا من المؤامرة على بلده، وإن حرص المسربون للتقريرعلى الإيحاء بخطر المؤامرة، ربما لإثبات شيء ما، هو تسجيل اعتراض مكتوم على تصرفات الرئيس ذاتها، وتأكيد وجود جماعات ومصالح ومراكز قوة، تعارض وتخالف الرئيس، ومن داخل بنية الحكم ذاتها، ومن مواقع تملك أن تملي على الصحف الحكومية ما تكتبه، وهو ما يعني ـ ببساطة ـ وجود دوائر متناقضة في السلطة الحاكمة، وقد لا تكون تلك حقيقة جديدة، ربما الجديد في الكشف عنها، وبهذه الدرجة من السفور والتحدي، وإلى حد الاستنكار العلني لمقابلات الرئيس الكثيرة، والإيحاء الخفي الظاهر بوقوع الرئيس في ورطة المقابلات، وهو ما لا يحتمل إلا واحدا من تفسيرين، كلاهما وارد، الأول أن تكون الجهات التي سربت التقرير معارضة وضائقة بالرئيس نفسه، ولا تريد له أن يمارس دوره باعتراف دولي وإقليمي متسع، ولا إطلاق يده في التصرف كما يريد ويرى، وهو ما قد يرد في سياق رغبة ترمي إلى تقييد سلطة الرئيس، ووضعها تحت وصاية، قد تكون قابلة للفهم أكثر مع التفسير الثاني التالي، وهو أن دوائر في الحكم تضيق بتضخم نفوذ الدائرة المحيطة اللصيقة بالرئيس، التي لا يأنس الرئيس إلا إليها، ويوليها أمر التدابير اليومية، بما فيها جداول اللقاءات الرسمية البروتوكولية وغيرها، وترتيبات الزيارات المهمة على طريقة الحضور السنوي لاجتماعات الأمم المتحدة، وتحديد أسماء المرافقين المفضلين، وقطع النور عن المغضوب عليهم بعد اتصال الرضا، وكما جرى هذه المرة في تواري دور ومقاولة ملياردير «سيراميكي» بعينه، ورفض السفر الدوري المعتاد لمذيع النفاق الأكثر فجاجة، الذي أوقع اسم الرئيس في مصيبة استفتاء الفشل الإلكتروني المدوي، والتهب «قفاه» من مضاعفات الحماس المفرط المفتعل لاسم الرئيس، وقد لا يكون المذيع الأمني ـ إياه ـ رقما في معادلة ذات بال، لكن المصالح التي يمثلها، ويعمل عندها، كانت رقما في دائرة الاقتراب والتأثير على الرئيس، وكانت خدماتها مطلوبة إلى وقت قريب، ويبدو أنه حان الأوان لتسريحها، وربما الانتقال بها من دائرة الغرام إلى دوائر الانتقام، ولا يبدو ذلك غريبا في ظل غموض ما يجري بالكواليس، وتوالي ظواهر المصائر الملتبسة، وكأننا بصدد «بيت أشباح» لا بيت حكم، لا تبدو عناصره مرتبة مصطفة من خلف الرئيس، بل تسري أحوال من تضارب وتصادم المصالح، خصوصا مع التداخل المرئي بين جهات أمن وجماعات بيزنس، والتدافع بالمناكب على مصالح وأدوار، وعلى التأثير المباشر في قرارات الرئيس، وقد نشأت هذه الظاهرة، وتكاثفت صورها مع النصف الثاني لثلاثين سنة من حكم المخلوع مبارك، وولد التزاوج والتداخل المدمر بين الأمن والثروة والإعلام، وفاقم التطور في مضاعفة معدلات الفساد الرسمي المحمي، وكانت جماعة البيزنس في غالبها قرينة لجهاز أمن الدولة وامبراطورية حبيب العادلي، لكن قطع الرؤوس الذي توالى في سنوات ما بعد الثورة، وزوال دور المنظم الحاكم عن المخلوع ونجله جمال مبارك، ثم صعود الجيش ودوائره إلى موقع السلطة المركزية اليومية، وامتدادات حضوره الفعال إلى بيت رئاسة السيسي، وتزايد أدوار أجهزة أمنية أعلى، وغلبتها على دور ما تبقى لجهاز أمن الدولة بعد تغيير لافتاته، كل ذلك يخلق اضطرابا في الصورة العامة، وتضاربا محسوسا في المصالح والتقارير الموضوعة على مكتب الرئيس، ومع ميل غريزي وظيفي عند الرئيس، يعطي الغلبة والأفضلية دائما لآراء وتقارير وأدوار المؤسسة التي جاء منها، ولرجاله المختارين من قلب المؤسسة، وإلى جوارها، ودبون مقدرة ملموسة على اكتساب حس سياسي واجتماعي، ولا على مد نفوذ الخلصاء إلى فضاء مدني سياسي وشعبي، ومع تربص نخبة مبارك المخلوع بالرئيس، وضيق مجال التأثير المضمون على قراراته، وهو ما يدفع قطاعات بينهم إلى التصرف على طريقة «حروب العصابات» الاقتصادية، وحرق الأرض تحت أقدام الرئيس، خاصة مع تدهور شعبيته التي كانت هائلة، وهو ما يغريهم بالسلوك المخالف من وراء الستار، وتهريب أموالهم للخارج، ومد الجسور إلى مصالح دولية وإقليمية مناوئة، وإلى جهات لا تزال مؤثرة في جهاز الدولة الإداري والأمنى، تدبرالمؤامرات بالملابس الرسمية.
كاتب مصري

مؤامرة بالملابس الرسمية

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة ! ... لابد لليل ان ينجلى:

    بمناسبة الزفة البلدى وفرح ابن العمدة التى دائماً ما تكون فى إستقبال عبفتاح فى كل سفرياتة خارج مصر !
    تتندر وسائل الإعلام والصحف العالمية على بلحة بوصفة ربما الوحيد على مدى التاريخ الذى ذهب لزيارة بلد ( رواندا) فلم يجد شخص واحد من مسؤوليها فى استقبالة فى المطار فاستقبلتة السفيرة المصرية فى رواندا واستعرضت معة حرس الشرف فى مشهد غاية فى الغرابة والبؤس والمهانة !
    ومنذ ذلك اليوم يُعَد عبفتاح الوحيد فى العالم الذى لا يذهب الى اى مكان فى العالم إلا ويصطحب الزفة البلدى والمطبلطية بتوعة معاة علشان يستقبلوة ويزفّوة !!
    تحيا مسر وتحيا البيادة

  2. يقول محمد صلاح:

    اقدم شكرى الحار الى جريدة القدس العربى على أتاحتها التعليقات لكل الاّراء

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      وأين هو رأيك يا أخ صلاح ؟
      نصيحة تعلمتها من أستاذنا سامح وهي : أرسل التعليق على أقساط ! الله يعينك
      ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

      رهيب تعليقك وردك هذا أخي العزيز داود!
      على رأي معلق الكرة الشهير يوسف سيف ، عندما يبدي اعجابه الشديد بهدف او حركة فنية ، يقول ،و الله اعلق و اصفق ، انا استعيرها منه و اقول ، اعلق …و اضحك.

      اضحك الله سنك.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية