رشيد والموت ومعنى الوطن

حجم الخط
2

إن كان هناك من لحظة أتوقف فيها كثيرا أمام الكلمة فهي لحظة الموت بما فيها من وداع وفقد وألم، ولكن كل هذا يتضاعف وفقا لظروف الموت وما يحيط به من ردود أفعال تعمق اللحظة بدلا من أن تترك المساحة لما هو جدير بالموت من حزن.نتوقف أمام تعريف الإنسان ومن هو جدير بالحزن والرثاء، ومن تنزل من أجله الأعلام ومن تسل عليه السيوف حتى في موته. 
وقفة لابد منها أمام قارب الموت الذي غرق أمام شواطئ برج رشيد- محافظة البحيرة، والذي حمل وفقا للأخبار ما يقارب 600 شخص ومات فيه 200 شخص تقريبا كل منهم أكبر من رقم وكل منهم قصة وحياة. وقفة يجب أن تختلف عن «سايبني وماشي ليه» التي قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد الكارثة، في افتتاح مشروع جديد في الإسكندرية، كلمة لا تتوافق مع الكارثة ولا مع الواقع بالدرجة نفسها التي لا يتوافق فيها حديث المشاريع الكبرى مع واقع الهجرة والأزمات المعاشة. 
تعبير يضخم الحاكم وكأنه الوطن المغادر، ولكنه في محاولة تقزيم الوطن يعترف بأنه اللحظة والمشكلة. ربما لا يرغب السيسي في الحصول على إجابة صريحة تربط سياساته باستمرار الهجرة والمعاناة التي تدفع لها، ولا أن يحدد مساحة علاقته مع من حاول الهروب، التي تسمح بمثل هذا الود في السؤال وكأنه خطاب بين أصدقاء وليس سلطة قاهرة ومواطنا مطحونا، ومؤكد أن الموت لا يتسق مع الضحكات التي تختم الحديث الهامشي عنهم وسط خيط الإنجازات الذي لا يرى ولا يريد لنا أن نرى سواه.
جاء مشهد الموت أمام ساحل رشيد معيداً لمشاهد أخرى شديدة الألم لا يفترض أن تغيب عن الذاكرة الجمعية من أجل وطن أكثر حلما وإنسانية. جاء الوداع معيداً لشريط عبارة السلام 98 وقطار الصعيد وقوارب الموت السابقة وغيرها من المشاهد التي تجمع فيها الموت مع الإهمال، والفقد مع القسوة، والحنين مع المعاناة، والخسارة البشرية مع الخسارة بكل الصور الأخرى الممكنة. كما صور تبدو على هامش بعض الكوارث وهي الصور التي تجمع بين الإلهاء، وغياب الإحساس بأن هناك كارثة وحياه تستوجب التوقف والحزن. جاءت الكارثة لتضخم المعنى السلبي لفكرة أن الحياة تستمر بعد الموت، وكأن ما حدث مجرد خبر في كوكب آخر، أو مجرد خسارة هامشية تخص أسماء غير معروفة ويجب ألا تتوقف الحياة لهم ولو للحظات قليلة، مات من لا يملك ومن لا يعرف اسمه ولم يرغب أحد في معرفة اسم الغريب ولا حياته، ولكن رغم هذا حمل البعض سلاح الكلمة وصمم على إعادة اغتيال من مات وقتل من ظل على قيد الحياة معنويا.
ورغم تعدد الجنسيات على متن القارب فقد كانت النسبة الأكبر من المصريين بما فيها عائلات تشمل زوجات وأطفالا. ولكن لأن من مات كان على متن قارب هجرة غير شرعية، كان هذا كافيا للبعض لتجاوز حزن الموت ومعنى الانسان. واختار البعض إعلان تحررهم من الوطنية الضيقة من خلال أقصر الطرق للمساواة، مؤكدين أن من مات لا يستحق الرثاء، وأهله لا يجدر بهم الحزن ويجب محاسبتهم. في حين وصل البعض لدرجة سحب صكوك الوطنية لأن «فعل» الموت بتلك الطريقة أهان الدولة وساهم في تشويه صورة الوطن. أما من لم يتصور في نفسه مكانة المتحدث الرسمى باسم المحروسة، فقد أظهر وجها أكثر وضوحا واتساقا وهو يدافع عن مكتسبات مادية – طبقية الطابع لا يفترض أن تعمم للجميع في «الوطن» الذي يملكونه، في كلمات تؤكد أن من يتجاوز وضعه ويحلم بوضع أفضل عليه ألا يتجاوز حدود الحلم وألا يضعنا في مواجهة واقعنا المؤلم، أو كما علق مذيع يوما على خبر انتحار سائق في لوحة إعلانات على الطريق منددا بمشهد المنتحر وكيف أنه اساء للأحياء وعكر صفو اليوم.
يزيد من هذا البعد الكارثي الذي تضخم بفعل السلوك الرسمي ورغبته في فصل الجماهير عن الأزمات وعدم ربطها بالسياسات القائمة والنظام الحاكم قضية أنا والآخر، أو الشعب والشعب. وضعية تتجاوز الفصيل السياسي كما قدمت بعد فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي وتتعمق لتأكيد أن الخلاص فردي، ولتأكيد حالة التمييز بين من يملك ومن لا يملك، ومن هو معروف ومن هو مجرد إنسان بدرجة مواطن. لا يتوقف الجميع امام تفاصيل الكارثة وما تحمله من دلائل، ولا يتوقف البعض حتى أمام الملامح وما تحمله من تشابه، ولا أمام فكرة الانسان وما تعبر عنه الكارثة من مأساة إنسانية. تجاوز البعض كل هذا وتم تقليص القضية في أنه سلوك فرد غير مسؤول وأن من يحاول الخروج من جنة الأوطان لا يلوم إلا نفسه بمنطق حديث السيسي نفسه عن عالم المشروعات الذي لا يتوقف للمحاسبة.
يحمل البعض الآخر صكوكا دينية تسمح بتصنيف من مات أو حاول الهجرة، ويرى البعض أن فعل الهجرة لا يختلف عن الانتحار في ظل المخاطر التي تحيط به. وبعيدا عن مناقشة قضية الهجرة غير الشرعية نفسها ومحاولات النظم في الدول الطاردة تقديم نفسها بوصفها قادرة على ضبط الهجرة للدول الجاذبة من أجل المساعدات المالية التي توجه لإجراءات أمنية الطابع بدلا من أن تتجه للتنمية وتحسين ظروف المعيشة، بعيدا عن كل هذا يتم تناسي نقطة مهمة أحيانا في هذا الجدل وهي أن من مات لم يكن ساعيا إلى الموت. من مات كان هاربا إلى الحياة، أو هاربا من حياة لا تشبه الحياة. كان وضعه من القسوة أو حلمه من القوة التي تتضاءل معهما المخاطر وتتحول لعقبات لا تقتل الحلم. وربما كان وضعهم أكثر قسوة بمراحل من تصور من ينظر عنهم لدرجة تدفعهم لمخاطرة أن فكر فيها عدد منا لن يجرؤ على القيام بها. نعم ربما كانت أمامه حالات «ناجحة» استطاعت الهجرة وتحقيق بعض الأحلام  «البسيطة» خاصة حلم السكن وتوفير احتياجات الأسرة المباشرة أو الممتدة، لكنها تظل أساسيات إنسانية لا يمكن توفيرها لقطاع لا يمكن تهميشه في «الوطن» بما يعني أن المخاطرة مستمرة ما دام الحلم ومادامت عوامل الطرد قائمة وتتصاعد.
بالمقابل طرح البعض قضية أحسن من بعض دول الجوار التي يستند إليها النظام لتسويق نفسه للنقاش، كيف يهاجر المصري وأسرته معه؟ ما الذي دفعه إلى الرغبة في مثل هذا الخلاص إن كان وضعه أفضل من كل تلك الدول؟ ولماذا اختلف هذا السلوك عن هجرات أخرى كان الفرد يسافر منفردا من أجل تحسين وضعه؟ لماذا ضاقت مصر على بعض أهلها لتلك الدرجة التي لا يستطيع فيها تحمل تكلفة السفر وإبقاء أسرته في الداخل؟ أو هل فقد الأمل في أن تكون له حياة في «الوطن»؟
كان السيسي قبل الكارثة يتحدث في الأمم المتحدة عن ملايين اللاجئين المقيمين في مصر والأعباء التي تتحملها الدولة من أجل «توفير سبل الحياة الكريمة لهم»، في الوقت الذي يفر فيه مصريون بأسرهم للبحث عن «الحياة الكريمة»! ومن الواضح أن التعبير له عدة تعريفات لدى النظام تماما كما يحمل تعريف الانسان عدة تعريفات لا تعمم، تجعل القارب الذي يحمل أجانب أكثر أهمية من القارب الذي يحمل مصريين، والأجنبي الذي يقتل أكثر أهمية من مئات المصريين، والدولة التي يتحدث رئيسها عنها بوصفها «أشباه دولة» وترتفع مكانتها في الاحصاءات الدولية السلبية، ترى أن محاولة الهجرة منها هي التي تشوه سمعتها وليس الواقع المرير الذي تعيش فيه والذي يضغط على من فيها للخروج من أجل حياة أفضل. في قصيدة «ماذا أصابك يا وطن» التي أهداها الشاعر المصري الرائع فاروق جويدة لضحايا العبارة الغارقة «سالم اكسبريس» عام 1991، حديث عن العائد الذي يغرق قبل الوصول وسط الإهمال والفساد الذي تكرر واضحا في غرق «عبارة السلام 98» عام 2006 حين أعاد نشر القصيدة لتشابه اللحظة وتكرار الفقد وظروفه. ولكن في «هذي بلاد لم تعد كبلادي» التي ألقاها أول مرة في 2008، إهداء «إلى شباب مصر الذين ابتلعتهم الأمواج على شواطئ ايطاليا وتركيا واليونان». في الحالة الأولى حديث عن الوصول وفي الثانية عن المغادرة، والرابط حديث عن الفساد وغياب العدالة الاجتماعية والحقوق والحريات والكرامة الانسانية.
في الأولى حديث «عمي فرج» الذي اضطر للهجرة للعمل ومات في العودة «وعلى يديه تطل مسبحة ويهمس في عتاب، الآن يا وطني أعود إليك، توصد في عيوني كل باب، لم ضقت يا وطني بنا». أما في الثانية فالحديث أكثر عن الوطن الطارد، الذي تغير ولم يظل منه في لحظة الوداع «غير الظلام وصورة الجلاد». أما أسباب السفر فلم تكن المرة الأولى التي يعلن عنها من مات، وعلى العكس استمر الصراخ طويلا، كما يؤكد في القصيدة الثانية «قد عشت أصرخ بينكم وأنادي، أبني قصورا من تلال رمادي، أهفو لأرض لا تساوم فرحتي، لا تستبيح كرامتي وعنادي».  كان الاشتياق واضحا للوطن في الحالتين، كان الوطن أيضا قاسيا في طرده وعدم ترحيبه، غاب الوطن في الحياة ولم يرحب بالعائد في تعبيره شديد القسوة في القصيدة الأولى «فبخلت يوما بالسكن، واليوم تبخل بالكفن». لكن ما لم يرصده جويدة هو ردود الفعل القاسية التي تضاعف الألم وتثير تساؤلات أكثر عمقا عما حدث للوطن وأهله. سؤال «ماذا أصابك يا وطن» عابر للحظة التي طرح فيها ولابد من طرحه للنقاش والبحث عن حلول قبل أن يسقط قارب الوطن أكثر وقبل أن يغرق عدد أكبر من مواطنيه ضحايا بلا سكن ولا كفن.
كاتبة مصرية

رشيد والموت ومعنى الوطن

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عفيف/امريكا:

    مقال رائع للسيده عبير ،،،،عندما يضع المصري حياته اما قارب ممكن يوصله الى اوربا او يوصله الى المقبره ،،ما يعني هذا؟ الى اي حد اذا وصل فقدان الامل للمواطن حتى يفعل هذا؟ ولا احد يسال المصري لماذا تفعل و تجازف بحياتك الى هذه الدرجه؟ ما الذي ينقصك او ما الذي تريده من بلدك و ستجده في اوربا؟ هل احد من الحكومه المصريه يسأل هذا السؤال؟
    لا اعتقد
    شكرا

  2. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة ! ... لابد لليل ان ينجلى:

    مصر بتغرق !
    رحم الله ضحايا 64 سنة من اهمال وفساد وسرقة ونهب واستعباط واستنطاع واستغفال عصابة العسكر الحرامية للمصريين ..
    شباب فى عمر الزهور فضّلوا المجازفة بحياتهم فى رحلة محفوفة بكل انواع المخاطر على الحياة فى جنة بلحة المزعومة!
    فضلوا المجازفة بالموت غرقاً على انتظار تخاريف بلحة بالتنمية المستدامة سنة 2063 عندما يكون كل شاب منهم قد وصل الى مرحلة النضوج ، يعنى يكون كل واحد منهم يكون فى اوج قوتة وعنفوانة وهو على مشارف 85 ربيعاً علشان يقدر يتجوز ويفتح بيت ويكون اسرة !
    وبعدين يقولهم انتم سايبينا ورايحين فين ؟! ماشى ومزّعل اهلك لية ؟!
    قال يعنى مش عارف لية ؟!
    ربنا يفضحك يابلحة ويضحّك عليك خلقة كمان وكمان !!
    “والدولة التي يتحدث رئيسها عنها بوصفها «أشباه دولة» وترتفع مكانتها في الاحصاءات الدولية السلبية، ترى أن محاولة الهجرة منها هي التي تشوه سمعتها وليس الواقع المرير الذي تعيش فيه والذي يضغط على من فيها للخروج من أجل حياة أفضل”
    العبارة السابقة التى جاءت فى المقال ( بعد التحفظ على كلمة رئيسها ) غاية فى التعبير عن الواقع المخزى والمزرى الذى نعيشة فى مصر منذ إغتصاب العسكر للسلطة سنة 52 والى الآن!
    وتحيا مسر وتحيا البيادة !

إشترك في قائمتنا البريدية