مشروع أنور عبد الملك وجهود خير الدين حسيب

تعاني القارة العربية من فراغ قاتل؛ سياسي وفكري وقيادي، وهو ما دعانا لإحياء سِيَر ومشروعات علماء ومفكرين معاصرين؛ لعلها تساهم في إستعادة روح العمل المشترك والوحدة الوطنية، فيتمكن العرب من مواجهة «الشرق الأوسط الكبير» أو الجديد.. ونتعرف اليوم على كل من:
10- أنور عبد الملك (1924 – 2012م).. الدكتور أنور عبد الملك من مواليد القاهرة لأب وفدي قاد منظمة اليد السوداء إبان ثورة 1919.. وشجعه الأب على دراسة التاريخ والجغرافيا واللغات؛ لكنه رحل وهو ابن الثامنة من العمر، ورعاه عمه فؤاد، وكان فنانا ومؤسسا لجمعية الفنون الجميلة، وتعود أن يذهب به إلى المتاحف والمسارح والحفلات. فنشأ محبا للفنون، وأقبل عبد الملك على دراسة الفلسفة في جامعة عين شمس مطلع خمسينيات القرن الماضي. وتأثر بالمفكر الماركسي شهدي عطية الشافعي.
وأورد موقع «المعرفة» الألكتروني أنه التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، وتحت ضغط الملاحقة ترك مصر إلى فرنسا، ودرس فيها الفلسفة والاجتماع، وحصل على أول دكتوراه في علم الاجتماع، وكانت الدكتوراه الثانية في الآداب من جامعة السوربون، وصدرت ترجمتها العربية؛ بعنوان نهضة مصر. وشغل نفسه كثيرا بالأحداث الداخلية المصرية بعد تموز/يوليو 1952.
عمل عبد الملك بعدد من الصحف والمجلات المصرية من عام 1950 إلى 1959.. ثم باحثا مساعدا بالمركز القومي للبحوث ومشاركا ومديرا من عام 1960 إلى عام 1990. ومن باريس أصدر كتابه الأول عن نهضة مصر.. وحاز الكتاب إعجاب عبد الناصر، وتوالت كتاباته عن مصر والعرب. وعُين أستاذا بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي 1960 ثم مديرا للبحوث عام 1970. وأستاذا للاجتماع والسياسة بكلية العلاقات الدولية جامعة ريتسومـِيْ كان، كيوتو باليابان، ومستشارا للشؤون الآسيوية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بالقاهرة، ومديرا فخريا بالمركز القومي للبحث العلمي بباريس، وعضو اللجنة التنفيذية للإتحاد العالمي لعلم الاجتماع، ونائبا للرئيس فيما بين 1970 و1978، ومدير مشروع بجامعة الأمم المتحدة من 1976 إلى 1986، وعضوا مراسلا بالأكاديمية الأوروبية للفنون والعلوم والآداب.
ويبرز مشروع عبد الملك الفكري الخصوصية والهوية، ويراهما شرطين لتماسك الأمة العربية والعالم الإسلامي، ورفض العولمة وتحفظ على العلاقة مع الغرب؛ وقد دعا للانفتاح على الشرق. فلم يكن من أنصار الهيمنة الثقافية الغربية. وذلك دعاه لمراجعة المفاهيم الليبرالية والماركسية الغربية حول الدولة والأمة والقومية، وتأثير كفاح الشعوب في تصديها للغرب الاستعماري على هذه المفاهيم.
يرى عبد الملك أن العالم يعيش مرحلة انتقالية تقوم على المقاومة، وتشكل عالم «ما بعد القطبية»، ويضم 190 دولة قومية؛ عانت طويلا من التبعية الاستعمارية، وصارت قوى التفكيك أقوى من عناصر التماسك، وتنبأ بالتوتر بين روسيا والغرب، ويدعو للتقارب مع القوى الكبرى الصاعدة؛ روسيا والصين، والاهتمام بالتجمعات والمنظمات الإقليمية، وأطلق عليها «الدوائر الجيو- ثقافية»؛ مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة أسيان لدول جنوب شرق آسيا، واتحاد أمم أمريكا اللاتينية، والاتحاد الأوروبي، والحد من تغول الولايات المتحدة والدولة الصهيونية في منطقة الشرق الأوسط.
ومن رأيه أن تحرك الجيش المصري في 1952 عكس حراكا اجتماعيا سياسيا طويل الأمد، بجانب الأهمية الكبرى التي أولاها للمساحة المشتركة والواسعة التي تربط الحضارة العربية الإسلامية بحضارات الشرق الآسيوية، وتقتضي عودة روح باندونغ. وفي ذلك ما يعزز المشروع العربي والإقليمي المأمول، الذي يواجه الزحف الصهيو أمريكي للتدمير والتقسيم. وخلص إلى أن الخصوصية تزيد الوطن قوة، وتؤدي للتوحيد والتجانس والألفة بين أبنائه، وتُحصنهم ضد محاولات طمس هويتهم الثقافية والحضارية.
وارتابت جماعات شيوعية فيه؛ بعد رسالته لعبد الناصر؛ يؤيد فيها المصالحة بين اليسار والثورة، واتهمته بالتنظير للاتحاد الاشتراكي العربي. وربطت بين دوره الخارجي وما يقوم به محمد حسنين هيكل داخليا، واستشهدت بكتابه المجتمع المصري والجيش؛ المترجم في بيروت بعنوان: «مصر.. مجتمع يبنيه العسكريون»..
وفي شتاء 2002 كنت أحضر ورشة عمل عن العولمة والعمل العربي المشترك بمعهد العالم العربي بباريس، وجاءتني الزميلة الصحافية الراحلة درية عوني (صحافية فرنسية من أصل مصري) تبلغني بانتظار الدكتور أنور عبد الملك لي بالطابق الأرضي للمعهد.. وذهبت إليه، واستقبلني ببشاشة؛ مبديا الاهتمام بما أكتب.. وابتسم؛ ستُتَّهم مثلي بسبب المعلومات التي تنشرها.. وكنت وقتها في ذروة الانفراد بأدق المعلومات عن التوريث، وكانت تثير حفيظة أجهزة الأمن، وحنق الرئاسة، وغضب العائلة الحاكمة، وسخط «الرئيس الموازي»!!.
11 ـ خير الدين حسيب (1929 ـ ….) الدكتور خير الدين حسيب قومي عربي من الموصل، وعاش في كنف جده لوالده، الذي توفي. ولم يكن حسيب قد انهى دراسته الثانوية، فتأثرت موارد عائلته الموسرة، فباعت ممتلكاتها. واضطر للعمل أثناء الدراسة، ونال شهادته الجامعية عام 1954، وتابع دراساته العليا بـمدرسة الاقتصاد بلندن، وحصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج في المالية العامة.
وخلال عمله انتقل إلى قسم التفتيش الإداري بوزارة الداخلية العراقية، واحتل الترتيب الأول على دفعته. وفي لندن شارك في الجمعيات الطلابية العربية، ووصل إلى نائب رئيس «رابطة الطلاب العرب» في بريطانيا. واختار موضوع «تقدير الدخل القومي في العراق»؛ لرسالة الدكتوراه، وتطلّبت دراسة ميدانية أعادته إلى العراق عام 1957. ويقول أنه تأثَّر بمستوى الفقر الشديد في منطقة الأهوار، فتغيرت نظرته للحياة، وبدأ توجهه التقدمي. وحين توقّف أمام عنوان كتاب يوسف الصايغ «الخبز مع الكرامة» اختاره شعارا لـ«مركز دراسات الوحدة العربية»، الذي أسسه في بيروت فيما بعد.
ولما كان قد ذهب لإكمال دراسته في بريطانيا على حساب وزراة النفط؛ كان ممن عادوا ليحلّوا مكان الموظفين الأجانب، فرأس «شعبة الإحصاء والأبحاث» بشركة النفط العراقية، وكان البت في الشؤون المالية يصدر من لندن، وطلب من وزير النفط نقله إلى جامعة بغداد. وعين عام 1961 مديراً عاماً لاتحاد الصناعة، وعاصر التشريعات الاشتراكية، وصدور «قانون تأميم البنوك» وتعديل قانون ضريبة الدخل والتركات، وتولي منصب «محافظ المصرف المركزي».
وعاش حسيب تطورات سياسية بالغة الدقة؛ أودت بنوري السعيد وأنهت النظام الملكي عام 1958، وفاقمت صراعات البعثيين والشيوعيين والقوميين، والمعادين لمصر وعبد الناصر، وأشار لمقابلته بالرجل الثاني في السفارة المصرية ببغداد يوم 13 تموز/يوليو 1964، ومطالبته بإبلاغ عبد الناصر بالتشريعات الاشتراكية التي تُعلن في اليوم التالي، وكان قد وافق على منح مصر قرضا حين كان محافظا للمصرف المركزي العراقي. وتصدى للشركات الأجنبية المسيطرة على النفط والكبريت والثروات المعدنية، وحارب الفساد. ودخل السجن عام 1968، وتحمل التعذيب بصلابته وجَلَده المعروف.
وفي مقال له قبيل أيام من ثورة يناير 2011 في مصر كتب: «لقد تكوّن وجداني، منذ ما يزيد على ستين عاما، على الآمال العظيمة: الامل في رؤية الامة العربية موحدة، الامل في ترشيد المشروع القومي نحو المزيد من المضمون الديمقراطي، الامل في بناء كتلة تاريخية تجمع القوى الحية في الامة على مشروع اجتماعي ـ سياسي مشترك، الامل في بناء مشروع نهضوي جامع، الامل في كسب معركة التقدم ضد الاحتلال والتجزئة والتبعية والاستغلال واللامساواة، الامل في انتشار العلم والثقافة وازدهار البحث العلمي».. وكرس سنوات طويلة من حياته لمركز دراسات الوحدة العربية ولمؤسسات أخرى، وشغله هَم انشاء جامعة مستقلة للدراسات الاجتماعية والإنسانية ببيروت، وبدأ الاستعداد لإنشاء جامعة ذات طابع عربي؛ تعد الخبراء والقادة والمفكرين.
ولا يمكن ذكر خير الدين حسيب دون تثمين دوره في تأسيس «المؤتمر القومي العربي» عام 1990،. وهو يضم الآن قرابة 800 عضو من المثقفين والكتاب والمفكرين؛ بينهم رؤساء دول وحكومات ووزراء ونواب سابقون.. وعلى مدى عشر سنوات تمكن المؤتمر من صياغة مشروع نهضوي عربي؛ كخطوة متقدمة على طريق مشروع عربي يواجه المشروع الصهيو أمريكي الذي قطع شوطا كبيرا في تدمير وتقسيم المنطقة.. وساهم حسيب في إنشاء المؤتمر القومي الإسلامي وتأسيس المنظمة العربية للترجمة والمنظمة العربية لمكافحة الفساد.!!

٭ كاتب من مصر

مشروع أنور عبد الملك وجهود خير الدين حسيب

محمد عبد الحكم دياب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فاطمة كمال مصر:

    أستاذ محمد أتابع حضرتك عن النماذج التي من الممكن الاقتداء بها في استعادة روح العمل المشترك والوحدة الوطنية , اسمح لي أبدي بعض الملاحظات , هل كل أكاديمي تتوفر فيه شروط القيادة ؟ بالتأكيد لا , منذ 2011 سقطت الكثير من النماذج التي كنا نرى لها أراء وبحوث ورؤية كنا نظن أن فيها النجاة , ولذلك أقول لحضرتك ليست شهادة الدكتوراة أو كثرة البحوث هي المنقذ لما نحن فيه , المنقذ لما نحن فيه وجود أشخاص تتوافر فيهم شروط قيادة الناس ولديهم من العلم والمصداقية ما يمكنهم من اقناع الناس بأفكارهم , صدمت حين قرأت أن المؤتمر القومي العربي وهو يضم 800 عضو من المثقفين والأدباء والمفكرين تمكن من صياغة مشروع نهضوي عربي !! ماهذا ؟ مشروع على الورق , بعد عشر سنين تغير الناس وتغيرت الخرائط وتغيرت السياسات ! التغيير يأتي من أشخاص لديهم رؤية تعمل وتتفاعل مع الناس .

إشترك في قائمتنا البريدية