انقلاب لم يشعر به التونسيون

كان العنوان صادما ومستفزا، لكنه ظهر فقط على بعض المعلقات التي انتشرت في الشوارع القريبة من قاعة فندق فخم جرت فيه اشغال ندوة عقدها مرصد شاهد لمراقبة الانتخابات في تونس في العاشر من اغسطس الماضي.
ولم يكن غريبا أن يتساءل يومها بعض من حضرها من الناشطين والإعلاميين عما اذا كانت هناك بالفعل «بوادر للانقلاب على خيار اللامركزية في إدارة الشأن المحلي» مثلما جاء في عنوان الندوة؟ أم أن الامر لا يعدو أن يكون مجرد مبالغة مجازية غير مقصودة سقط فيها المنظمون. وبالطبع كان الامر واضحا ومحسوما منذ البداية في اذهان المشرفين على المرصد. ولم تتردد رئيسته في أن ترجع تلك التحذيرات الصادمة وغير المسبوقة إلى امرين اثنين، وهما أن «مشاريع القوانين التي تهم الديمقراطية المحلية والتشاركية» التي ما تزال حبيسة الأدراج والرفوف أعدت على يد من وصفتهم ببارونات الادارة لاجل غاية وحيدة وهي الاستمرار في «مركزة القرار والسلطة» فضلا عن غياب أي ارادة لتنظيم الانتخابات البلدية في الاجال المحددة، بسبب عدم جاهزية الاحزاب السياسية واستعدادها للاستحقاق الانتخابي كما قالت.
ورغم أن ليلى بحرية دعت في تصريحات اعلامية على هامش الجلسة كافة مكونات المجتمع المدني إلى التحرك بهدف ضمان مبدأ اللامركزية في مشروع القانون الجديد المتعلق بالجماعات المحلية وجعل المواطنين شركاء كاملين في اخذ القرار. واعتبرت أن تنظيم الانتخابات المحلية هو «مسألة عاجلة تقتضيها المرحلة ولكن ليس بأي ثمن»، فإنها كانت تدرك أيضا أن تعبئة الرأي العام للدفاع عن تلك القضية ليس بالامر الهين، مثلما أن اقناع السلطة واحزاب الموالاة والمعارضة على حد سواء بالتفريط بسهولة وعن طيب خاطر في ارث ثقيل من المركزية المفرطة لا يبدو امرا منطقيا وقابلا للتحقيق السريع على ارض الواقع. أما عقدة الحل والربط فبقيت على حالها وهي الفهم الخاطئ والمغلوط للديمقراطية وتعدد الاختلافات والتصورات حول أهدافها، ثم ضعف استعداد الدولة وقابليتها لتقديم التنازلات الضرورية والمطلوبة لانجاحها. والواضح أن التونسيين الذين افلتوا بأعجوبة من قبضة استبداد مخملي لم يبذل معظمهم اي جهد للخلاص منه، وقعوا بعد ذلك ضحية حالة هستيريا جنونية أنستهم أن التحرر النسبي الذي حصلوا عليه لم يكن اعلانا رسميا ونهائيا بفتح ابواب الجنة في وجوههم. إن تلك الهستيريا جعلتهم لا يصبرون على الديمقراطية ويرونها في الاخير صراع ديكة محموما وقتالا عنيفا بين اصحاب النفوذ والسطوة من اجل الوصول إلى كرسي السلطة في قرطاج أو القصبة، وهو الامر الذي لا يعني السواد الاعظم منهم لا من قريب ولا من بعيد. ما دفعهم نحو ذلك الاعتقاد هو أن التجارب المحدودة والقصيرة التي مروا بها في السنوات الاخيرة عمقت هوة سحيقة بينهم وبين رجال السياسة، وقوت من مظاهر العزلة والانفصام بين ما يصفه البعض بالنجاح السياسي الباهر وما يعتقد اخرون انه فشل انساني وتنموي ذريع. وهذا جعل الجمهور الواسع لا يصدق معظم ما يقوله نواب البرلمان وما يصرح به الوزراء وكبار المسؤولين على شاشات التلفزيون، في الوقت الذي لا يرى فيه اي أثر فعلي لكلامهم ومواقفهم على الحياة داخل المدن والقرى والاحياء التي يعيشون فيها.
لقد ذهل ذلك الجمهور حين سمع رئيس اول حكومة يعرفها بلده بعد بن علي يقول قبل اربع سنوات من الان بعد أن زار حيا شعبيا في العاصمة ووقف على هول وفداحة الاوساخ والقاذورات التي غطته «ما أراه ليس في تونس. هذه ليست تونس الثورة» قبل أن يضيف «كلنا مسؤولون عن هذه الاوضاع حتى المواطن الذي اصبح غير مبال». ثم تعمقت حيرته وزادت هواجسه حين نقل التلفزيون الرسمي تساؤل المسؤول الرفيع الغاضب والشهير في الزيارة ذاتها «اين الحكومة»؟.
لقد كان الناس يتصورون انهم باختيارهم لممثليهم في البرلمان ولرئيس دولتهم سوف يطوون الصفحة السوداء نهائيا ويفتحون الطريق امام احلام بسيطة لخصها شعار «خبز حرية كرامة وطنية» لتتحول إلى حقيقة يلمسها الناس ويشعرون بوجودها وأنه بمجرد أن تتغير الوجوه قليلا اعلى هرم السلطة فانه سيكون سهلا وبسيطا أن يلحق التغيير قاعدتها. ولكنهم صدموا بعد ذلك حين اكتشفوا أن الصعوبة الحقيقية لم تكن ابدا في ازاحة الرئيس وبعض اركان نظامه، بل في التخلص ممن كانوا يتصورونها هوامش واطراف لا حول لها ولا قوة أو تأثير من دون وجوده. ما حصل هو أن بن علي غاب عن الصورة ودخل طي التاريخ فيما بقيت اثاره وبصماته حاضرة بقوة لا فقط داخل المعاقل التقليدية المعروفة للسلطة بل حتى في المحليات والبلديات والقرى النائية والبعيدة. والمفارقة هنا أن انظار الناس ظلت مشدودة إلى ما يجري تحت قبة البرلمان وما يدور في قصري قرطاج والقصبة فيما كانت احوالهم تزداد سوءا مع بقاء منظومة القوانين المحلية التي تحكمهم على حالها واستمرار السياسيين في تأجيل الانتخابات البلدية واعتبارها اخر الاولويات. كانت هناك آلة اعلامية رهيبة ظلت مهمتها مقتصرة على التقاط فوران السطح وتضخيم احداث والتقليص من حجم واهمية اخرى وتنفير الناس من الديمقراطية بتقديمها كسلسلة من المصائب والكوارث والازمات التي لا تنتهي فيما كانت الحرائق تشتعل كل مرة وبشكل مفاجئ وعنيف في المحافظات الفقيرة والبعيدة عن المركز، وتنذر في أي وقت بانتفاضة أو ثورة جديدة كما يصفها المتحمسون للمجهول. لقد بقيت تجربة تونس على كف عفريت الاغتيالات والهزات السياسية والصدامات والتوترات الداخلية التي تكاد لا تتوقف. الأغرب من ذلك هو أن حالة الشلل والجمود التي سيطرت على مفاصل الدولة ظلت بنظر جزء واسع من الاعلام المحلي رجع صدى لما ظل يوصف بمأزق الحكم أو أزمة النظام السياسي الذي لم يفرز اغلبية واضحة وساحقة تستطيع أن تحكم بمفردها مثلما كان الحال لاكثر من خمسين عاما. والمفارقة هنا أن القوتين السياسيتين الاكبر في البلد، أي الاسلاميين وكتلة النظام السابق استطاعا التوصل إلى توافقات صعبة بدت للوهلة الاولى غير ممكنة ومستحيلة ولكنهما عجزا بعد ذلك عن انفاذها إلى اعماق البلد واطرافه النائية والقصية. لقد ادركا جيدا أن الامر معقد وان تنزيل ديمقراطية الفنادق والصالونات ومقاعد البرلمان الوثيرة على جهات وقرى ومحافظات معدمة ينهشها البؤس والفقر من كل جانب سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام معارك الثروة والسلطة التي ظلت حتى الان بعيدة عن عيون البسطاء والمهمشين ومقتصرة فقط على سلالات سياسية وفكرية محدودة. الامر يشبه إلى حد كبير اخراجا مفاجئا وغير مدروس للمارد النائم من قمقمه. فلا احد باستطاعته في تلك الحالة أن يتوقع ردة فعله والطريقة التي سيتصرف بها مع المحيطين به، وهل سيفرق ساعتها بين عدو وصديق. يبقي أن السؤال الاهم هنا هو هل انه باستطاعة التونسيين بعد كل تلك الصدمات التي اصابتهم وبعد سوء الفهم وحتى اليأس والقنوط من امكان حصول تغيير في حياتهم أن يقلبوا المعادلة المغلوطة التي انتجت ديمقراطية فوقية لا صلة لها على الاطلاق بشؤون قراهم ومحافظاتهم وبواديهم وينزلوا بها من علياء الحكومة والقصر والبرلمان إلى قاع الحواري والارياف والاحياء أم انهم عاجزون عن فعل ذلك لاعتبارات عدة ليس اخرها شبح الافلاس الذي يحدق بهم من كل حدب وصوب؟
قد يعني الجواب عن ذلك السؤال واحدا من امرين وهما إما أن الانقلاب الوشيك للدولة على خيار اللامركزية الذي حذر منه «مرصد شاهد» سوف يكرس النكوص والتراجع التدريجي عن التجربة، أو أن الانقلاب المعاكس والمطلوب على ذلك الوضع سوف يضع قطار الديمقراطية في تونس على سكته النهائية والصحيحة. والنتيجة في كلتا الحالتين قد تكون سيريالية وغريبة بعض الشيء وهي أن معظم التونسيين لن يشعروا على الاطلاق بفوبيا الانقلاب ما داموا لم يحسوا سابقا لا بوطئة الاستبداد ولا بمعنى وقيمة الحرية!
كاتب وصحافي من تونس

 انقلاب لم يشعر به التونسيون

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول زهرالدين عمران من تونس:

    لم تكتف المنظومة القديمة من الإفلات من المحاسبة ولو إلى حين ولكن عمدت إلى معاقبة الشّعب الذي اختار نهج الثورة بل وإلى تجريم الثورة
    والدفع بأنّ خيار الثّورة جلب إلينا الويلات والتّحسّر على أيّام المخلوع وكما أنّ الانقلاب على مسار الثّورة لازال يحمل في جعبته الكثير فإنّ
    الشّعب لم يقل كلمته الأخيرة .

إشترك في قائمتنا البريدية