يبدو أن هناك لبس قد يعود إلى خلط غير مقصود بين نماذج التنوير وقوى التغيير.. وهما وجهان مطلوبان ونحن نبحث في مشروع بديل للشرق الأوسط الكبير أو الجديد. فدور الكتاب والمفكرين والأكاديميين تنشيط العقول وتحفيز الهمم وتفجير طاقات العمل والإبداع.. وهذا زادٌ يحدد أهداف التغيير ويضبط مساراته.. وأساس اختيار هذه النماذج هو إما أن يكونوا من أصحاب الأفكار الجديدة البناءة، أو لديهم خطط للتقدم، أو يملكون تصورا للتحديث؛ حتى لو اختلفوا فيما بينهم.. وذلك بعيدا عن خلط الأدوار.. فكل ميسر لما يتقن ويجيد.. والمؤكد أن التغيير من غير ظهير تنويري ودون وعي سياسي اجتماعي يصبح خبط عشواء.. وهذه جملة اعتراضية لتجنب اللبس وسوء الفهم.. فليس المقصد خلط الأدوار.. إنما تحديدها ومعرفة طبيعتها. ورحلتنا في السطور التالية مع وجهين من وجوه قوى التنوير العربية المعاصرة وهما:
12 ـ إدوارد سعيد (1935/ 2003) وطبقا لما جاء عن سيرته على موقع «المعرفة» الالكتروني وغيره من مصادر نجد أنه من مواليد تشرين الثاني/نوفمبر 1935 في مدينة القدس، وتلقى تعليمه الثانوي في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة برنستون عام 1957م، ثم نال الماجستير عام 1960 والدكتوراه من جامعة هارفارد سنة 1964م.
عاش ادوارد سعيد معظم حياته الأكاديمية أستاذا بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، وأستاذا زائرا بين كبريات المؤسسات الأكاديمية. وأجاد العربية والانكليزية والفرنسية، وألم بالاسبانية والألمانية والإيطالية واللاتينية. ويعد إدوارد سعيد من أبرز مفكري العرب الأمريكيين؛ وهو كفلسطيني الأصل، أمريكي الجنسية. وأستاذ للغة الانكليزية والأدب المقارن؛ يُعد مفكرا مؤسسا لما عرف بدراسات ما بعد الكولونيالية.
ذاع صيت إدوارد سعيد مع صدور كتابه عن الاستشراق سنة 1978.. وربط فيه بين دراسات الاستشراق لثقافة مواطني الشرق؛ كمنتج غربي كاشف لطبيعته السياسية الامبريالية، ولذا أصبح مصدر شك. وقد توصل لذلك من سعة اطلاعه على ما وصفه بـ»الأدب الاستعماري». وأثبت في كتابه (الاستشراق) ومؤلفاته ودراساته اللاحقة قوة تأثير ذلك الأدب في النظرية السياسية والنقد الأدبي. إضافة إلى تأثيره في مجالات العلوم الإنسانية، وفي أوضاع الشرق الأوسط والمنطقة العربية، والتغيير المستمر في طرق توصيف حالهما.
وإدوارد سعيد الذي لم يشغله الهم الاستشراقي عن الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني؛ استمر صوته فاعلا ومؤثرا في مجال الدفاع عن قضيته؛ ويُصنف مفكرا شاملا؛ دائم التناول للثقافة والسياسة والفن والأدب؛ في لقاءاته ومحاضراته، ومن خلال الصحف والمجلات والكتب. ومن تجربته الشخصية، التي بدأت بمولده في القدس وسنوات حياته الأولى فيها، ومعاصرته لقيام الدولة الصهيونية، وإصراره على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وحقهم في العودة إلى أرضهم ومدنهم وقراهم، والضغط على تل أبيب لتستجيب للمطالب المشروعة لهم؛ وعول على ضغط الولايات المتحدة. واستدار إلى الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة وأدان رضوخها للابتزاز الصهيو أمريكي..
ونالت مذكراته الصادرة بعنوان خارج المكان ترحيبا حين صدرت في 1999، وكان قد بدأ كتابتها فور علمه باصابته بسرطان الدم، وحازت على أكثر من جائزة. وحصل إدوارد سعيد على مقعد في المجلس الوطني الفلسطيني. وظل نشطاً حتى رحيله في 2003. وبجانب انتقاده القوي وهجومه الشديد على الحكومتين الصهيونية والأمريكية؛ لإساءتهما وإهانتهما للفلسطينيين عارض اتفاقيات اوسلو، وانتقد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات؛ معتبرا اتفاقيات أوسلو صفقة خاسرة فلسطينيا، وهو من مؤيدي الدولة ثنائية القومية كحل للمشكلة الفلسطينية.
أسس إدوارد سعيد مع الراحل حيدر عبد الشافي ومصطفى البرغوثي وإبراهيم القاق مبادرة وطنية؛ ركزت الاهتمام على النهوض بالشخصية الفلسطينية واجبار العالم على احترامها؛ مشيدا بقدراتها السياسية والإدارية والعلمية على تحمل مسؤولية إدارة دولة المستقلة المنشودة.
13 ـ ناجي علوش (1935 ـ 2012)؛ من مواليد قرية بير زيت بالقرب من مدينة رام الله بالضفة الغربية، ومن أسرة ريفية؛ تلقى تعليمه الأولي في مدارس القرية، وحصل على الشهادة الثانوية من رام الله عام 1955.. وهو مناضل وشاعر وباحث وناقد قومي عربي راديكالي، ونقابي وقائد سياسي ثوري، ومن أنشط المنحازين لقضايا الوطن والأمة العربية؛ عمل فور تخرجه مدرسا في الأردن، وكان بجانب اطلاعه الواسع قارئا للشعر القديم وقارئا للقرآن الكريم؛ تبنى ناجي علوش الفكر القومي مبكرا. وبدأ نشاطه السياسي عضوا بحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان ذا نزوع اشتراكي، واستمر على ذلك حتى وفاته.
وبعد العمل مدرسا في الأردن لمدة سنة سافر للكويت سنة 1956، ووجد مَن تعاطف مع قناعاته القومية العربية وأفكاره الثورية بين المغتربين العرب من غير الكويتيين. وعمل في مستودعات أدوية وزارة الصحة، وانتقل للعمل في صحيفة «أضواء المدينة» الكويتية حتى عام 1964. وترك حزب البعث، وكان قد وصل إلى منصب الأمين القطري للحزب بالكويت عام 1959؛ تركه إثر خلاف ميشيل عفلق مع عبد الله الريماوي، وانتقل إلى بيروت؛ ليعمل في دار الطليعة فيما بين 1964 حتى 1969.
انتقدت مجلة الطليعة موقف الشيوعيين العرب السلبي من الوحدة العربية وتحرير فلسطين. وانضم لحركة فتح، وأصبح عضوا في المجلس الثوري للحركة. واستمر متمسكا بالثوابت الفلسطينية بالإضافة لقيادته التيار القومي العربي الثوري في فتح، وتركها بعد خلافُه مع أبو عمار ومن حوله من رموز التسوية. وتم انتخابه أمينا عاما لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين.
عاد إلى العاصمة الأردنية ومارس فيها الكتابة السياسية والأدبية أعوام 1969 و1970 و1971، وعاش في بيروت من 1971 حتى 1980، وغادرها إلى بغداد وقضى فيها نحو عام؛ ذهب بعده إلى دمشق لمواصلة عمله ونشاطه منها، وما لبث أن عاد للأردن مستأنفا نشاطه السياسي والأدبي. وقد التقيت به أول مرة في جبل الحسين بعمان وفي منطقة السلط الأردنية صيف 1969.. وتوطدت معرفتي به بعد لقائي الثاني به في دمشق عام 1982.
وكان ناجي علوش بالإضافة إلى ثقافته الرفيعة؛ دمث الخلق.. طيب المعشر.. ملتزما بأدب الحوار ولا يتجاوز في الخلاف مع الغير، وشهد له الخصوم والأصدقاء بتلك الخصال. وكان ذا روح رياضية وطبيعة ديموقراطية، إلى أن أصيب بجلطة في المخ وشلل نصفي في تشرين الثاني/نوفمبر 1997، واستمر قعيد الفراش لمدة أربعة عشر عاماً.
وحين علم، وهو على فراش المرض بموافقة أبو عمار على علاجه على نفقة منظمة التحرير الفلسطينية رفض، وهو في أشد الحاجة للعلاج. وتعرض لعدة محاولات اغتيال فاشلة، واستمر متنقلا من عاصمة عربية إلى أخرى.
وكان أثناء فترة عمله في الكويت لمدة تسع سنوات؛ يرسل معظم دخله لأهله. وتوفي في تموز/يوليو 2012 وهو لا يملك شيئا، إلا قطعة أرض ورثها عن والده في بير زيت، رغم الفرص الكثيرة التي أتيحت له.
وفي مقال للكاتب الفلسطيني زياد منى بمجلة الحرية الألكترونية (30/ 07/ 2012)؛ قال دخل ناجي علوش بوابة الخلود الفلسطينية من خلال نضاله الذي لم يعرف الملل في المجال الفكري والسياسي، بل وحتى العسكري، حيث قاد هو ورفيق دربه الراحل أبو داوود معارك الدفاع عن الحركة الوطنية الفلسطينية واللبنانية في بيروت، وخصوصاً في منطقتي القنطاري وعين المريسة.
والتاريخ سيذكر الكثير لفقيدنا، وفي مقدمة ذلك بُعدُ نظره في مسألة التنازلات للعدو، حيث وجب تذكر أنه كان أحد اثنين، لا ثالث لهما، صوتا ضد «برنامج النقاط العشر» الذي مثّل بداية العد التنازلي للحركة الوطنية الفلسطينية والتنازل المجاني للعدو في قضيتنا الوطنية/ القومية، الذي ثبت أنه تنازل لا قاع له!!.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب
مجهود تشكر عليه أستاذ محمد , نفع الله بك وبه .