عاشوراء العراق بين الإنثروبولوجيا والسياسة

أصبحت طقوس عاشوراء في العراق بكل تفاصيلها فضاء إنثروبولوجيا تتضافر فيه معطيات التاريخ والدين والسياسة عبر تراكمات طقسية امتدت لأكثر من ألف عام.
طقوس تخبو حينا وتتوهج حينا آخر تبعا للظرف السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فقد ابتدأت المناحات على استشهاد الحسين بن علي (رض) إبان سيطرة البويهيين على الخلافة العباسية في القرن الرابع الهجري، لأنهم كانوا يتبعون المذهب الشيعي، ففي عام 352هـ دشن معز الدولة البويهي طقوس المناحات وضرب الصدور والخروج بمسيرات نواح في المدن الكبرى في العراق حينذاك، واستمر تطور الطقس وتحولاته تبعا لتوجه ومزاج من تسنم سدة الحكم في العراق. يشير عدد من الباحثين الآثاريين إلى أن لمناحات عاشوراء جذر رافديني قديم، حيث ربطوها بمناحات العراقيين وطقوس الحزن الجماعي لموت الإله دموزي السومري (تموز البابلي) وقيامته، حيث أن أسطورة تموز – الإله القتيل – كان يعاد «تمثيلها» سنويًّا في احتفاء ديني طقوسي ضمن مهرجان رأس السنة البابلية، وتساهم في الاحتفال جموع من الشعب، فكان الأمر أشبه بالمناحة أو الرثاء أو المنقبة الدينية التي يتكفل كهنةُ المعبد القيام بها.
والمسرح الشعبي الذي تتم فيه إعادة تمثيل موت الإله (تموز) كثيرا ما قورن أو ربط بطقس (التشابيه) الذي يعاد فيه تمثيل معركة الطف واستشهادالامام الحسين (رض)، وهو جزء مهم من فضاء عاشوراء الفلكلوري.
طقوس عاشوراء تمتد لعشرة ايام، تبدأ في اليوم الاول من شهر محرم، وتختتم في العاشر منه وهو تاريخ استشهاد الإمام الحسين بن علي (رض)، وتتنوع فيها مفردات الطقس، فهنالك القراءة التي تمارسها امرأة تعرف بـ(الملاية) حيث تكون المستمعات من النساء وبعض الاطفال فقط، ويتم فيها سرد جوانب من قصة المعركة والنكبة التي أصابت آل البيت، وتتم القراءة بطريقة منغمة لتسهل عملية اللطم التي تقوم بها النساء، بينما تكون للرجال قراءتهم، التي تتم في الحسينيات أو المساجد، ويتولى القراءة قارئ محترف، وللقراءة الحسينية ضوابطها ومستلزماتها الادائية والكارزمية لقارئ المنبر الحسيني، حيث يقرأ القارئ فصولا من قصة معركة الطف على شكل محاضرة أو خطبة تعقبها قراءة قصائد حزينة مبكية يتفاعل معها المستمعون، كما تتم قراءة القصائد الملحنة أو الموقعة ليتم اللطم الرجالي على الصدور على إيقاعها.
وفي الفضاء الطقوسي جانب آخر مهم وهو الاكلات التي تقدم، حيث ترتبط ذكرى عاشوراء بأنواع من الأكلات تقدم لمن يحضر طقوس التعزية، وربما كانت اشهر الاكلات (الهريسة) وهي نوع من حساء الحنطة الكثيف الذي يطبخ مع اللحم طوال ليلة التاسع من محرم ليقدم صباح العاشر، كما أن بعض ايام عاشوراء تكون لها خصوصية، حيث تقدم فيها بعض المأكولات أو المشروبات، فمثلا في اليوم الثامن الذي يكون مخصصا للحزن على القاسم بن الحسن (رض)، وهو من فتيان آل البيت، الذي قدم مع عمه الإمام الحسين (رض)، وتروي حكاية المقاتل انه كان عريسا، لذلك يتم الاحتفاء بما يعرف بعرس القاسم بتقديم العصائر وبعض المعجنات، كما أن ايام عاشوراء قد تشهد تقديم الرز الابيض أو المضاف له بعض المطيبات كالزعفران والكركم وبعض التوابل حيث يغدو لونه اصفر، ويقدم مع قطع اللحم أو الدجاج المحمر، بالاضافة إلى يخنة الحمص المهروس مع كميات كبيرة من اللحم في نوع من المرق يعرف في العراق بـ (القيمة)، وكل هذه الاكلات تطبخ بكميات كبيرة ويصاحبها شعور بان طابخ الاكل وموزعه وآكله سينالون الاجر والثواب لهذه الوجبة الطقسية، بينما يعزو البعض تقديم الطعام للمعزين والنادبين واللاطمين بطقوس عاشوراء، لانهم مشغولون بواجبات الحزن على الامام الشهيد، فلا يتوفر للعوائل الوقت الكافي لتهيئة الطعام، ومن ثم اصبح ذلك جزءا من فضاء الطقس الانثروبولوجي، حيث يمثل سلوكا جمعيا معروفا في التعامل مع الاكلات الطقوسية في ثقافات العالم المختلفة.
وقد ارتبطت طقوس عاشوراء، وتحديدا مواكب التعزية في العاشر من محرم بقراءة القصائد التي تتغنى باستشهاد الامام الحسين وآل بيته (رض)، إلا أن هذا الفضاء الاحتفالي، والمشاركات الجماهيرية فتحت شهية الاحزاب السياسية في النصف الاول من القرن العشرين لادغام النشاطات السياسية في الطقس، ويشار إلى أن من بواكير الاستخدام السياسي عبر قصائد سياسية تلقى في مواكب التعزية قام بها اليسار العراقي في اربعينيات القرن الماضي، في حقبة شهدت مدا ماركسيا واسعا حتى في المدن الشيعية المقدسة ككربلاء والنجف والكاظمية، حيث يشير حنا بطاطو في كتابه عن العراق إلى أن التنظيمات الماركسية امتدت حتى دخلت بيوت مراجع شيعية مهمة في المدن المقدسة، ولم تكن أنظمة الحكم تتعرض لهذه الظاهرة بالقمع المباشر خوفا من قدسية وشعبية الطقوس، حتى منتصف السبعينيات، عندما شن نظام البعث حملة اعتقالات واسعة على حركات الاسلام السياسي الشيعي الصاعد نجمه في تلك الحقبة، وأحالت من قبض عليهم في (خان النص) إلى محكمة الثورة وتم تنفيذ أحكام الإعدام في البعض أو السجن المؤبد للبعض الآخر، لتمر بعد ذلك الطقوس في فترة من التواري أو التحديد المفروض من النظام.
ومع تلك التحديدات كان الخطاب الرسمي للدولة يتعامل مع ذكرى عاشوراء بحذر، حيث يمنح يوم العاشر من محرم في العراق عطلة رسمية في جميع دوائر الدولة، ويذاع من اذاعة بغداد واذاعة صوت الجماهير قصة (المقتل الحسيني ) في تسجيل اذاعي بات رسميا بقراءة الشيخ عبد الزهرة الكعبي، وقد سرت نكتة في الشارع العراقي إبان حملات التشدد مع طقوس عاشوراء مفادها أن الحكومة تذيع (المقتل الحسيني) في الاذاعة وتعتقل من يستمع اليه! كما أن من يمارسون طقوس طبخ وجبات عاشوراء من (الهريسة) و(القيمة) والرز كثيرا ما تعرضوا لمضايقات دوريات الامن والشرطة التي كانت تقلب القدور وتمنعهم من الطبخ، لكن ومع تقلبات السياسة المضحكة المبكية في العراق، فقد حدث في آخر عاشوراء في ظل النظام السابق الذي تصادف فيه يوم العاشر من محرم يوم 14 مارس 2003، اي قبل خمسة ايام فقط من انطلاق العمليات العسكرية لغزو العراق، وقد صدرت تعليمات من رأس الدولة لكافة المنظمات الحزبية والدوائر الرسمية بالمشاركة بطبخ الوجبات الطقسية (الهريسة والقيمة) في مقرات حزب البعث، في رسالة للشارع العراقي مفادها احترام الطقس ومطالبة الشارع المهموم بحزن طقوس عاشوراء للوقوف بوجه العدو (الصليبي) الذي يريد أن يغزو بلاد الاسلام!
وضمن الانفتاح غير المسبوق على الطقوس الحزينة في عاشوراء، وكنوع من التعويض عن سنوات من الحرمان والمنع، اصبحنا اليوم نشهد طقوسا لم تكن موجودة في الفضاء الديني والفلكلوري للحزن على استشهاد الامام الحسين (رض) وقد اختلف موقف رجال الدين الشيعة من هذه الظواهر بين رافض ومحرم لها وبين متغاض أو مشجع لها، وقد دفع عدد من العلماء ممن تصدى لهذه الطقوس الثمن غاليا، كما حدث مع المرجع الأعلى السيد ابو الحسن الاصفهاني الذي حرم طقوس ايذاء الجسد في اربعينيات القرن الماضي، فتم ذبح ابنه الكبير في حرم الحضرة العلوية في النجف وهو ساجد يصلي خلف ابيه، بينما نجد بعض العلماء يغضون البصر عن هذه الطقوس تزلفا وتقربا للشارع الشيعي، وهذا حال مجموعة كبيرة منهم، لأن حياة المرجع ونفوذه الديني والاجتماعي والاقتصادي يعتمد بشكل مباشر على مدى شعبيته بين مريديه، ولكن هنالك بعض العلماء ممن يشجعون ويتولون الاشراف على هذه الطقوس وربما كان المثال الابرز على ذلك هو آل الشيرازي في كربلاء.
ويبقى طقس عاشوراء في العراق فضاء دينيا يحضر فيه الفلكلوري والاجتماعي والانثروبولوجي بقوة، لذلك يسعى بعض العقلاء للمحافظة عليه وتنقيته من الشوائب التي تشوهه.
كاتب عراقي

 عاشوراء العراق بين الإنثروبولوجيا والسياسة

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ALI EHADJ ALGERIE:

    يشـكر الأستاذ صادق الطائي الشكر الجزيل وقــد فتح نافــذة علي الجهة الأخري لإخواننا الشيعة وما حملوا من جوانب عقيدية وجدت بـعد استشهاد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، لوقت قريب كانت مثل هذه الطقوس التي أوردها الكاتب إلا انها اندثرت غابت وضـمرت بـعد حين دون أن يعزوها أحـد أنها متـواترة منـذ وجـود الدولة الفاطميـة (بالجزائر) قبل انتقالها إلي مصر وترك البلاد لأهلها، هـذه الطقوس أو العـادات خفيفـة لـم تصل إلي ماوصـل من حـزن وعـقاب للأجســاد ، وعلي سبيل المثال كانت البيوت لاتنظف ولا تشتري أدوات التنظيف في العاشر من يوم عاشوراء، وكان الفقهاء ينفون هذه العادة عند السؤال عنها يفتون فيها أنها من البدع البعيدة عن الإسلام، أمـا القراءة التي جاء بـها الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في مؤلفاته وهو يسوق حديثه عن الشيعة والتشيع وقد طال في الحديث عن نشأة المذهب وأسباب وجوده وفي مراحل مختلفة راجعا إلي دراسات سابقة أهمها ابن خلدون ومقدمته فيعطي ( أحمد أمين) مجموعةأسباب ودواخل نفسية متتابعة قاصدا سلالة الفرس القديمة التي تـقدس الملوك وترفع بهم لدرجة الألوهية عبادة وتقديسا، ومع مرور الأجيال لازال الانطباع النفسي فيهم يتتواصل معـهم إلي أن وصلوا لأئمة آل البيت فــسدوا فيهم عقــيدةأجدادهـم القديمــة ولا زال أحمد أمين يتابع ويركزعلي عوامل نفسية بحتة يسوقها إلي التقاعس في الانتقام للسيد الحسين بعد مقتــله، وعلي إثـر النـدم الذي اشتمل علي نفوسهم وقد عيــروا بالجبن والسكوت عوضوا ذلك بالبكاء والندب لطم الوجوه وضرب الصدور، (كثيرا مانجد ذلك عند الأمهات الثكلي عند وفاة القريب والعزيزحسرة علي الفقـــيد)، هـو العـجز الذي يستولي علي النفـس البشرية إذا ماامتـنع دفــع البـلاء والـعجز في تجنبــه يـكون تعــويضه بـكاء ونحيـبا وانتـقاما مـن نـفس سادها الـيأس والإحباط هـو ذا الـشرح الذي يـواصله الأستـاذ أحمـد أمــين رحـه الله، يتـحدث عن سيـرته الذاتية في كتابـه ـ حـياتي ـ أنه زار العـراق وشاهـد طقـوس الحسينيات نـاقش علمـاء المذهب وأنـكر عليهم ظـاهرة ضـرب الأجساد، يـقول أنه تـعرض لمحاولة اعـتداء لـولا حمايـة قـام بـها عـقلاء وهـو في ضـيافتـهم ،

  2. يقول خليل ابورزق:

    مثل هذه الطقوس موجودة بشكل او آخر في ثقافات الشعوب، و لعل الهدف منه التنفيس لراحة النفس. وهناك مناسبة مسيجية مشابهة في ذكرى صلب المسيح عليه السلام
    و قد انتشرت في الخمسينيات في القرن الماضي و ما قبلها و ما بعدها ممارسات مشابهة مما يسمى حلقات الذكر و هي حلقات يؤديها الحضور واقفين و بتمايل عنيف مع هز الرأس و الجسم و ترديد مفردة حي حي.

    كما ان عامة اهل السنة كانوا يحتفون بسيرة الامام الحسين في يوم عاشوراء و يبكون لسماع الترتيل المصاحبة.
    اعتقد انها مناسبات فضفضة و تعبير عما يفيض به القلب من الحزن الشخصي و العام و خاصة في السنوات العصيبة

  3. يقول ALI EHADJ ALGERIE:

    اعــتذار : التعليق الوارد أعــلاه ظهرت عليه في أسطره الأولي بعـض النقائص في اسلوبه التركيبي إذ حررت وأنا مضطرب البال اعتبارا لقضايا شغلتني هـذا الصباح عدت عليه بالقراءة بعد عودتي إليه فلاحظت ذلك عتـذرا مسبـقا للجميـــــع .

  4. يقول سمير عادل العراقي- المانيا:

    اعتقد ان هذه الطقوس او بعضها عراقية خالصة لها امتدادات بالعراق القديم وتراثه كحال اسماء المدن العراقية والمفردات الكثيرة في لغة العراقيين الدارجة فعندما دخل العراقيين الاسلام فمنهم من اصبح مع اسلام السلطة والاخر مع اسلام المعارضة (الشيعة)اذا صح الوصف بحسب مناطق نفوذ الدولة ومعارضيها.ولهذا نرى في العراق احياء مراسيم العزاء للميت تكون باحياء اليوم الثالث والاربعين والسنة وقد تختلف احيانا بحسب المناطق.ووجود امراة تقوم بالنحي على الميت من خلال اشعار واقوال مؤثرة تدفع اهل المتوفي للبكاء واللطم على الصدور(القوالة)تستبدل في عزاء عاشور بالملاية التي تقول اشعار واحاديث في مقتل الحسين تؤدي ايضا للبكاء واللطم من الحاضرين

إشترك في قائمتنا البريدية