رواية «بريد بغداد» للكاتب التشيلي خوسيه ميغيل باراس، ينطبق عليها توصيف الرواية الاشكالية بامتياز، إذ أن حبكتها السردية تجدل من ثلاثة خطوط، حيث تدور أحداثها بين سانتياغو وبرلين وبراغ وبغداد، قام بترجمتها عن الإسبانية المترجم صالح علماني، وصدرت عن هيئة الكتاب المصرية في إطار سلسلة الجوائز 2008، وهي المرة الأولى التي ينشر فيها صالح علماني الطبعة الأولى لإحدى ترجماته في مصر بعد أن كانت قد رفضت من بعض دور النشر العراقية، بدعوى إساءة الرواية للشخصية العراقية كما أشيع!
خوسيه ميغيل باراس
القارئ العربي لم يتعرف على خوسيه ميغيل باراس، إذ أن «بريد بغداد» هي عمله الوحيد الذي تمت ترجمته إلى العربية، وأن أي معلومة عن الكاتب باللغة العربية لم تأت من تعريف المترجم بالكاتب، الذي وضعه كهامش على غلاف الرواية، وربما جاء اختيار صالح علماني لهذه الرواية تحديدا من أعمال باراس لاشتباك أجوائها بالحدث العربي، ويعرفنا صالح علماني فيقول «ولد باراس في تشيلي (1928 – 2011) ومارس الصحافة والكتابة وعمل مذيعاً في سن 18 عاما، حيث قدم برنامج «اسمعي يا تشيلي»، وصاغ أعمالاً تتغذى من تجاربه الشخصية في الحياة السياسية والصحافية، كما أسس جريدة من ورقة واحدة وكان يكتب مقالاته الساخرة فيها، ثم بدأ في نشر قصصه القصيرة، فنشر أول كتاب له بعنوان «ثرثرة» في عقد الخمسينيات. وساهم في الكتابة في صحف ومجلات محلية ودولية، وارتبط بصداقة مع بابلو نيرودا وأهم كتاب تشيلي المعاصرين له، بعد الانقلاب العسكري عام 1973 الذي قاده الجنرال بينوشيه على الرئيس المنتخب الليندي، غادر تشيلي إلى منفاه في موسكو ولم يعد إلى بلده إلا بعد سقوط الحكم الديكتاتوري عام 1989، ونشر أكثر من عشرة كتب، فبالإضافة إلى «بريد بغداد» ألف كتاب بعنوان «نيرودا» وكتاب «أحلام الرسام»، كما نال عام 2006 أهم جائزة أدبية في بلده وهي الجائزة الوطنية للأدب في تشيلي، حيث نافسته على الجائزة في ذلك العام الروائية إيزابيل الليندي.
تقنيات «بريد بغداد»
استخدم باراس في روايته «بريد بغداد» قناعا دراميا قديما – متجددا هو تقنية العثور على مخطوطة وصلت بالصدفة إلى يد صحافي قبيل انقلاب بينوشيه، ونتيجة ولع الصحافي بها فقد حملها معه في رحلة الغربة والمنافي المتعددة.
لكن باراس لعب على هذه التقنية بصيغة جديدة يمكن تشبيهها بشكل الدمية الروسية أو ماتريوشكا (بالروسية: Матрёшка) وهي عبارة عن دمية داخلها عدة دمى أخرى بأحجام متناقصة. الدمية الكبيرة تمثل في الحكاية الإطار، حكاية الصحافي/ الراوي وعلاقته بالمخطوطة في تشيلي ومكان الحدث هو سانتياغو والمنافي التي تغرب فيها الصحافي، أما الدمية الوسطى فهي تعليقات البروفيسور التشيكي جوزيف (عم زوجة هويريكو ـ الرسام التشيلي بطل الرواية) على رسائل الرسام المرسلة من بغداد، وهذه الرسائل بدورها مثلت الدمية الأصغر في لعبة الأقنعة الدرامية، فالمحور أو اللب الدرامي هو الرسائل المرسلة من قبل الرسام من بغداد في الفترة التي عاش فيها هناك (1961- 1963) . وربما كانت الأقنعة الدرامية قد نجحت لدى نشرها بالإسبانية لأنها كتبت أصلا للقارئ اللاتيني الذي لا يعرف شيئا عن العراق، والذي لم يســمع سوى بعض الأساطير السحرية عن الشرق، إلا أنها كانت سبباً في تعثرها عربياً، إذ رفضتها دور نشرعراقية بدعوى إساءتها للشخصية العراقـــية. ويبدو أن تحسس الناشرين متأت من كونها تقدم صورة غير مرغوبة لفترة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم الذي غطت الرواية مدة عامـــين من حكمه وانتهت بإعدامه عام 1963، بتهمة «خيانة الثورة»، حسب رؤية السارد.
المرجعية الاجتماعية والسياسية للرواية
لا أحد يعرف بالضبط ما الدافع الذي جعل خوسيه ميغيل باراس يتناول الموضوع العراقي مناخا لعمله «بريد بغداد»، ربما كان سحر الشرق دافعا ومحركا أساسيا في ذلك. فأنا أرى أن الرواية كانت موفقة جدا في التناول السياسي للموضوع العراقي، كما اعتقد أن هذا متأت من تعرف باراس على منفيين شيوعيين عراقيين في منفاه في موسكو والتعرف من خلالهم وبدقة على الكثير من تفاصيل السياسة في عراق الستينيات، كما أنه لعب على ربط موضوع الأقليات بشكل بارع حين ربط مصير البطل التشيلي المتحدر من أقلية المابوتشي مع مصير الأقلية الكردية في العراق، إلا أن تناول الرواية لتفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية والمعيشية جاء مخيبا للآمال، إذ أن الكاتب يتحدث عن بغداد الستينيات واصفا إياها بمدينة صحراوية في القرن التاسع عشر، وانا أعتقد أنه اعتمد في هذا الجانب على بعض كتابات الرحالة الإسبان الذين جاؤوا إلى منطقة الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر، وربما كان المرجع الأهم في هذا الخصوص هو كتاب «رحلة من سيلان إلى دمشق» لمؤلفه أدلفوا ريبا دينيرا، الذي تبدأ أحداثه عام 1869 واصفا فيه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية عبر رحلة تمتد من بومباي مرورا بالبصرة وصولا إلى بغداد، حيث يقدم الكتاب وصفاً للنهرين، وآثار بابل التي مر بـــها الرحــــالة في طريقه إلى دمشـــق، لكنه يتخذ القرار بالالتفاف ومواصلة الطريق إلى الموصل، حيث سيتعرف على مدينة نينوى التاريخية ويزور هناك عدة مناطق ومواقع أثرية آشـــورية، ومن الموصل يستكمل رحلته إلى دمشق بعد المرور بديار بكر وأورفة وقرى صغيرة، وتبدو رغــــبة الرحالة دينـــيرا واضحة بتقديم المعلومات لقارئه بنقديم صورة لسحر الشرق الذي كان يمثل نوعا من الهــــوس الاستشراقي في تلك الحقبة، حيث يصف المناطق العربــــية وكرم البدو، على الرغم من ضيق حياتهم، ويتحدث عن عاداتهم وملابسهم وطقوس عباداتهم وعن حياتهم الاجتماعية، ويمكننا تلمس الفخ الذي وقعت فيه رواية «بريد بغداد» حين نسخت تلك النظرة الاستشراقية النمطية في تناولها حياة الناس في الشرق الأوسط . ولكن تبقى هذه الرواية التي أبدعها خوسيه ميغيل باراس وبلغتها العربية التي صاغها إبداع صالح علماني رواية ساحرة من أدب أمريكا اللاتينية جديرة بالقراءة مليئة بما يمتع ويفيد.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي