ليبيا.. وجوارها

تجعل المساحة الشاسعة لليبيا، البلد مرتبطا بحدود مع ستة بلدان أفريقية وهي تونس ومصر والجزائر والسودان وتشاد والنيجر. ويرتبط الغرب الليبي بعلاقات متينة مع تونس، جذورها ضاربة في القدم، وكذا إقليم فزان الذي كان في القرن الخامس ق.م. وحتى القرن الخامس الميلادي موطن مملكة جرمة، التي كانت تدير طرق تجارة الصحراء الكبرى مع القرطاجيين، ثم بين الإمبراطورية الرومانية ودول الساحل في غرب ووسط أفريقيا.
فيما يبدو الشرق أقرب ما يكون إلى مصر، لكن ذلك لا يمنع من القول بأن لسكان الجنوب الليبي، سواء القاطنين في إقليم فزان أو في برقة ارتباطات وثيقة بساكنة النيجر وتشاد ودارفور السودانية، خاصة قبائل الطوارق والتبو. ورغم إطناب البعض في الحديث عن دور سلبي، يتم تضخيمه أحيانا، يقوم به الرئيس التشادي إدريس ديبي لزعزعة الاستقرار في الجنوب الليبي، إلا أنه يصعب على المرء أن يتصور أن يكون لتشاد والنيجر دور في ليبيا بمعزل عن فرنسا التي تعتبر هاتين الدولتين من قواعدها الخلفية، وبالتالي فإن أي تحرك لنظامي نجامينا أو نيامي في بلد عمر المختار، لن يكون بمعزل عن تدخل فرنسي في ليبيا أثبتته واقعة إسقاط مروحية ضباط الاستخبارات الفرنسية قرب بنغازي. وللإشارة فإن جزءا مهما من الجنوب الليبي كان خلال الحقبة الاستعمارية خاضعا لفرنسا، التي تجد اليوم دعما لوجستيا من تشاد إدريس ديبي في عملها العسكري والمخابراتي الذي تنجزه في الأراضي الليبية. وقد اتُهمت باريس ونجامينا من قبل أطراف موالية لجماعة فجر ليبيا بأنهما تقفان وراء الهجوم الذي شنه حفتر على الموانئ النفطية في سدرة ورأس لانوف والبريقة، خاصة مع وجود مؤشرات تدل على مشاركة قوات حركة العدل والمساواة السودانية ومحمد ديبي نجل الرئيس التشادي إدريس ديبي في العملية.
وتستعين فرنسا بخدمات إدريس ديبي في أكثر من بؤرة توتر في القارة السمراء، ويعتبر حاكم نجامينا أحد أهم رجالها في أفريقيا إلى جانب بانغو الغابون وآخرين. فقد كانت القوات التشادية في طليعة الجيوش التي استعانت بها فرنسا بداية سنة 2013 في حربها على الجماعات التكفيرية في إقليم أزواد شمال مالي وفي إخماد تمرد الطوارق على نظام باماكو، من خلال إرسال ألفي جندي شاركوا ضمن قوة أفريقية في مساعدة باريس على بسط نفوذها على هذا الإقليم ضمن عملية أطلقت عليها تسمية عملية سرفال. وفيما يتعلق بالسودان فلا يخفى على عاقل مساهمة نظامه في الإطاحة بمعمر القذافي، حتى أن وزير الخارجية الليبي الأسبق محمد الدايري أعرب في سنة 2014 خلال زيارة أداها مع رئيس حكومته عبد الله الثني إلى السودان عن تقديره لنظام الخرطوم عن دعمه لليبيا في حرب التحرير عام 2011 على حد تعبيره. ويقصد بحرب التحرير عملية الإطاحة بنظام القذافي بدعم من حلف شمال الأطلسي. كما قدم السودان في وقت سابق مبادرة للحل في ليبيا لم تلق آذانا صاغية من فرقاء ليبيين نظرا لغياب أهم صفات الوسيط في الجانب السوداني، لدى البعض، وهي الحياد، باعتبار أن نظام البشير يتهم بمساندته للطرف المسيطر على الغرب، أي فجر ليبيا والمؤتمر الوطني العام. كما أن السودان لا يمتلك قوة الجبر المتوفرة لدى الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، التي تجعلها تفرض إملاءاتها على الفرقاء حتى على أولئك الذين يعارضون توجهاتها ولا يتفقون مع رؤاها للحل.
كما أن عجز النظام السوداني في الحفاظ على وحدة أراضيه، بعد انفصال الجنوب والخشية من أن تسير دارفور على خطى جوبا والأقاليم التابعة لها، يجعله لا يتمتع بالمصداقية الكافية لدى الأطراف الليبية المتصارعة، حتى أن البعض علق على المبادرة السودانية في إبانها متسائلا، كيف يمكن لمن ساهم في تقسيم بلاده، إلى دولتين وربما ثلاث دول، أن يجمع شمل الليبيين ويقضي على تشتتهم. ويخشى أن ينتقل الصراع حول دارفور بين النظامين السوداني والتشادي إلى الأراضي الليبية ويزيد من تأزم الاوضاع.
وقد اجتمعت دول جوار ليبيا مرات عديدة منذ اندلاع الأزمة للبحث عن الحلول التي قد تدفع باتجاه الاستقرار في مرحلة أولى، ثم بناء نظام ديمقراطي حقيقي يضمن كرامة الفرد والتداول السلمي على السلطة. وتأتي تونس ومصر والجزائر في طليعة المهتمين بما يحصل في عقر دار الجار الليبي نظرا للترابط الوثيق، الفكري الثقافي والحضاري والجغرافي، بين شعوب هذه البلدان من جهة، والشعب الليبي من جهة أخرى. لذلك فإن هذه البلدان لن تعرقل على ما يبدو، وعلى المدى القريب على الأقل، أي عملية سياسية في ليبيا بسبب حاجتها إلى الأمن، وهي تدرك أن استقرار ليبيا هو استقرار لها جميعا باعتبار الانتماء إلى الإقليم المترابط ذاته، رغم الدعم المصري للبرلمان في طبرق ولعملية الكرامة التي يقودها اللواء خليفة حفتر، مقابل وقوف الطرفين التونسي والجزائري على الحياد رغم ما يطالهما من اتهامات من قبل أطراف ليبية بأنهما في صف فجر ليبيا وجماعة المؤتمر الوطني العام.
لقد مرت العلاقات التونسية الليبية بأزمات عديدة، خصوصا خلال فترة حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، الذي كان يرى في العقيد معمر القذافي شابا متحمسا ومتسرعا تنقصه الحكمة وكذا الدهاء السياسي، لكن هذه الأزمات لم تؤثر على العلاقات المتينة بين شعبي البلدين التي تجسدت خلال الفوضى التي عمت المنطقة بعد الإطاحة بنظامي بن علي والقذافي، حين وفر تونسيون من أهالي الجنوب المأوى لليبيين فارين من جحيم المعارك الطاحنة التي تشهدها بلادهم واقتسموا وإياهم المؤونة رغم قلة ذات اليد. ولعل من أهم الأزمات التي شهدتها العلاقات التونسية الليبية، ما عرف بـ»أزمة الجرف القاري»، وهو نزاع يتعلق بادعاء كل من البلدين بأحقيته باستغلال الجرف القاري القريب من سواحله والغني بالنفط. ووصل الأمر بالطرفين إلى الذهاب إلى القضاء الدولي في لاهاي لحسم المسألة، الأمر الذي خلف خيبة امل كبرى لدى الجانب التونسي بعد أن حسم الليبيون النزاع القضائي لصالحهم وتم اتهامهم بشراء الذمم، وقد علقت صحيفة فرنسية على الحادثة بالقول بأنه « لا ينازع أحد في كون النفط الليبي كان وزنه أثقل من الإسفنجات التونسية». وقد بدأت المفاوضات حول الجرف القاري بين نظامي بورقيبة والملك إدريس السنوسي منذ استقلال تونس سنة 1956، واستمرت تسع سنوات بدون نتيجة، خاصة وقد منح الجانبان رخصا للتنقيب عن النفط لشركات أجنبية.
وجاء صعود القذافي إلى الحكم سنة 1969 ليضع حدا لجميع المحادثات، وأصبحت البيانات المشتركة تتجنب الخوض في هذا الملف الشائك. وأصر حكام ليبيا الجدد على استغلال الجرف القاري بطريقة مشتركة في إطار وحدة بين البلدين تكون نواة لوحدة عربية شاملة وساندهم وحدويون تونسيون في ذلك. وتسببت بدورها اتفاقية جربة الوحدوية الفاشلة التي حصلت في سنة 1974 التي تسرع العقيد القذافي في إنجازها، وقد يكون بورقيبة رغب من خلالها في إبقاء القذافي ضمن الفضاء المغاربي بعيدا عن المشرق، في أزمة بين البلدين. ورأى كثير من المؤرخين والسياسيين أن فشل هذه الوحدة كان الدافع الرئيسي لتورط العقيد القذافي في عملية قفصة سنة 1980 التي هدف من خلالها الزعيم الليبي الراحل إلى زعزعة استقرار تونس والإطاحة بمن عارضوا معاهدة جربة الوحدوية . ولم يكن خافيا أن الوزير الأول التونسي المرحوم الهادي نويرة كان معارضا لاتفاقية جربة التي وقع عليها قائدا البلدين حين كان نويرة يؤدي زيارة إلى إيران الشاه، وحين عودته ساهم إلى جانب أطراف أخرى في إجهاض ما تم الاتفاق عليه. فكان مطلوبا رأس نويرة إقليميا، خاصة بعد رفضه طلب الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين إلغاء زيارة رئيس أركان الجيش الفرنسي إلى تونس، وعدم إدانته تدخل الطائرات الفرنسية في الصحراء الجزائرية وهو «الخليفة» المفترض لبورقيبة .وقد تسببت عملية قفصة لسنة 1980 التي تورط فيها تونسيون، تدربوا في ليبيا وفي معسكرات يرتادها فدائيون عرب في لبنان، إبان حربه الأهلية، على ارتباط بالنظام الليبي، ودخلوا التراب التونسي عبر الجزائر التي أقاموا في عاصمتها في البداية ثم انتقلوا إلى منطقة حدودية قريبة من مدينة قفصة التونسية، في الإطاحة فعلا بالوزير الأول التونسي الهادي نويرة. فقد توفي الأخير بعد فترة قصيرة من هذه الأحداث بعد أن تدهورت حالته الصحية بصورة مفاجئة. ورغم هذا التاريخ الأليم في العلاقات بين تونس وليبيا إلا أن هناك قناعة راسخة لدى التونسيين مفادها أنه لا معنى لأي نجاح سياسي قد يحصل في تونس، مادامت ليبيا ترتع في الفوضى وفي حالة من اللااستقرار. كما أنه لا معنى لجوائز وإشادات يغدق بها الخارج على التونسيين، مادامت ليبيا تكابد المشاق وغير قادرة على إيجاد معادلة الاستقرار. ويبدو من خلال تصريحات المسؤولين في القاهرة، ومن السلوك السياسي المصري تجاه الأزمة الليبية، أن مصر تدعم كذلك استقرار ليبيا، رغم تزكية برلمان طبرق ذي العلاقات المتميزة مع مصر لحكومة فائز السراج لم تحصل بعد بانتظار استيفاء جملة من الشروط. فاستمرار الأوضاع على ما هي عليه في ليبيا ليس مصلحة مصرية بالمرة، خاصة أن هناك حربا على الإرهاب يخوضها الجيش المصري في سيناء تقتضي التفرغ لتصفية الجماعات التكفيرية هناك، بعد تأمين الحدود الغربية مع ليبيا.
وتدعم الجزائر بدورها هذا التوجه الداعي إلى دعم حكومة السراج والجيش الليبي للسير نحو الاستقرار ولمقاومة الفكر التكفيري الذي انتشر في ليبيا انتشار النار في الهشيم وللحفاظ على وحدة ليبيا الترابية التي باتت على المحك.
كاتب تونسي

ليبيا.. وجوارها

ماجد البرهومي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية